تعيش قطاعات كثيرة من العالم حالة السكينة المفقودة، ويهرع الكثيرون للمضادات والأدوية الكيمائية لمداواة الحال، حتى إن العلماء يفترضون أن يكون المرض الأكبر القادم هو الاكتئاب ومرادفاته، مما يعيد التساؤل جادا وقائما حول الإنسان حقيقية ووجودا ووظيفة، وهو ما يُرجع الجميع إلى البحث عن حلول للمعضلة من غير حقول العلم الوضعي المادي، وذلك بالعودة إلى الأديان التي تعطي الإنسان بلسما آخر يقارع به مصاعب حياتنا ومشكلات الدنيا. والقرآن الكريم خير منجم نلج فيه لتحري حقيقة السكينة المفقودة والطمأنينة الغائبة عن الحياة. فهذه الخصلة العزيزة إذا أشرقت على الجسد أورثته الاستقرار والطمأنينة واليقين، وأمدته بمراهم وأدوية تفي بحياة آمنة طيبه كريمة.

تلك الطمأنينة والسكينة والربط على القلوب هو ما نزل قلوب الرسل وأفذاذ الدعاة، فقاوموا أمواج الباطل العاتية، ففي قصة أصحاب الكهف {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} (الكهف، 14)، وفي وصف حال أهل بدر روَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (الأنفال: 11)

يقول ابن القيم:” وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار، والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده، عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات” (مدارج السالكين، 2/471).

مواضع السكينة في القرآن الكريم

وردت السكينة في القرآن الكريم في مواضع منها:

  1. سكينة التابوت: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (البقرة: 248)، والحكمة من وجود هذا الأثر المادي تعلق القلوب بميراث الأنبياء، فقد كان التابوت يشمل عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح، على ما قاله المفسرون، والسكينة التي تتنّزل في مقارعة الخطوب وخوض الحروب لها أسباب دافعة مثل وجود القائد، والراية في الحرب، والشعار المرفوع، وهذه ما يبين عن دور العامل المعنوي في التعبئة والدعم النفسي، وكل الجيوش في العالم تهتم بخلق ما يسمى بالعقيدة العسكرية وهي مزودة دوما بأقسام الدعم المعنوي لما لها من أثر بالغ في صناعة الرجل العسكري الفذ.
  2. السكينة المنزلة على قلوب الرسل والمؤمنين، كما حصل من تنزلها في الهجرة: { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} (التوبة: 40)، ومن السكينة ما كان ينزل في عديد الغزوات، فيزيد المؤمنين إيمانا وثباتا، وهم القلة في مقابل الكثرة الكافرة :{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح: 18) .
  3. السكينة المنزلة عقب الفتوح، والحكمة منها لجم الرقاب عن الزهو أو الغرور، ومن ثمّ الحيف في معاملة المغلوبين، ومن ذلك ما نزل عقيب الحديبية، حيث خضعت الرقاب لأمر النبي بإمضاء الصلح، لما فيه من خير عميم، ولما نتج عنه من حقن دماء أهل مكة، وفيهم مؤمنون يخفون إيمانهم، ولولا ذلك لكانت ملحمة ومقتلة وهدر لحرمة المكان: { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} (الفتح، 26).
  4. السكينة المنزلة حال الاضطراب، ومن ذلك ما نزل في أثناء غزوة حنين حيث انخذل البعض من مسلمة الفتح، ولم يثبت إلا السابقون من أصحاب شجرة الرضوان وقراء البقرة: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} ( التوبة:26 )

امتاز الجيل الأول من الصحابة بتمكّن هذه الخلال الجميلة منهم ورسوخها في قلوبهم، فلم تهزهم عواصف المحن التي مرت بالدعوة الإسلامية، وكان منهم أعلام عرفوا بهذه الخصلة، منهم عمر بن الخطاب الذي قال فيه ابن عباس: “كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه”، ولذلك كانت آراؤه مسددة في بناء الدولة وتسيير الحرب، فعندما كانت القادسية قائمة كان قلبه مربوطا بنصر الله، وعندما حوصر جيش سارية بن زنيم الديلي خاطبه على بعد آلاف الأميال “يا سارية الجبل”، وما ذاك إلا لصفاء القلب وجلاء البصيرة وغلبة السكينة.

