القرن التاسع عشر ذو أهمية، فقد شهد الظاهرة الاستعمارية، ورغم كارثية تلك العقود والتضحيات التي دفعتها الأمة المسلمة إلا أنه شهد محاولات حثيثة للنهوض، واقترن سؤال التحرير بسؤال النهوض والإصلاح، وانصرفت جهود المصلحين نحو إيقاظ الجسد الإسلامي الضخم المتيبس من الجمود وكثرة الرقود، فنبه المصلحون الأمة إلى طبيعة التحديات التي تواجهها، وواجباتها نحو التحرر والإصلاح، ورأى هؤلاء أن الصحافة أداة لتبيلغ الفكرة وتحقيق الغاية، وأن كلمتها قادرة على إشعال النار  في الرماد من جديد، فلجئوا إليها لإنضاج أفكار النهضة، وإحياء همومها في نفوس الجماهير وطبقتها الواعية، وبلورة الرؤى الإصلاحية وتطويرها وخلق جدالات حولها.

 

خاض المصلحون من خلال الصحافة معارك على جبهات متعددة، منها: مواجهة الجمود الذي أصاب العقل المسلم وعطله عن القيام بمهامه الحضارية، ومواجهة الاستعمار الذي ينتهب الثروة والأرض والهوية، ومواجهة الاستبداد الضارب بجذور في الثقافة والذي أصاب الشخصية بالوهن، ومواجهة الظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي أوجد أزمات بين طبقات المجتمع.

جاء ظهور الصحافة في ذروة التغلغل الغربي الاقتصادي والسياسي والعسكري في المنطقة، وفي فورة الرؤى الإصلاحية الإسلامية والعربية، وانقسمت المدرسة الإصلاحية الإسلامية إلى ثلاث تيارات رئيسية: تيار جمال الدين الأفغاني في (العروة الوثقى) والذي أسس لفكرة مواجهة الاستعمار من خلال بلورة مشروع الوحدة المتمثل في الجامعة الإسلامية، مع منح الحرية السياسية، وتيار مقاومة الاستبداد الداخلي، ويمثله عبد الرحمن الكواكبي في صحيفة “الشهباء” و”الاعتدال”، والذي اعتبر الاستبداد أصل الداء، أما الشفاء فمن خلال إقامة الحكم الدستوري وصيانة الحريات، وتيار الإصلاح الفكري والتربوي، ويمثله الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا في (المنار) والذي اعتبر  أصل الداء داخلي وناتج عن الجمود الفكري وضعف التربية وانتشار التقليد والانغلاق.

الصحافة وضريبة الحرية

سبقت الصحافة العربية في نشأتها ظهور الأحزاب السياسية، بل يمكن اعتبار الصحف لعبت دور الأحزاب والأيديولوجيات في طرح أفكارها، ورغم وجود اختلافات حول بدايات الصحافة العربية، إلا أنه يمكن التأريخ لها بصدور جريدة “الوقائع المصرية” عام 1828م، والتي كانت صحيفة رسمية للدولة، ويبدو أن السلطة شعرت بدور للصحافة في إيقاظ الوعي فسلطت عليها قوانينها مبكرا، فكان أول تنظيم رسمي للصحافة العربية أثناء الحكم العثماني مع صدور لائحة (6 يناير 1858م) التي منحت الحكومات سلطة تقديرية تجاه الصحافة، ثم تحولت اللائحة إلى قانون عام 1865م.

ويبدو أن صحيفة “مرآة الأحوال” لـ”رزق الله حسون الحلبي”، وهو صحفي أرمني والتي صدرت في الآستانة عام 1855 هي من نبه السلطة إلى أهمية الصحافة، إذ كانت انتقاداته قوية للجمود والتخلف والاستبداد فاصطدم مبكرا مع السلطة العثمانية التي أغلقت الصحيفة بعد عام من صدورها، وحكمت عليه بالإعدام بعد فراره إلى روسيا، لكنه استأنف اصدارها من لندن، وفي عددها الأول مارس النقد والانتقاد فقال عن صحيفته:”مرآة تتجلى فيها حقيقة الأحوال وفعال الرجال، إن صالحة فصالحة، وإن طالحة فطالحة، فتأذى بها أصحاب العسف ونصبوا لها فخاخاً، وما برحوا يمكرون حتى أوصلوا إليها صدأ بغيهم وعدوانهم، فتعطلت زمناً عن كشف مظالمهم، واتخذت طريقها في البحر تطلب عند الانكليز مأمناً وفي مدينة لندن صيقلاً… وقد جعلت الحرية لها شعاراً… ولا ريب اننا سنصير هدفاً لأهل الأهواء والمتعنتين لتركنا عوادل الطريق الملتوي، فمن شاء فلينطح، ومن شاء فليقدح، فإن ذلك يُطيب قلب مخدومه عنه، فيحصل له بسببنا خير، ولا يمسّنا ضير”، وكان ” المكتوبجي “[1] ،وهو الرقيب العثماني على الصحافة، يعطل الكثير من الصحف لأسباب واهية.

