يتعذر على مؤرخو العلوم تحديد بداية دقيقة لمحاولات حصر وتصنيف العلوم ضمن الحضارة العربية، تلك المحاولات التي افتتحها في القرن الرابع مؤلفون كانوا على صلة وثيقة بالثقافات العالمية كابن النديم والفارابي وأبو حيان التوحيدي، وفي السطور التالية أعرض لواحد من أوائل المصنفات الإسلامية وأكثرها أهمية في هذا الباب وهو كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي (387ه) .
الخوارزمي وكتابه
هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب الملقب بالخوارزمي الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ولد بمدينة بلخ من أعمال خوارزم التي قدمت لنا من قبل محمد بن موسى الخوارزمي (ت: 164ه) الرياضي المعروف، والمعلومات حوله شحيحة إذ لم تزد المصادر التاريخية عن ذكر ما أورده عن نفسه في مقدمة كتابه من أنه أهدى كتابه إلى الوزير أبو الحسن عبيد الله بن أبي العتبى الذي كان وزيرا من وزراء نوح الثاني السامانى (ت: 387 هـ) وهو ما يرجح أنه كان يشغل منصبا إداريا في بلاطه.
ولم يصلنا من مصنفات الخوارزمي إلا كتابه هذا، ولا ندري أترك كتبا أخرى أم لا إذ لم يشر المؤرخون الأقدمون كالمقريزي وحاجي خليفة إلا إلى كتابه هذا الذي اشتهر وذاع صيته وأنزله العرب منزلة كبيرة؛ حيث وصفه المقريزي بقوله ” هو كتاب جليل القدر” ومرد ذلك أن الخوارزمي قام بتحديد العلوم الأساسية في عصره، ووضع تحت كل علم المصطلحات الفنية المعتمدة في كل علم، وهو لم يقتصر على المصطلحات العربية وإنما ضم إليها مصطلحات أجنبية فارسية ويونانية ولاتينية الأمر الذي يرجح إلمامه بلغات أخرى إضافة إلى العربية، ولعل هذا ما يكشف لنا عن ثقافة الإداريين والكتاب خلال ذلك العهد الذي بلغت فيه العلوم الإسلامية أوج نضجها.
مفاتيح العلوم في الدوائر الاستشراقية
ليس ثمة دلائل على أن مضمون كتاب مفاتيح العلوم كان معروفا للمستشرقين قبل أن ينشر المستشرق الألماني فان فلوتن الكتاب في ليدن عام 1895م، وذلك على الرغم من أن بروكلمان قد أشار إليه قبيل ذلك في تاريخ الأدب العربي، ومع صدوره تنبهت الدوائر الاستشراقية إلى القيمة المعرفية المزدوجة للكتاب الذي يضم تقسيما منهجيا للعلوم المتداولة في عصره يغاير تقسيم الفارابي الشائع الذي يصطبغ بطبعة فلسفية واضحة من جهة، ويقدم إحصاء بالمصطلحات الفنية لكل فن ولم يسبقه لذلك أحد من جهة أخرى، وقد صار الكتاب هاديا لكتابات أخرى حذت حذوه في الاهتمام بعلم المصطلح مثل أبو حيان التوحيدي (ت: 400 ه) وله كتاب المقابسات، والسكاكي (626ه) صاحب كتاب مفتاح العلوم.
أحصى الدكتور عبد الأمير الأعسم تسعة عشر بحثا قام بها مستشرقون -جلهم ألمان- تناولت جوانب مختلفة من الكتاب خلال الفترة منذ صدور نسخة فان فلوتن وحتى نهاية العقد السادس من القرن العشرين، وهذه الجوانب هي:
- مراجعة مصطلحات كل علم من العلوم المذكورة في الكتاب.
- دراسة تقسيم العلوم الأعجمية.
- مقارنة فيلولوجية للمصطلحات غير العربية بأصولها الأعجمية.
- ترجمة الفصول المتصلة بالإرث اليوناني.
- بحث الاتجاهات الفلسفية للخوارزمي ومقارنته بالنقول اللاتينية والعبرية[1].
وإذا كان مفاتيح العلوم موضعا لدراسات استشراقية عديدة حاولت في معظمها أن تبرهن على أثر الثقافة اليونانية على الثقافة العربية خلال ذلك العهد الذي نشطت فيه حركة الترجمة، إلا أن الكتاب للأسف لم يحظ باهتمام مماثل من قبل الدارسين العرب حيث ظلت الطبعات العربية للكتاب تستند إلى طبعة فلوتن رغم ما شابها من عدم ضبط إلى أن قام المحقق إبراهيم الأبياري بنشر الكتاب محققا عام 1983 وتبعه عبد الأمير الأعسم عام 2005 الذي أعد ثبتا بالمصطلحات الواردة فيه، وعلى جانب آخر لم يصبح الكتاب موضوعا للبحث إلا في حالات جد محدودة أشهرها ما قام به الباحثان الباز العريني ويحيى الخشاب من تحقيق للألفاظ التاريخية الواردة به، ونشر بحثهما بالمجلة التاريخية المصرية عام 1958.
