لم يهتم الإسلام بقيمة من القيم اهتمامه بالعدل، فمن أجله أنزل الكتب وأرسل الرسل، قال تعالى : “{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25]

ومما يؤكد اهتمام القرآن بالعدل أننا وجدنا أن الله تعالى إذا طلب منا ثلاثة أشياء كان العدل أحدها ، قال تعالى:” { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]

وإذا أمرنا بشيئين كان العدل أحدهما ، قال تعالى : “{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء: 58]

وإذا أجمل الله المأمورات كلها في أمر واحد، كان هذا الأمر القرآني الإلهي هو العدل، قال تعالى :” “{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25].

وكان من تمكن ورسوخ قيمة العدل في أذهان المسلمين، أن تطرفت فرقة من الفرق الإسلامية، وهي المعتزلة، وبنت فلسفتها في الدين على ركائز خمسة، منها ركيزة ” العدل”وتعني به أن الناس يخلقون أفعالهم بأنفسهم، حملهم على ذلك ما رأوه في دنيا الناس من شرور ومفاسد ومظالم، فهالهم أن ينسبوا خلقها إلى الله، وأن عدل الله يأبى خلق هذه المظالم، فنسبوا خلقها لفاعليها، وهو تطرف في الفكر، كشف عنه علماء أهل السنة. والشاهد أن هذا التطرف كان أثرا من آثار رسوخ قيمة العدل في عقول هؤلاء الناس.

العدل الكامل

لكن العدل الكامل والمطلق، من الصعب تحقيقه في دنيا الناس على كافة المستويات، فثمة مساحات لا يمكن فيها تحقيق العدل في صورته المثلى، ويذكر العلماء أن هذه المساحات أكثر من تلك التي يتصور فيها إقامة العدل المطلق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ” وَالْعدْل الْمَحْض فِي كل شَيْء مُتَعَذر علما وَعَملا” [أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 7)]

العدل الممكن

ومن هنا نشأت فكرة “العدل الممكن” بديلا بالضرورة عن ” العدل المطلق “. فالقصاص من القاتل  بقتله لا تُستحيا به حياة المقتول، ولا تُستعاد به الأبوة الدافئة للصغار الضارعين، ولا يُسترد به السكن النفسي، ولا الأمان المادي، ولا الضمان الاجتماعي للأرملة، لكنه يشفي الصدر المكلوم، ويذهب غيظ أهل المقتول، ويعرض أسرة القاتل  لنفس الأضرار التي تعرضت لها أسرة المقتول، فيتساوون في المصيبة والضر، فهذا هو العدل الممكن في هذه الحالة.

الحضانة والعدل الممكن

العدل المطلق أن يعيش الأولاد مع الأب والأم، الأب يكفيهم الطعام والشراب، والأم ترعاهم وتكفيهم المأوى النفسي والعاطفي، فإذا طلق الرجل زوجته، وكان له منها أولاد، فقد فات إمكان العدل المطلق، فإذا استأثر بهم الأب ضاعوا، وإذا استأثرت بهم الأم جاعوا، فكان العدل الممكن في أن تكون للأم حضانتهم، وعلى الأب كفالتهم.

يقول ابن القيم :” وهذا غاية في العدل الممكن، فإن الأم إنما قدمت في حال الصغر لحاجة الولد إلى التربية والحمل والرضاع والمداراة التي لا تتهيأ لغير النساء، وإلا فالأم أحد الأبوين، فكيف تقدم عليه؟ فإذا بلغ الغلام حدا يعرب فيه عن نفسه، ويستغني عن الحمل والوضع وما تعانيه النساء، تساوى الأبوان، وزال السبب الموجب لتقديم الأم” زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 418)

العدل بين الزوجات

ذكر الله عز وجل أن العدل الكامل بين الزوجات في حالة التعدد غير مستطاع، قال تعالى { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [النساء: 129]

والمراد بغير المستطاع من العدل هو العدل الكامل الذي يشمل إقبال النفس، والبشاشة والأنس، وسائر الأعمال والأقوال; لأن الباعث على الكثير منه الوجدان النفسي، والميل القلبي، وهو مما لا يملكه المرء، ولا يحيط به اختياره ولا يملك آثاره الطبيعية، ولوازمه الفطرية، فبين الله أن العدل الكامل بين النساء غير مستطاع ولا يتعلق به التكليف. [تفسير المنار (5/ 366)]

لكن هناك عدل ممكن، وهو العدل في النفقة والمبيت ونحو ذلك، فهذا هو العدل الواجب، فإذا لم يكن بإمكان الرجل العدل الممكن حرم عليه التعدد؛ لأن فقدان العدل المطلق له بدل مقبول، هو العدل الممكن، أما فقدان العدل الممكن، ففقدانه دخول إلى مساحة الظلم، وهو محرم في الشريعة لا يقبل بحال. قال تعالى : ” {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } [النساء: 3]

تعويض المظلوم في الآخرة

وبسبب الذهول عن فكرة (العدل الممكن) أغلق بعضهم التوبة في وجه التائبين، روى ابن عساكر في تاريخه أنه غزا الناس في زمان معاوية، رضي الله عنه، وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية. فلما قفل الجيش ندم وأتى الأمير، فأبى أن يقبلها منه، وقال: قد تفرق الناس ولن أقبلها منك، حتى تأتي الله بها يوم القيامة فجعل الرجل يستقرئ الصحابة، فيقولون له مثل ذلك، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه، فأبى عليه. فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي، فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال أمطيعني أنت؟ فقال: نعم، فقال: اذهب إلى معاوية فقل له: اقبل مني خمسك، فادفع إليه عشرين دينارا، وانظر الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرجل، فقال معاوية، رضي الله عنه: لأن أكون أفتيته بها أحب إلي من كل شيء أملكه، أحسن الرجل” [تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 208)]

فمن منعه من التوبة إنما رأى أن العدل الكامل في أن يتحلل الرجل من جميع أفراد الجيش، ولما أصبح هذا ممكنًا بسبب تفرقهم، أصبحت التوبة غير ممكنة!

وبسبب الذهول عن فكرة (العدل الممكن) يتحرج بعض الناس من تولي بعض المناصب مخافة ألا يتمكن من ( العدل الكامل) ولو تعززت في نفسه فكرة ( العدل الممكن) لأقدم على الإصلاح دون وجل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ”

فليس على الأمير أن يستعمل إلا أصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام وأخذه للولاية بحقها فقد أدى الأمانة وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله، حتى وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره إذا لم يمكن إلا ذلك فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] ويقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286][ مجموع الفتاوى (28/ 252)]

والخلاصة أن العدل الكامل كما يقول ابن تيمية قد يكون متعذرا، إما من جهة العلم به، وإما من جهة العمل به، فيكون الواجب في مثل ذلك ما كان أشبه بالعدل وأقرب إليه، وهي الطريقة المثلى. [الاستقامة  لابن تيمية(1/ 435)]