ويبدو أن جمال الدين الأفغاني التفت إلى أهمية الصحافة مع الحرب العثمانية الروسية التي نشب عام 1877م، فقد سبقت الحرب أزمات اقتصادية عثمانية، فأعلنت الدولة إفلاسها عام 1875، وخُلع السلطان عبدالعزيز الأول عام ، وأُعلن الدستور العثماني، ومع تلك الأزمات الداخلية والانتكاسات والهزائم الخارجية أخذ الناس يهتمون بمتابعة الحرب وأحوال الدولة، فزاد توزيع الجرائد وإيراداتها وتأثيرها، كذلك نمت طبقة مثقفة قادرة على الإمساك بالقلم ومخاطبة الوعي، كما أصبحت الجريدة من عادات المثقف.

ومن الصحف الإصلاحية المهمة في استانبول “الجوائب”[2] لصاحبها أحمد فارس الشدياق، واستمرت عشر سنوات، وتعطلت لنشرها أخبار الثورة المهدية، وحظيت الجريدة بمكانة كبيرة في العالم الإسلامي، فكان يقرأها الحكام والأمراء والوزراء والمثقفين، لموضوعيتها، وحسن تبويبها وجمال طباعتها، والطريف أن الصحافة الغربية كانت تنقل عنها لدقتها في فهم السياسة في الشرق، كما لعبت دورا أدبيا وحوت بين صفحاتها معارك أدبية أيقظت العقل والروح نحو إدارك المعاني.

أما “العروة الوثقى” فصدر عددها الأول  في ( 16 / 10 / 1884م) في باريس، بعد فشل الثورة العرابية، ورأى المصلحون أن الفشل السياسي والعسكري يفرض ضرورة امتلاك زمام المقاومة من خلال الفكر والثقافة والوعي، فكان صدور الصحيفة التي مزجت بين مدرسة الأفغاني ومحمد عبده، فذاع صيتها في العالم الإسلامي، فحاربها الاستعمار، وكان الإنجليز يفرضون غرامة كبيرة على من تضبط بحوزته أعدادها، فوضعت الموانع أمامها وسُدت السبل في وجهها، وصارت الصحافة جريمة تستوجب العقاب، فتعطلت بعد ثمانية عشر عددا، لكن يبقى لها السبق في أنها كانت وسيلة للنزول بالفكرة الإصلاحية وجدالاتها إلى أذهان كثير من المثقفين، ووسيلة ذكية مبتكرة لنقل انشغالات المصلحين إلى المجتمع.

أما الكواكبي فأصدر “الشهباء” ثاني صحيفة تصدر في حلب في غرة مايو 1877، وجاء صدورها مع الحرب العثمانية الروسية، فكانت تنشر أخبار الحرب وتنتقد الأوضاع الداخلية، فقام والي حلب “كمال باشا” الذي يصفه الكواكبي بأنه “المفطوم على عداوة الحرية”، بتعطليها، بعد صدور (15) عددا، إلا أن الكواكبي أصدر بعد عامين صحيفة “الاعتدال” باللغتين العربية والتركية، وقال في افتتاحيتها “هي الشهباء من كل حيثية، وقد أخذت على عاتقها نشر حسنات الاجراءات واعلان سيئات المأمورين وعرض احتياجات البلاد الى أولي الأمر، وكل ما يقتضيه تهذيب الأخلاق وتوسيع دائرة المعارف”.

