رغم أن العبقرية واحدة من أقدم المواهب الإنسانية إلا أن تعريفها والتنبؤ بظهورها، ما يزالان مسألة معقدة، فالعبقرية كلمة لا يمكن إيجاد تعريف واحد لها، ولكن يحاول الكثير من المفكرين إيجاد معنى أو تعريف قريب لها. فالشخص العبقري، هو الذي تتوافر فيه سمات خاصة مثل الطموح والثقة بالنفس والرغبة في التفوق والقدرة على التركيز الشديد وتحمل المشاق، كما أن العبقري يقدر على إحداث تغيير مبتكر في ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية أو العلمية أو الفنية أو الأدبية أو الحربية…الخ. فالعبقرية إذن تعني الذكاء في أوسع معانيه، ولكنه الذكاء المقترن بالاكتشاف والابتكار والاختراع والإبداع، أي أن العبقرية ما هي إلا نتيجة للذكاء الحاد . والعباقرة هم دائماً الرواد في التعريف بحقائق وإنجازات ثورية لم تطرق من قبل… وهم من هذه الناحية يختلفون عن العامة ممن يأنسون لأداء الأعمال بشكل روتيني مكرر!.
وقد بحث ثلاثة من كبار الفلاسفة المحدثين في العبقرية ووصلوا الى نتيجة تكاد تكون متشابهة وهي أن العبقرية خروج عن الذات وانغماس في عالم أسمى وأوسع ، وهؤلاء الفلاسفة هم شوبنهاور وبرجسون وتوينبي .
و العبقرية غير مرتبطة بعمر معين، فقد تظهر في الطفولة، وقد تتأخر إلى سن المشيب، فقد ظهر نبوغ الفيلسوف (كانت) في الستين ، وفي الثمانين كان زهير بن أبي سلمى لا يزال يبدع شعرًا.
وراثة العبقرية
يعتقد بعض المفكرين والكتاب وراثية العبقرية، ومن أشهر من ألف في ذلك فرانسس غالتن: “العبقرية الوراثية”. وقد بينت الأبحاث التي تمت في كلية الطب لجامعة واشنطن في سانت لويس أن جيناً معيناً قد يساعد على إدارة مستوى مهارتنا من أجل تنظيم الأمور بشكل منطقي، وتبين تلك الدراسات أنه حتى الأطفال الذين يتم تبنيهم وتربيتهم في بيئة بعيدة عن والديهم الأصليين، يميل مستوى ذكائهم إلى الارتباط أكثر بوالديهم الأصليين وليس المتبنين. وهذا يعزز فكرة أن الذكاء والعبقرية لهما علاقة وثيقة بالوارثة والجينات وليس البيئة فحسب.
اعتبر البروفيسور مارتي مرازيك في جامعة ألبرتا الكندية أن العبقرية تولد مع الإنسان، وهي وراثية، مشيراً إلى أن المسؤول عنها هو هورمون «التستوستيرون» الموجود في جسم الأم. وأجرى العالم الكندي الكثير من الاختبارات مع مجموعة من العلماء في جامعة ريدر الأميركية.
وقال مرازيك: «إن ارتفاع نسبة الهورمون في جسم المرأة، وانتقاله الى الأجنة أثناء فترة الحمل، واستقراره في جسم الأطفال بعد الولادة، قد يكون السبب الأساسي في نضوج العبقرية عند هؤلاء الأطفال».
والبعض الآخر يؤكد عدم وراثية العبقرية، فسقراط له أولاد غير جديرين به، وكان لشيشرون ولد غبي. وهذا توماس أديسون، أحد أعظم عباقرة العصر الحديث، قال بأن العبقرية هي “1% إلهام + 99% جهد مضنٍ”.
ورغم أن علماء النفس يتفقون على تمازج عنصري البيئة والوراثة في ظهور العبقرية؛ إلا أنهم يختلفون حول تغليب أحد العاملين… فنيتشه وجولتن مثلاً يعتقدان أن العوامل الوراثية هي حجر الأساس في ظهور العبقرية وتحديد مستواها. وقد استدلا على ذلك بحقيقة أن معظم العباقرة ظهروا في أسر وجد أن فيها عباقرة آخرين. ولكن العلماء ممن يغلبون دور البيئة المناسبة يستخدمون نفس الدليل لصالحهم ويقولون أن تلك الأسر (راقية بطبعها) وفرت لأبنائها بيئة تعليمية وأكاديمية واجتماعية استثنائية أوصلتهم لمدارج العبقرية. وفي اعتقادي أن العبقرية غير محصورة بالوراثة دون غيرها، فربما يولد الإنسان بطفرة جينية تمكنه من الإبداع في جانب معين، ولكن يبقى الإبداع والعبقرية صناعة يمكن إيجادها في أي شخص عن طريق تطوير مهاراته واستغلال قدراته وتدريبه تدريباً مكثفاً ليصل للعبقرية الاحترافية.
