يغيب الرضا عن حياة الكثيرين، فلا هم راضون عن خِلقتهم أو أزواجهم، وكذلك غير راضين عن مأكلهم وعملهم، ناهيك عما أصابهم من تقلبات الدهر ومصائب الزمان ، حالة مقلقة تُساكن الناس وطمأنينة مهدرة ، فتفقدهم لذة الحياة، وتحرمهم المتعة وراحة البال، فيعيشون في سخط وشقاء، ولعل هيمنة الرقمية على تفاصيل الحياة، وفرضها لنماذج بعينها في نمط المعيشة والأشكال وهيئة الأجسام، دفعت الإنسان ليقارن حاله بما يراه، فتوهم أن السعادة لا تتحقق إلا إذا أصبح مثل تلك النماذج التي يشاهدها في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
تشير تقارير “الجمعية الدولية لجراحة التجميل” عن ارتفاع كبير في عدد عمليات التجميل في جميع أنحاء العالم، فوصل عددها عام 2019 حوالي (11.36) ميلون عملية، انصرفت إلى تغيير معالم الوجه والجسد للوصول إلى مواصفات يرضى عنها الشخص، وفي العام 2021 بلغ انفاق الأمريكيين على عمليات التجميل أكثر من (14.6) مليار دولار، وظهر نوع جديد من الإدمان هو “إدمان الجراحة التجميلية”، التي تكشف عن غياب رضا الشخص عن ذاته وخِلقته، ورفضه لتأثير مرور الأيام عليه، ومساعيه ليبدو في صورة صغيرة ذات نضارة وقوام ممشوق.
الثقافة ومفهوم الرضا
تلعب الثقافة دورا مهما في بناء مفهوم الرضا، وتحقيقه، فالإنسان يدرك الكثير مما يعيشه من خلال مرآته الداخلية، ومن ثم فهو الذي يعطي الإذن لتأثيرات الأحداث وتقلبات الحياة أن تخترق أعماقه، ولعل هذا ما يجعل المؤمن وغير المؤمن لا يقفان على مسافة واحدة من أقدار الحياة، وقد تناولت دراسات غربية تأثيرات القيم على مفهوم السعادة، وقارنت بين مجتمعات غربية وأخرى شرقية مثل الصين وأكدت أن ” الناس من ثقافات مختلفة يمكن أن يحملوا تفسيرات مختلفة، وبشكل ملحوظ عن الذات والآخرين والعلاقة بين الذات والآخرين في المجتمع” وهو ما ينتج اختلافا في “إدارك الذات” و”تحقيق الذات”، أي: كيف ينظر الإنسان إلى نفسه، وكيف يسعى لتحقيق هذا الإداراك في الخارج، بما يشمله من مواجهة لالعقبات والإحفاقات، وهنا يظهر دور الاعتقاد والثقافة في تحقيق السعادة والرضا
وتشير دراسات، أن غالبية الثقافات الشرقية تُقدر الانسجام بين الأشخاص ومجتمعهم، فالثقافة الصينية تشجع التضحيات لتحقيق وبناء الذات العظيمة، ومن ثم يصبح الإنجاز في هذا المضمار معيارا مهما للرضا، أما الرؤية الإسلامية فإن إرضاء الخالق سبحانه وتعالى، وفعل الخيرات، هما معايير للرضا عن الذات، أما الثقافة الغربية فإن الإنجاز والفردانية معيارا ذا أهمية للرضا، ولذلك كانت نصائح المفكرين الغربيين تذهب في هذا الاتجاه، ومنها “عليك أن تستيقظ كل صباح بتصميم إذا كنت تنوي النوم بارتياح ” و “رد الفعل الأساسي للإنسان على المتعة ليس الرضا، بل الرغبة في المزيد، ومن ثم، بغض النظر عما نحققه، فإنه يزيد فقط من شغفنا ، وليس رضانا “، وربما صاغ الكاتب ” ميتش ألبوم” Mitch Albom تلك الاختلافات الثقافية في إدراك الرضا في كتابه “قليل من الإيمان: قصة حقيقة ” Have a Little Faith: a True Story، عن أشخاص ينتمون إلى دين مختلف، ومن أعمار مختلفة، وينتمون إلى عرق مختلفة، وكيف يستخدون معتقدهم وثقافتهم في رؤية الأشياء، وأهمية الإيمان في أوقات الإنسان الصعبة، لذلك يؤكد “ألبوم” أن الكثير مما تراه اكتئابا ما هو إلا عدم رضا، وذلك نتيجة لوضع توقعات مبالغة في الحياة دون الاستعداد للعمل والتضحية من أجلها، ليخلص إلى أن “السعادة يكمن سرها في الرضا”.
ومن ثم يلعب الدين دورا مهما في الشعور بالرضا، خاصة أن المكافأة التي تعرضها غالب الأديان هي الحياة الأبدية والنعيم الدائم والسعادة اللامتناهية، مع غياب مسببات القلق والتوتر، لذلك كانت غالبية الرؤى الدينية تسكب الكثير من الطمأنينة وراحة البال على الإنسان مستخدمة الرضا كعلاج حاسم لتقلبات الحياة وصروفها.
