الإسلام دين الإنسان، وهو في كل تشريعاته يناسب احتياجاته، ويلبي أشواقه، ويشفي آلامه، ويسلي أحزانه، ومن أكثر الحاجات التي راعاها الإسلام ضرورات العيش من الأكل والمشرب والملبس، والتي بها تتكمّل كرامة الإنسان، بل إنه لم يغفل حتى التحسينات التي تتجمل  بها حياته من الرفاه والنعيم الذي يجعله يبني الحضارة، ويكون ملكا على سائر ما درأ الله وبرأ على هذه المعمورة، وهو ما نقرأه في قوله تعالى: { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر، 15].

وينضاف إلى مراعاة هذه الحاجات والتحسينات ما سوّره المولى الكريم في حياطة العبادات بما يحفظ كمالها وصدقها بسدّ الخلّة وضمان الحاجة، فالعبادة المجودة قرينة التمام من الكفاية في العيش، بل إن هذه الأخيرة مفتاح للتوجه للخالق بتمام الشكر وجميل الحمد، فالدنيا قنطرة للآخرة، والجسد مطية للعبادة، واستصلاحه وإغناؤه بالنعم كفيل بتوحيد التوجه والمقصد.  وهو ما يلوح من قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص، 77].

ومما يظاهر هذا أن الوسطية من الصوى – علامات – الإسلام في كل تشريعاته وإرشاداته، وكان لها الأثر البالغ في نقض مقالات المتزهدين والمعادين للحاجات البدنية، والقائلين باستحالة الترقي الروحي إلا بقهر الجسد ورغباته المشروعة حسبما انتهت إليه الديانات الهندية والرهبانية النصرانية.

فمن العلائم الدالة على ما ذكرناه من مراعاة الحاجات والضرورات الجسدية أن الآيات والنصوص قدمت في أحايين حاجات االنفس على متطلبات العبادة تقديما وقتيا لا أولويا، ومن أهمها قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون، 51]، وهو الخطاب الإلهي الوحيد في القرآن الكريم الوارد بهذه الصيغة للرسل الكرام بمباشرة أكل الطيبات ومزاولة العمل الصالح، فالطيبات تهدي للعمل الصالح، والخبائث تهدي للعمل الطالح، وهو ما بيّنه وفسره المصطفى عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿يا أيها الرسل ‌كلوا ‌من ‌الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم﴾ ، وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ثم يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟» (مسلم، 1015).

ومما يدل على تلازم الكفاية مع العبادة ما ورد في دعاء إبراهيم عليه السلام لذريته: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم، 37].

وفي إتمام مناسك الحج نقرأ قوله تعالى: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج، 28، 29].

جاء الهدي النبوي مساوقا لما أسلفنا من تلازم  كفاية العيش مع  تمام العبادة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الحاجة والفاقة والفقر، وفي الحديث عن  ‌أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس ‌الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئس البطانة» (أبو دواد، 1547)، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر، وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة ‌الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال» ( البخاري، 6007). ومن دعاء المسيح عليه السلام سؤال ربه: “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”.

كان الرسل عليهم السلام مثال القدوة في الوفاء بحاجاتهم وعدم التكفّف أو مد الأيدي للغير، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبيا ‌إلا ‌رعى ‌الغنم. فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (البخاري، 2143)، وفي الآثار أن آدم كان حراثا، وإدريس كان خياطا، وزكريا كان نجارا، وداود كان حدادا، وفي الحديث: «أن داود عليه السلام ‌كان ‌لا ‌يأكل إلا من عمل يده» (البخاري، 2037).

ليعلم المسلم أن ملازمة الصلوات المفروضة هي مفتاح الأرزاق المادية والمعنوية

ولأجل كل ما سبق رعى الإسلام القضية الاجتماعية في كل التشريعات والتوجيهات، بل  إنه جعل الإخلال بها موجبا للنار وعلامة على النفاق، وسمة على القسوة المنافية لرقة الإيمان، وفي ذلك نقرأ من الصفات الموجبة للنار قوله تعالى : {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ  ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ  ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ  إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}، (الحاقة، 30-34)، وقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ  وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ  وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ  وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } (المدثر، 42-46).

وفي حديث شاهد على خطورة الإخلال بكفاية العيش ما ورد عن ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وسلم: «من احتكَرِ طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه، وأَيُّما أهلُ ‌عَرْصَةٍ أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئتْ منهم ذمة الله تعالى» (أحمد، 4880).

بل إن كفاية العيش في الإسلام تتعدى إلى العجماوات، ففي الحديث: «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من ‌خشاش الأرض» (البخاري، 3295)

وفي التشريعات المنقولة مراعاة عظيمة لهذه الحاجات البشرية من المطعم والمشرب، فمن أوجه تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}، [الشرح، 8،7] قولهم: بأنه الانتهاء من حاجات النفس وضروراتها، واللجأ إلى الله بعد ذلك بالضراعة والدعاء وتجويد العبادة.

وقد جاء من الآثار في الوفاء بحاجات النفس أولا ما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، «إذا ‌وضع ‌العشاء وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء»، قال: فتعشى ابن عمر ليلة، وهو يسمع الإقامة» (البخاري، 934)، وفي الفروع الفقهية أن الجائع لا يستشار، ولا يقضي،  وأن الصلاة مكروهة مع حضور الطعام، ومن الدلالات على أولوية كفاية العيش ما ورد من أن أفضل الأعمال إطعام الطعام، ففي  الحديث «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: ‌تطعم ‌الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (البخاري، 12)، وفي الحديث: « إن الله عز وجل يقول، يوم القيامة: يا ابن آدم! ‌استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب! وكيف أطعمك؟ وأنت رب العالمين. قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟» (مسلم، 2569)، ولأمر ما كان للإطعام القدح المعلى في كل الكفارات الواجبة لجبر النقص أو التكفير عن الخطايا.

فقه سلفنا الصالح تلازم الكفاية من العيش مع صلاح العبادة، وجودة الرأي، فعن الشافعي رحمه الله أنه قال: لا تستشر من ليس في بيته دقيق. وعن الغزالي: كيف يعبد الله من هو مستغرق في ليله ونهاره في لقمة العيش. ولأجل هذا نص الفقهاء في فروعهم على أن حد الكفاية للمسكين مد من الطعام، وهو ما يعني وجبتين مشبعتين في اليوم، فضلا عن الكسوة السابغة الساترة في الصلاة، والسكن اللائق بالحياة.

وما ذكرناه هنا مما أوحت به المشاعر تجاه الجوعى والمحاويج في هذا الشتاء والقر القاسي الذي يدب على أهلينا في المخيمات والشتات ممن نأت بهم الدار، وتنكّب لهم الصديق، وتجهمهم العدو، نسأل الله لهم الفرج القريب، والأوبئة العزيزة إلى ديارهم وقراراهم غير مخذولين ولا مغدورين، ولا متمالىء عليهم.

وليعلم المسلم أن مفتاح كل هذا ملازمة الصلوات المفروضة، فهي مفتاح الأرزاق المادية والمعنوية، فمن وفى بحق الله كفاه الله همّ الدارين، ومصداقه قوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه، 132].