العبقرية و الجنون؟
لاشك بأن معظم العباقرة كانوا غريبي الأطوار لدرجة الاعتقاد بوجود علاقة بين الجنون والعبقرية. ويرى بعض الأطباء أن العبقرية نفسها نوع من الجنون الفريد لأنها تحمل نوعاً مختلفاً من التفكير والتصور، بل إن هناك من افترض أن “العقد النفسية” ضرورة للإبداع والتفوق – وبدونها يصبح العبقري سوياً مثل بقية الناس. والطريف أن كثيراً من العباقرة أنفسهم يعترفون بهذه الحقيقة. على أي حال رغم الاختلافات الكثيرة بين العباقرة إلا أن علماء النفس يعتقدون بأن “الانطواء” الجزئي ظاهرة مشتركة بينهم. فالانطوائي إنسان عاجز عن التأقلم مع مجتمعه فيحاول صنع وإبداع علم خاص به. والانطواء في هذه الحالة يعتبر صفة حميدة تتيح للعبقري الوحدة والاستقلالية وفرصة التأمل.
ولو رجعنا لسير العباقرة والمشهورين لوجدنا في حياتهم تصرفات هي أقرب للجنون منها للعقل: فهناك مثلاً الرسام الهولندي فان جوخ الذي كان يصاب بنوبات جنون حقيقية حاول في إحداها قتل زميله الفنان بول غوهان. وحين تعلق بفتاة جميلة قطع أذنه وقدمها إليها كهدية، ثم مات في النهاية منتحراً بالرصاص. أما نيتشه الفيلسوف الألماني فكان منطوياً على نفسه، يتحدث مع حصانه، يحتقر النساء، قضى آخر12 سنة من عمره في مستشفى المجانين. أما أينشتاين أحد أعظم علماء الفيزياء في العصر الحديث فقد كان عاجزاً عن فهم أصول الاتيكيت والعلاقات الاجتماعية، فكثيراً ما كان يرتدي ملابس قديمة تحتاج إلى كي في مناسبات راقية. وكان يظهر دائماً بجراح صغيرة على ذقنه بسبب استعمال صابون البانيو للحلاقة… فهذا الرجل الذي عقد أفكار الناس يعتقد أن استعمال نوعين من الصابون يجعل الدنيا معقدة.
و تشارلز ديكنز (أشهر القصاصيين الانجليز) فكان يخرج من منزله ليلاً ويسير بلا هدى لمسافات تصل لخمسة أميال في الليلة الواحدة، والأغرب من هذا أنه كان يدخل على زملائه من نوافذ منازلهم بحجة مفاجأتهم.
وكان فولتير لا يبدأ الكتابة إلا عند وضع اثني عشر قلم رصاص أمامه، وبعد أن ينتهي من الكتابة يكسر هذه الأقلام ثم يلفها بالورق ويضعها تحت وسادته حين ينام . أما نابليون فكان لا يشرع في رسم معاركه الحربية إلا وهو يمص أقراص السوس ويضع يده اليسرى على قلبه، وكان خطه رديئاً جداً لدرجة أن رسائله كثيراً ما كان يظن أنها رسوماً عسكرية.
بقي أن أشير إلى أن لهذه الظاهرة وجهاً آخر لا يجب إغفاله أو تناسيه، فغالباً ما نرغب نحن (عامة الناس) في وضع العباقرة في نمط وقالب معين يوافق افكارنا عنهم. وهذا ما يدفعنا لانتقاء الغريب والشاذ من حياتهم (فقط) ثم نعممه كقاعدة عامة عليهم. أضف لهذا أن الإبداع نفسه ظاهرة غريبة وطارئة على المجتمع، وحين يسمع به الناس لأول مرة يرفضونه تلقائية ويرتابون في صاحبه حتى يلمسوا فائدته الحقيقية، وهذا يعني أنهم ينعتون المبدع تلقائياً بالجنون – قبل تطبيق الفكرة – وبالعبقرية بعد أن تثبت صلاحيتها.
ما الفرق بين العبقرية والذكاء؟
الذكاء هو تمتع الشخص بقدرات عقليه تساعده على التحليل و التخطيط ، وحل المشاكل ، وتنسيق الأفكار، وسرعة التعلم، والتقاط اللغات.
أما العبقرية فهي تمتع الشخص بقدر كبير جداً من الذكاء ، وله القدرة علي الإبداع والتفكير في تحقيق أهداف لم تُستكشف من قبل في أي مجال.
