يعد الصدق من أمهات الأخلاق والفضائل في الاسلام؛ إذ يرتبط بالإيمان كما يرتبط الكذب بالنفاق والخيانة، وهو مع كونه فريضة شرعية فإنه يمثل ضرورة اجتماعية لا تستقيم الحياة إلا بها.
علاقة الصدق بمكارم الأخلاق
يرتبط الصدق بمجموعة من الفضائل :
- محبة الحق: ومنشأ حب الحق حب الله تعالى، فهو سبحانه الحق وبالحق قامت السموات والأرض .
- الشجاعة: فالصدق في بعض المواقف يكلف الصادق عداوات وخسائر .
- شرف النفس: فإن النفوس الشريفة تأنف أن تكون في موضع الكذب، وهو من مواضع الذل والمهانة والاحتقار .
اكتساب الصدق
يحتاج الصدق وغيره من الأخلاق الحسنة والعادات الحميدة إلى تزكية النفس، وهي عملية مستمرة تصاحب الإنسان من صغره إلى نهاية حياته ،يتم خلالها التخلص من الأخلاق السيئة والعادات الضارة واكتساب مكارم الأخلاق والعادات الحميدة عبر عدة وسائل، منها:
- التربية على الصدق منذ البواكير الأولى ،وهي مسؤلية الأسرة والمجتمع ومؤسساته التي تبرز قيمة الصدق وتكافء عليه وترغّب في التخلق به، ولا تستخدم العقاب القاسي العنيف الذي يجر إلى الكذب.
- مصاحبة الصادقين, وهي وصية الله تعالى للمؤمنين { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119] فللبيئة تأثيرها الذي ينتقل من فرد لفرد ومن جيل لجيل ،وصحبة الصادقين تحض على الصدق وتقبِّح الكذب وتصحح المسار لمن مال عن الصراط المستقيم .
- إظهار بركة الصدق على صاحبه وأن فيه النجاة ولو ظهر عكس ذلك، وهذا يتم من خلال مطالعة كتب السابقين، وما تركه الصدق من آثار حسنة على صاحبه في واقعنا المعاصر. وقد يرى البعض أن هذه القصص في حكم النادر والنادر لا يقاس عليه، لكنك أينما وليت وجهك وجدت من هو مستمسك بحبل الأخلاق الحميدة مهما كلفه ذلك ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :”يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ”[1]، حرارة الجمر تلسعه لكنه لا يزال قابضا على دينه.
- الصبر على الصدق، فإن تكاليف الصدق كبيرة و المغريات بالكذب كثيرة، وحب الإنسان للظهور بأحسن المظاهر يدفعه إلى أن يكذب على نفسه أولا، حين يرى أن ما يفعله نوع من التجمل وليس الكذب.
- التعود على ضبط اللسان وانتقاء أكثر الكلمات تعبيرا عن الواقع ومطابقة للحقيقة أو قربا منها على أقل تقدير، وهذا هو تحري الصدق الذي جعله النبي ﷺ طريقا إلى الجنة حين قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا[2] ولا يزال الإنسان يتحرى الصدق كنوع من جهاد النفس حتى يكافأه الله تعالى بالهداية والمعية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69].ومع حرص الشريعة على الصدق إلا أنها أباحت للإنسان أن يقول الحق بطريقة أخرى، وذلك في أحوال محدودة هي: الإصلاح بين المتخاصمين، ومحاولة جبر خاطر الزوجة،
ألوان من الصدق
- المطابقة بين قول الراعي في رعيته و الداعية والمربي وفعلهم، وقد حذر الله تعالى من المخالفة بين القول والفعل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2، 3] هذه المفارقة كفيلة بأن تحدث صدمة كبيرة تحول وجهة من نرجو لهم الخير من طالب أو ولد أو مستمع للداعية إلى طرق الشر والفساد، بل ربما دفعته إلى الإلحاد.
- مطابقة ما يتصوره الناس عنا من صورة جميلة قد لا تكون موجودة أصلا أو موجودة ولكن بشكل أقل مما يتحدث به الناس، فعلى الصادق الذي لم يدع من الخير ما ليس له أن يكون خيرا مما يظن الناس، ولعلها إشارة من الله تعالى لنرتقي بأحوالنا.
- الصدق زمن الخطوبة بين الفتى والفتاة بل أحيانا بين الأسر التي يرتبط أبناؤها، فيبدو حب الظهور بصفات وأحوال على خلاف الحقيقة، مما يؤدي إلى تكوين صورة ذهنية كاذبة تصل بهم إلى الخلاف ابتداءا أو الطلاق انتهاءا، ولو حرص الأطراف على الصدق لجنبنا أبنائنا وبناتنا شر علاقة متهيئة للانهيار في أي لحظة، لأنها قامت على أساس خاطئ .