وصدرت في الشام صحيفة الحقائق عام (1910) التي استمرت ثلاث سنوات، ، وصدر منها (34) عددا ، ثم جاء بعدها صدور أهم المجلات الشامية الإصلاحية وهي مجلة “التمدن الإسلامي” التي صدرت عام 1935، واستمرات قرابة النصف قرن، وكان تشتغل على قضايا التمدن على أرضية إسلامية فقد صاغت سؤال النهضة وإشكالياتها الكبرى في عنوانها وهو “التمدن” ورأت أن يكون الإسلام هو مصدره ومنبعه، وصاغت رؤيتها في عددها الأول ببراعة قائلة أن الإسلام:”يعانق الأخلاق الحكيمة، ويوافق الفطرة السليمة، ويباحث العقل، ويحادث العلم، ويباري الترقي، ويجاري التمدن، ويلتمس الأصلح، ويوفق بين أماني المادة وآمال الروح، ويجمع القديم الصالح إلى الجديد النافع”، ومن الطريف أن المحدث ناصر الدين الألباني كانت يكتب فيها، وعلى صفحاتها ولدت فكرة السلسلة “الصحيحة” و”الضعيفة” في الأحاديث النبوية، حيث نشرتا كمقالات وموضوعات مستقلة في الخمسينيات والستينيات.

صحافة غير العرب

كان المصلحون المسلمون خارج المنطقة العربية يتملكهم حس قوي بأهمية الصحافة لا يقل عن الشعور القوي الذي تملك المصلحون العرب، في روسيا أصدر المصلح التتري “إسماعيل كسبرالي” صحيفة “بيريفوتشيك” كعنوان للطبعة الروسية و”ترجمان” كعنوان للطبعة التركية، وظل يصدرها عشرين عاما متجنبا السياسة، وقد استعان كسبرالي بالتجار للمساهمة معه في إصدار الصحيفة، فوافق250 منهم على دفع اشتراك عام مقدم، وخرج العدد الأول من صحيفة “الترجمان” في (10 إبريل 1883م)، لكنها توقفت عام 1918 بعد وفاة كسبرالي بأربع سنوات.

وفي الهند أصدر المصلح الهندي أبو الكلام آزاد مجلة “الهلال”[3]، المتأثر بمجلة “المنار” والشيخ رشيد رضا، واتخذها منبرا لدعوة المسلمين إلى التحرر العقلي والسياسي، وترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الأوردية، وكانت نقطة تحول في تاريخ الصحافة الإسلامية في الهند، فقرر الإنجليز إغلاقها في (شعبان 1333هـ- يونيو 1915م)، لكن لم تمض إلا شهور قليلة حتى أصدر مجلة “البلاغ” ، فأغلقت هي الأخرى.

وفي الهند أصدر العلامة أبو الأعلى المودودي جريدة “مسلم” وكان مدير تحريرها ثلاث سنوات حتى أغلقت  في (1341 هـ – 1922م) وفي عام (1351هـ – 1932م) أصدر مجلة “ترجمان القرآن” وكان شعارها “احملوا أيها المسلمون دعوة القرآن وانهضوا وحلقوا فوق العالم”، أما المصلح الهندي “خواجا كمال الدين” أحد الذين وضعوا البذور الأولى للوجود الإسلامي في بريطانيا عندما وصل إلى بريطانيا عام 1912، قام في العام التالي بإصدار مجلته الشهير “إسلامك ريفيو” على نفقته الخاصة والتي حققت انتشارا واسعا في بريطانيا وخارجها، أما الأديب البريطاني المسلم خالد شيلدرك فأصدرت مجلة “أخبار المسلم” the Muslim News، ومجلة المئذنة The Minaret.


[1] المكتوبجي وظيفة عرفتها الإدارة العثمانية، وهي تشبه سكرتير الوالي، وكان في كل مكتوبجي  إلا أن الولة العثمانية اختارت مكتوبجي ولاية بيروت، لمراقبة الصحف؛ نظرا لأن الصحف كان أول ظهورها في بيروت ، فأصبحت وظيفته رقابة الصحافة أكثر من سكرتيرية الولاية، والتصق مُسمَّى هذه الوظيفة برقابة الصحف منذ ذلك الحين. وكان أول مكتوبجي في هذه الوظيفة عبد الله نجيب.

[2] صدر العدد الأول من جريدة الجوائب في (21 ذي القعدة عام 1277هـ الموافق 31 مايو سنة 1861م)، أما الأخير فصدر في ( 6 جمادى الأولى عام 1301هـ الموافق 5 مارس سنة 1884م).

[3] صدر العدد الأول في (26 من جمادى الآخرة 1330هـ- 12 من يونيو 1912م) وبلغت كمية توزيعها25  ألف نسخة أسبوعيا.