بنية الكتاب وموضوعاته
افتتح الخوارزمي كتابه بمقدمة وجيزة أبان فيها مقصوده من الكتاب وهي؛ جمع المصطلحات التي تواضع عليها أهل كل علم والتي خلت منها كتب اللغة على نحو يمكن الناظر فيما كتبه أهل العلوم من فهم اللفظ المراد على وجه الدقة لأن الألفاظ تتباين مدلولاتها بحسب أهل العلم، وضرب لذلك بضع أمثلة توضح اختلاف اللفظ الواحد في العلوم المختلفة، وأتى سريعا على منهجه الذي أوجزه في توخى الإيجاز وعدم التطويل، والتغاضي الغريب الشاذ من الألفاظ، وتجنب الشائع المألوف لكل الناس، وعدم التفريع والاشتقاق المفرط، ولم يشر الخوارزمي فيها عن المصادر التي استقى منها هذه المصطلحات وكيفية جمعها وانتخابها للعرض، ويرجح إبراهيم الإبياري أنه اعتمد في ذلك على مراجع شتى لغوية وفقهية وفلسفية وعروضية، كما رجع إلى ما يجري على ألسنة الكتبة والمتكلمين وغيرهم مما يكون للفظ عندهم دلالة خاصة[2].
قسم الخوارزمي كتابه تقسيما منطقيا في قسمين رئيسيين أو مقالتين وفق تعبيره، المقالة الأولى ذكر فيها العلوم العربية وما يقترن بها من علوم اللغة، والمقالة الثانية أحصى فيها العلوم الأعجمية المستفادة من الأمم الأخرى.
وهذا التقسيم الثناني يخالف تقسيم الفارابي الذي أورده في كتابه (إحصاء العلوم) حيث قسمها تقسيما خماسيا هو علم اللسان وأجزاؤه، وعلم المنطق وأجزاؤه، وعلوم التعاليم أي الرياضيات، والعلوم الطبيعية والعلوم الإلهية (الميتافيزيقا)، ثم العلم المدني وأجزاؤه مضافا له علم الفقه والكلام، وكما يبدو فإن تقسيم الخوارزمي هو تقسيم أكثر إحكاما إذ يفصل بين العلوم الشرعية واللغوية وبين علوم الفلسفية والطبيعية[3].
اشتملت المقالة الأولى على ستة أبواب، وفيها اثنان وخمسون فصلا، وهي تختص بعلوم: الفقه، والكلام، والنحو، والكتابة، والشعر والعروض، والأخبار، وبعض هذه الفصول جاءت مختزلة كما هو الحال مع فصل الصوم الذي لم يضم سوى ثلاثة مصطلحات على حين جاءت بعض الفصول وافية مثل باب علم الكلام الذي تضمن تصنيفا شاملا للفرق العقدية والمذهبية الإسلامية، وإحصاء دقيقا بالأديان السماوية والوضعية، وكذلك عبدة الأوثان وأسماء أصنامهم في الجاهلية، وعلى هذا يعد هذا الباب من أهم أبواب الكتاب.
واحتوت المقالة الثانية على تسعة أبواب فيها أحد وأربعون فصلا، وهي تتناول علوم: الفلسفة، والمنطق، والطب، وعلم العدد (الارتيماطيقي)، والهندسة، وعلم النجوم، وعلم الحيل [ وهو يتعلق بالالات والحركة ولعله علم الميكانيكا]، والكيمياء. وهذا القسم من الكتاب كان محط عناية الدارسين شرقيين وغربيين على السواء، وعلى الأخص أبواب الطب والفلك والحساب والهندسة ومرد ذلك أن الكتاب قدم معلومات وافية حول ماهية كل علم وفروعه، ولنضرب مثالا لذلك بعلم الطب الذي جاء في ثمانية فصول افتتحها بالتشريح كناية عن موقعه الحيوي بالنسبة لعلم الطب، وأتبع ذلك بالحديث عن أنواع المرض ثم الأغذية ثم أفرد الحديث عن الأدوية في أربعة فصول كاملة فذكر الأدوية المفردة ثم الأدوية المشتبهة الأسماء ثم الأدوية المركبة ثم أصناف الأدوية المعجونة.
خلاصة القول، أن كتاب مفاتيح العلوم يعد واحدا من أوائل المصنفات الموسوعية الإسلامية، وعلى أهميته لم يحظ باهتمام كافي من الدارسين العرب، ولعله من المناسب أن ينهض بعض طلاب الدراسات العليا ببحث مصطلحات الكتاب كل في مجاله على نحو يضمن استيفاء العلوم الواردة فيه بالدارسة.
[1] أنظر تصدير عبد الأمير الأعسم لكتاب مفاتيح العلوم الصادر عن دار الرشاد ببيروت عام 2005، ص 24 وما بعدها.
[2] محمد ابن أحمد بن يوسف الخوارزمي، مفاتيح العلوم، حققه وقدم له ووضع فهارسه إبراهيم الإبياري، بيروت: دار الكتاب العربي، ط2، 1989، ص 8.
[3] م. خير الله يف، مسألة تصنيف المعرفة في الشرقين الأدنى والأوسط في القرون الوسطى، من مجلة التراث العربي، العددان 4، 5 السنة الثانية، دمشق، يناير 1982، ص 193-204.