أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله : «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو تملأ – ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها»”[1]“.

وأخرجه الإمام الترمذي بلفظ: «الوضوء شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان …كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»”[2]“.

وهذا الحديث الشريف يحتاج في شرحه، وفي عرض جوانب الإعجاز فيه إلى صفحات عديدة، وسأقتصر هنا في هذا التعليق على الجملة الأولى منه فقط، والتي يقرر فيها المصطفى أن الطهور هو نصف الإيمان.

ولفظة الطهور شطر الإيمان هنا تشمل طهارة كل من البدن والملبس والنعل، والمسكن والفناء والطرقات ، والأواني والشراب والطعام، وكل ما يستخدمه الإنسان من أدوات، كما يشمل طهارة كل من القلب والنفس، وطهارة كل أمر يخص المسلم.

والطهارة ضربان: طهارة جسم، وطهارة نفس، وحمل على هذين المعنيين عامة الآيات القرآنية الكريمة التي أشارت إلى الطهارة.

ويقال: طهرتُه فطَهُرَ، وتَطَهَّرَ واطَّهَرَ فهو طاهر ومتطهر.

وعلى ذلك، فإن للطهارة من المدلولات ما يفوق مجرد النظافة المادية؛ لأنها تحوي من الضوابط والقيم والحدود ما لا يحويه مجرد النظافة المادية، ومن ذلك اجتناب كل ما حرمه الله سواء فهم الإنسان الحكمة من تحريمه، أو لم يفهمها انطلاقا من الإيمان بكمال علم الله وإحاطته وشموله، وقصور علم الإنسان ومحدوديته وعجزه.

ومن باب الطهور شطر الإيمان نفهم مبدأ النظافة في الإسلام الذي يشمل النظافة المادية من كل وسخ ودنس ورجس.

فإنه يشمل طهارة البدن والملبس بل هي شرط في  الكثير من العبادات في الإسلام، وذلك لأن طهارة البدن والثياب مقدمة لطهارة كل من القلب والنفس، ولذلك أنزل ربنا ـ تبارك وتعالى ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].

وهذا الأمر الإلهي بضرورة الطهارة الكاملة قبل الوقوف بين يدي الله في الصلاة أو الطواف، أو تلاوة القرآن هو من لوازم الضراعة والخشوع والتهيئة الروحية لمناجاة الله، ومن هنا كانت فريضة الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم في حال عدم وجود الماء، أو في المرض الذي يتأذى صاحبه بالماء.

وبدن الإنسان كرمه الله تعالى حيا وميتا، وهو في حياته يفرز من العرق والمخاط وغير ذلك من نواتج العمليات الحياتية ما يستوجب التطهر من آثارها؛ ومن هنا كانت فرائض الوضوء والغسل وكانت وصية رسول الله بقوله الشريف عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ “الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب”[3]“.

ومن هنا عظم القرآن الكريم، كما عظمت السنة النبوية الشريفة الطهارة بأبعادها المختلفة تعظيما كبيرا قبل أن يكتشف الإنسان جراثيم الأمراض، وقبل أن يدرك أن تدني مستوى النظافة المادية (للبدن والثياب والنعل، والمأكل والمشرب والإناء والمسكن، والفناء والطرقات) هو من الأسباب الرئيسية للعديد من الأمراض، وذلك بأكثر من أربعة عشر قرنا[4] وفي ذلك يؤثر عن رسول الله أنه كان أنظف الناس وأطهرهم، وكان في ذاته وأفعاله قمة في ذلك ونموذجا يحتذى به؛ فمن أقواله المأثورة: عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : “طَهِّروا هذه الأجساد، طهَّركم اللهُ؛ فإنَّه ليس من عبدٍ يبيتُ طاهراً إلا باتَ معه في شِعاره مَلَك، لا ينقلبُ ساعةً من الليلِ إلا قال: اللهم اغفر لعبدِكَ؛ فإنَّه باتَ طاهراً”.”[5]“.

وقد ثبت بالتجربة أن للوضوء تأثيرا فعالا على طهارة الجسد البشري من ناحية تطهير كل من الفم والأنف، وهما مدخلان أساسيان للملوثات والجراثيم والفطريات والبكتيريا إلى داخل الجسم، ويتم تطهيرهما أثناء عملية الوضوء خمس مرات في كل يوم وليلة، وتقوم كل من مضمضة الفم والاستنشاق والاستنثار للأنف بتطهيرهما مما يمكن أن يلتصق بهما من الجراثيم والقشور، والإفرازات المخاطية من كل من الأنف والجيوب الأنفية، وغير ذلك من الملوثات التي تنتشر في الغلاف الغازي للأرض، وسرعان ما يتنفسها الإنسان عن طريق كل من الأنف والفم.


[1] ـ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (كتاب الطهارة حديث رقم: 223).

[2] ـ أخرجه الترمذي في سننه (كتاب الدعوات، حديث رقم: 3517). وقال: هذا حديث صحيح.

[3] ـ أخرجه [البخاري / كتاب اللباس / حديث رقم: 5889].

[4] ـ د. زغلول النجار / الإعجاز العلمي في السنة النبوية / (ص: 442 ـ 446).

[5] ـ المعجم الأوسط (للطبراني) / (حديث رقم: 5087). وهو في صحيح الترغيب للألباني ح:599.