السكينة المفقودة في حياتنا
السكينة المفقودة نجدها في القرآن

كيف يسترجع المسلم السكينة المفقودة في حياته؟

ولاستعادة المسلم لـ السكينة المفقودة في حياته ولاستثمار هذه الخصلة الإيمانية في تدبير حياة الناس الموارة بالمحن والفتن والمهلكات، دعت الشريعة إلى تنزيلها في وجعلها مسلكا حياتيا ففي الحديث:- «يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا» (البخاري، 6125)، ومن المواضع التي يتأكد فيها تنزيل هذه الخلة الحميدة ما يأتي:

  1. الحج وكل ما يماثله من التجمعات العامة، ففي الحديث قال النبي في عشية عرفة للناس حين دفعوا: “عليكم بالسكينة” (مسلم، 1218)، وكم يشهد العالم من قتلى التدافع في الملاعب والتجمعات والمهرجانات. والأمر ذاته مأمور به في الجنائز حيث يندب الصمت والإسراع في تؤدة، والتفكر والاعتبار في الآجال.
  2. حال نزول القرآن الكريم أو قراءته، فالسكينة معينة على التدبر في المتلو، وفي الحديث:” وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، ‌يتلون ‌كتاب ‌الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده” (مسلم، 2699)، وهو ما تحقق لبعض الصحابة، فعن البراء بن عازب:” قرأ رجل الكهف، وفي الدار الدابة، فجعلت تنفر، فسلم، فإذا ضبابة، أو سحابة غشيته، فذكره للنبي فقال: «اقرأ فلان، فإنها ‌السكينة نزلت للقرآن، أو تنزلت للقرآن» (البخاري، 3614)
  3. عمارة المساجد والسعي إلى الصلاة، ففي الحديث «إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، عليكم ‌السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» (البخاري، 908). وعن أبي قتادة، عن النبي قال: «لا تقوموا حتى تروني، وعليكم ‌السكينة» (البخاري، 909).
  4. حال الصبر في سبيل الله، وذلك بكراهة رفع الصوت وكثرة اللغط والصراخ والتنازع، واذخار الجهد للعمل، ولعل وجه كراهتهم لذلك أن التصويت في ذلك الوقت ربما كان مشعرا بالفزع والفشل، بخلاف الصمت فإنه دليل الثبات ورباط الجأش.

إن السكينة المفقودة في حياة البشر اليوم لا تزال تسكن قلوب المتقين الولعين بوعد الله، المفردّين المكثرين من اللهج واللجأ والضراعة للحي القيوم، ولهم الأمثولات السابقة التي أُفرغ عليها الصبر وملأتها السكينة من أمثال بلال بن رباح الذي سكن عنه خوفه وخفّ عنه عذابه تحت الصخرة في الرمضاء، وهو يقول أحد أحد، أو مثل خبيب بن عدي، وقد أحاط به المشركون لقتله، فقام يصلي لله ركعتين، ثم قال: “اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، ولا أرى وجها يُقرئ رسولك مني السلام، فأقرئه مني السلام”، وقتل محتسبا ذاكرا.

وكالإمام أحمد الذي صابر تحت العذاب والسياط تنهش ظهره، وهو ذاكر محتسب حتى ملّوا من تعذيبه، ومن المعاصرين شهيد الجزائر الشيخ العربي التبسي الذي ذاب جسمه في قدر كبيرة ملىيئة بالقار والزيت المغلي، وهو يستغفر ويدعو، وما يتأوه في صبر غريب عجيب إلى أن تلاشى جسده.

وعلى المؤمنين إحياء هذه المعاني وتجسيدها وتنزيلها، فهي خير ما يقدمونه لهذا العالم المنقوص المخدوش من ضياع الإيمان وتلاشي القيم وفقدان الطمأنينة، فقد صار بلسم السعادة وإكسير الرضا أعز من الكبريت الأحمر.