- الصدق في الوعد بين البائع والمشتري والصانع ومن طلب منه الصنعة، في الثمن والزمن والمواصفات. الصدق في الموعد الذي ينتهي فيه العامل من العمل، والصدق في حساب التكلفة مع هامش ربح معقول لاظلم فيه للعميل ولا ظلم فيه للعامل، والصدق في تنفيذ العمل بالمواصفات المتفق عليها وليس بأقل منها وبمواد منخفضة الجودة عن المواد المتفق عليها بين الطرفين.
- الصدق أثناء المزاح، فحرص البعض على تصدر المجلس والتحبب إلى جلسائه يجعله يختار من الكلام أكذبه عملا بقول القائل:” أعذب الشعر أكذبه” ويفوته وعد النبي ﷺ ووعيده؛ فأما الوعد فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا[3]،وأما الوعيد فقوله ﷺ:«وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ النَّاسَ مِنْهُ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ»[4]
- الصدق في التعامل مع الأبناء حتى في الأشياء الصغيرة التي نراها كذلك، ويغيب عنا أنها تشكل وعي الطفل وإدراكه للحقائق والمفاهيم الذي يتكون عبر تعاملاته اليومية مع محيطه.
- الصدق في رواية ما نرى من رؤى:بعض الناس يسعى لأن يكون له مكانة بين أصحابه فيزعم كاذبا بأنه رأى رؤيا يعتقد كل من يسمعها بأن صاحبها رجل صالح مكشوف عنه حجاب الغيب تأتيه الرسائل من الله تعالى قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَفْرَى الفِرَى[أكذب الكذب] أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ»[5] أي في المنام.
- الفارق بين العمل الذي يراد به وجه الله تعالى والعمل الذي يراد به وجه الناس هو الصدق،الذي يدفع إلى خروج العمل على أحسن الوجوه من حيث الشكل والمضمون والوظيفة التي ينبغي أن يؤديها هذا العمل بالنسبة للأفراد والمجتمعات، بينما العمل الذي يراد به ثناء الناس أو المن عليهم يسعى أصحابه إلى أن يكون الشكل على أحسن الوجوه بينما المضمون والوظيفة صفر.
- نحتاج إلى الصدق بشدة عند التنازع على الحقوق ومحاولة كل طرف أن يثبت دعواه مع علمه بأن الحق مع الطرف الآخر، وقد يجره حرصه على أخذ ما ليس له إلى اليمين الغموس التي يكذب صاحبها وهو يعلم أنه يكذب والتي تتسبب في غمس صاحبها في النار، وقد يلجأ إلى شهود الزور وتزييف الحقائق وتزوير الوثائق ليحصل على ما يؤذيه في الدنيا والآخرة من حقوق الناس ولعناتهم.
- الصدق في الثناء على الناس ، وفي كل إنسان ما يمدح وما يذم وعندما يكون الثناء إحقاقا للحق وتشجيعا على المزيد من الخير سنجد من الصفات ما يسمح لنا بالمدح، أما عندما يكون الثناء رغبة في التزلف والحصول على منفعة زائلة فحدث عن الفساد الاجتماعي ولا حرج.
ثمرات الصدق
لابد أن نعترف بأن الصدق في عالمنا صار عملية صعبة في وقت صار التزييف عملية مربحة أو علي أقل تقدير تجنب صاحبها خسائر في نظره، ومع يقيننا بأن الله تعالى قد حف الجنة بالمكاره، وأنه جل جلاله لا يأمر إلا بما هو خير لنا في دنيانا وديننا، نجد أن من ثمار الصدق:
- البركة: وهي أحد النعم التي يمن الله تعالى بها على الصادقين، وقد تكثر النعملكن صاحبها لا يجد لها طعما ولا أثرا لحرمانه من البركة.
- الراحة النفسية:ينعم الله تعالى بها على الصادق لأن قوله مطابق للحقيقة،فالكذاب لا يزال قلقا من انكشاف أمره حتى يختلط الكذب بلحمه ودمه،وعند ذلك لا يبالي بنظرة الناس له وفي الحديث:”الصدق طمأنينة”[6] وإننا لندرك قيمة الطمأنينة في عالمنا الذي يسوده القلق والاكتئاب وسائر الأمراض النفسية.
- المحبة والقبول عند أهل الفطر السليمة والاحترام عند غيرهم، وهذه المزايا يسعى الكثيرون لها ويبذلون في سبيلها الأموال الطائلة لكنهم لا يجدونها أصلا أو يفقدونها عند أول اختبار .
- المغفرة والأجر العظيم: قال الله تعالى في بيان ثواب الصادقين والصادقات مع غيرهم من أهل الأعمال الصالحة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 35].
وختاما:لا يزال الكذب والإيمان يتصارعان داخل القلب حتى يطرد أحدهما صاحبه.
[1] سنن الترمذي
[2] صحيح مسلم
[3] سنن أبى داود
[4] أمالي ابن بشران
[5] صحيح البخاري
[6] سنن أبي داوود