ويوجد ارتباط بين الرضا وبين الصحة النفسية، ومقاومة الاكتئاب، فالرضا من المؤشرات المهمة في رصد اقتراب الشخص من الحالة المرضية الناجمة عن الاكتئاب، الذي يصيب أكثر من 350 مليون شخص، كما تؤكد تقارير منظمة الصحة العالمية، والذي يمثل خامس الأعباء المرضية في العالم، لذلك اهتمت كثير من الأبحاث الغربية بالرضا باعتباره مؤشر أو إنذار عن اقتراب الاكتئاب، فأخذت ترصد الرضا في الكثير من المجالات والخدمات التي تقدمها الدولة، أو الفئات العمرية المختلفة وعلاقتها بالرضا، وذهبت تلك المؤشرات أن “الرضا عن الحياة هو تقييم شخصي ومعرفي لحياة الفرد ككل بناءً على التوافق بين الأهداف والإنجازات الشخصية” ومن ثم فالرضا أحد الأبعاد الرئيسية للصحة العقلية، وخلصت أبحاث ميدانية أوروبية أن غياب الرضا عن الحياة هو أحد المعايير المستخدمة في التنبؤ بزيادة الأمراض المستعصية، والعجز في العمل، والوفيات، والانتحار، واضطربات المزاج، والإدمان، والتالي فالرضا مؤشر وقائي.
وأكدت أبحاث غربية أن وجود أصدقاء جيدين يعزز الرضا عن الحياة بنسبة 20%، وتزيد النسبة إذا كان هؤلاء الأشخاص متدينين، لأن الدين يصوغ الشخصيات بشكل متقارب يتيح قدر من التفاهم، وتزيد النسبة مع وجود جيران جيدين كذلك، كما أن امتلاك الشخص قصصا عن حياة آخرين في العطاء وقوة التحمل والنجاح في التغلب على الصعاب يزيد جرعات الرضا، ويمنح النفس والروح صلابة وقوة ، كما أن تحديد هدف وغاية كبرى في الحياة يساهم في تحقيق الرضا، وربما هذا يذكر بالرؤية الإسلامية في أهمية الصديق والجار، وأهمية السيرة النبوية وقصص الصحابة والصالحين، وكذلك عندما تكون غاية الإنسان الجنة والنعيم الأبدي، فإنه يستصغر الصعاب، وهو ما يُحقق للإنسان تدفقا مستمرا ويوميا في الانجاز والرضا، سواء بفعل الخير أو العبادات أو مساعدة الناس أو حتى بالامتناع عن الشر والمعصية، كما أن الانفتاح المستمر على التعلم وتطوير النفس والقدرات، يبعد شبح العجز والحاجة عن الشخص، ويحسن قدرته على الرضا.
الإسلام والرضا
أخذ الرضا حيزا معتبر في الرؤية الإسلامية، واعتبره علماء التربية والأخلاق درجة يصل إلى المسلم بجهد واجتهاد، وتناولوا جوانب متعددة للمفهوم، كجانب أن يرضى المسلم عن ربه، وأن يرضى بما قسمه له في معيشته، وأن يرضى بصروف الدهر وتقلباته، وأن يبتعد عن السخط والجزع مع البلايا، وكما قيل :”كن رجلا كالضرس يرسو مكانه ليمضغ لا يعنيه حلو ولا مر، واترك المسائل يجريها من يجريها”، وقالوا:” وعلامة الرضا سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات “، وقيل:” سكون القلب تحت مجاري الأحكام” وقال أبو عَلِي الدقاق: “لَيْسَ الرضا أَن لا تحس بالبلاء، إِنَّمَا الرضا أَلا تعترض عَلَى الحكم والقضاء”، لكن بعض العارفين جعلوا مقام الرضا في التزام الطاعة، وقالوا:” من أراد أَن يبلغ محل الرضا فليلزم مَا جعل اللَّه رضاه فِيهِ”
وتحدث ابن القيم الجوزية في عدد من كتبه عن الرضا ، فقال: ” الرضا باب الله الأعظم، ومستراح العابدين، وجنة الدنيا، من لم يدخله في الدنيا لم يتذوقه في الآخرة “، وقال:” وطريق الرضا طريق مختصرة، قريبة جدا، موصلة إلى أجل غاية، ولكن فيها مشقة، ومع هذا فليست مشقتها بأصعب من مشقة طريق المجاهدة، وإنما عقبتها: همة عالية، ونفس زكية، وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله” وهو تعريف عميق للغاية، جعل النفس و الإيمان هما مفتاح الرضا، فإذا اقتنعت النفس وفهمت أصبحت مشقة التقلب في صروف الدهر أمرا هينا يسيرا، لأنها في تلك الحال تدرك حقيقة الجائزة والفوز في الآخرة، وحقيقة تقدير الخالق سبحانه وتعالى لمجريات الأمور، وكما قال “ابن عطاء الله السكندري”:”الرِّضا سكونُ القلبِ إلى قَديمِ اختيارِ اللهِ للعبدِ “.
يقول الشاعر محمد مصطفى حمام :
علمتني الحياة أن أتلقى كل ألوانها رضا وقبولا ورأيت الرضا يخفف أثقالي ويلقي على المآسي سدولا والذي أُلهم الرضا لا تراه أبد الدهر حاسدا أو عذولا أنا راض بكل ما كتب الله ومُزج إليه حمدا جزيلا