في مقاييس الذكاء العام تعتبر الدرجة الواقعة بين 85 – 110 هي الغالبة بين معظم الناس، أما أقل من ذلك فتنحدر إلى مستوى الحمقى والمعتوهين وأكثر من ذلك الى مستوى العباقرة والمبدعين، وصولا إلى 200 درجة التي لا تتوفر إلا لشخص واحد من بين كل ستة ملايين.
وبعكس ما يظنه معظم الناس فإن الذكاء غير العبقرية – وإن كان أحد أهم عناصرها الأساسية.. فقد تصل درجة ذكاء البعض الى 200 درجة ومع ذلك لا يملكون موهبة الإبداع والابتكار، وفي المقابل قد يمتلك تلك الموهبة إنسان أمي بالكاد تصل درجة ذكائه إلى المائة درجة (…وسبق أن كتبت مقالا تساءلت فيه عن سر اختفاء أصحاب الذكاء الخارق من الأطفال الذين نقرأ عنهم بين الحين والآخر ثم لا نسمع عنهم لاحقا ولا يصلون أبدا لمستوى الابداع أو شهرة العباقرة.
ومن العلماء من يعتقد أن درجة الذكاء الواقعة بين 100 120 هي الحد الأدنى الضروري لعملية الإبداع، في حين أن الزيادة عن هذا الحد لم تقدم إضافات قوية أو حاسمة في الموضوع.. والشيء المؤكد هنا أن توفر قدر مناسب من الذكاء أمر ضروري في عملية الإبداع ، فالذكاء أحد العناصر الوراثية التي يجب توفرها في كل عبقري، ولكن عملية الإبداع ذاتها تتطلب بجانب الذكاء توفر عوامل أخرى مهمة (كالموهبة، والاهتمام، والجراءة، وأصالة التفكير، ومخالفة المعتاد) وبناء عليه يمكن القول اختصاراً: أن كل عبقري ذكي، ولكن ليس كل ذكي عبقرياً .
وقد يؤيد هذه الحقيقة التجربة (الطويلة جداً) التي قام بها عالم النفس الشهير تيرمان؛ فقد أجرى اختبارات واسعة على مجموعة كبيرة من أطفال المدارس، ثم راقب الفئة التي حصلت على درجة ذكاء مرتفع حتى تخرجوا من الجامعة ومارسوا حياتهم العملية. وفي النهاية خاب أمله حين كبروا ولم يصبح أي منهم عبقرياً بالمعنى المفهوم ، وإن كان معظمهم غدا من صفوة المجتمع الأمريكي.
وكانت عالمة النفس كاترين كوكس من جامعة ستانفورد قد قامت بدراسة شيقة لقياس درجة ذكاء ثلاثمائة عبقري مشهور بناء على ما توفر من سيرهم الذاتية. ومن النتائج التي توصلت إليها أن كثيراً من الإنجازات والابتكارات المشهورة صدرت من عباقرة، ذكاؤهم متواضع نسبياً. فكولومبس ومندل مثلاً لم تتجاوز درجة ذكائهم مستوى إنسان عادي جداً (حيث مات كولومبس وهو يعتقد أنه اكتشف الهند وتوفي مندل وهو لا يعلم أنه أسس علم الوراثة )… فشهرة الإنجاز وفائدته الكبيرة قد توحي للناس بأن مبدعه شديد الذكاء في حين قد تكون الحقيقة غير ذلك.
وفي دراسة كوكس السابقة نجد أن فارادي (وهو فيزيائي اكتشف مبدأ توليد الكهرباء واخترع الدينامو) بالكاد تجاوز ذكاءه المائة درجة رغم شهرته الكبيرة، وكذلك الحال مع كالفن، وباخ، وكوبرنكيس، ونيوتن (الذي نال 135 درجة) ، وفي المقابل هناك عباقرة شبه مجهولين نالوا درجات ذكاء عالية جداً مثل جون ستيورات ميل (200 درجة) وتوماس ما كولي (190 درجة) وجوجروسيس (180 درجة).. كما وجدت كوكس فئة ثالثة تناسبت درجة ذكائهم مع عظمة إنجازاتهم مثل العبقري الإيطالي دافنشي (الطبيب والمخترع ورسام الموناليزا) الذي تجاوز ذكاءه 200 درجة ، والفرنسي باسكال عالم الرياضيات ومخترع الحاسب اليدوي الذي حصل على 190 درجة، والأديب الألماني جوته، وصاحب النظرية النسبية أينشتاين اللذان تجاوزا 180 درجة. كل هذه المفارقات تؤكد مجددا بأن كل عبقري ذكي، ولكن ليس كل ذكي أو متفوق عبقرياً بالضرورة .