هل يمكن أن يحل “الدين والتدين” مشاكل التخلّف؟ وهل الدين يخاطب الجانب الروحي فقط في الإنسان؟ هل الدين محصور في العبادات المحضة أو الشعائرية فحسب؟ هل دور المشايخ والعلماء لا يتجاوز الخطابة والموعظة والركون إلى السلاطين؟ الجواب على هذه الأسئلة يكمن في رأي العلمانيين المعاصرين الذين لا يريدون أن يفهموا حقيقة الأديان عامة والإسلام خاصة، ويظهر أيضا في استسلام بعض العلماء والمشايخ وقبولهم تهميش أنفسهم عن القضايا المدنية للمجتمع والأمة.
بالموقف العلماني، وموقف “التدين السلبي” يصح مقولة: “الدين أفيون الشعوب” وعائق التقدّم، ولا دور له إلا التخدير والاستسلام للقدر والخنوع للظالم والمتسلط والأحبار والرهبان والشيخ ورجال الدين باسم التدين. لكن المتدبّر ومن فَهِم الدين ودوره في الحياة يعرف أن: “الدين صرخة المضطهدين” (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ) والدين سبيل الحياة الطيبة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، وأنجح وسيلة للتغيير والإصلاح ورسم الكرامة الإنسانية “الإخراج من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد”.
“الحياة المدنية والنهضة” و”الدين والتدين” وجهان لعملة واحدة
في مقال بعنوان: “أركان الحياة الثلاثة” بين الكاتب أن الحياة قائمة على عنصر الحاجة، والجهل، والعحز، وهذه الثلاثة تتلخص في “الضعف البشري”، فلا معنى للحياة وللابتلاء إن استغنى الإنسان عن غيره، وعن الله، وعَلِم الغيبَ ولم يُعجِزه شيء! وإن الأصل في الخليقة البساطة والبدائية أو التخلف، والنهضة أو الحضارة سنة طارئة ولا تتوقف عجلتها، وكل حضارة جديدة نتاج التقدم والمعرفة السابقة والمتراكمة. المدنية أو النهضة تعني مواجهة أركان الحياة والتخفيف من حدتها أو القضاء عليها، وذاك سنة كونية طبيعية هدفها تذليل الصعاب أمام الإنسان لتحقيق مطلب الحاجة التي لا بد منها لاستمرار الحياة، ومواجهة معضلتي الجهل والعجز. أما الدين والتدين فهما لاستحضار الجانب الأخلاقي أثناء ذلك، ويعبران عن تزكية الأعمال المدنية وإضفاء مراعاة الله والقيم فيها. الدين والمدنية وجهان لعملة واحدة بهذا.
الأصل في الخليقة البساطة والبدائية أو التخلف، والنهضة أو الحضارة سنة طارئة ولا تتوقف عجلتها
ماهية العبادة
وأما العبادة فهي تعني توجيه الأعمال لله والخضوع والتذلل له في جميع ما يقوم به الإنسان. ومن مرادفات العبادة في القرآن الكريم مصطلح “خليفة” يقول تعالى: ((إني جاعل في الأرض خليفة)). ((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى))، مما يعني أن الإنسان هو المسؤول عن تطوير الحياة الأرضية وتكريس العدالة فيها، وجعلها صالحا للعيش فيها، وهذا نهضة وعبادة. ومن مرادفاته أيضا: “الاستعمار”، قال تعالى: ((واستعمركم فيها)) أي طلب منكم عمارتها، أو جعلكم تقيمون فيها وتبحثون عما يصلحها ويقيم صلبها. ومن هنا لا ينبغي حصر الدين وخطابات علماء المسلمين في العبادات المحضة أو الروحية أو الشعائر الدينية فحسب، وترْك مسمى الجوانب المدنية للاقتصاديين والسياسيين والمفكرين.
مقاصد الحياة المدنية في العبادات المحضة
لو تتبعنا مقاصد العبادات المحضة الظاهرة، لتبين أن أغلبها يهدف إلى تحقيق الجانب النهضوي.
– فالصلاة مثلا رادع عن المنكر وظلم الإنسان لأخيه الإنسان (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، فمن لم تمنعه صلاته من استحقار الناس وظلمهم، وأكل أموالهم فلا صلاة له. والصلاة راحة نفسية يتقوى الإنسان بها لتحقيق أمور حياته المدنية ويستعين بها في مجاهدته تكاليف الحياة وأعبائها (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)، ومن هنا يخرج الإنسان من مشاكل الدنيا بالعيش في جنبات الله بالصلاة “أرحنا بها يا بلال!”
– وإن الزكاة تعني السعي لمواجهة أركان الحياة: الحاجة والعجز، وإنها تطهير للإنسان وتزكية لنفسه من الانغماس في الدنيا الفانية (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
– وإن الصوم استحضار لحقيقة معاناة المحتاج، والعيش في حالة الفقدان والحرمان، وبالصوم يترفع الإنسان عما في ملكه وتحت تصرفه ليعيش في ثوب الآخر ويستعير حذاءه، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
– وإن شعيرة الحج تكريس لمبدأ المساواة والكرامة الإنسانية، وهي تطبيق فعلي لكل نظريات وآيات وأحاديث المساواة “ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس” وإنه لمؤتمر عالمي يتدارس فيه حال الأمة ويهتم المسلمون بأمور بعضهم البعض.
الإنسان هو المسؤول عن تطوير الحياة الأرضية وتكريس العدالة فيها، وجعلها صالحا للعيش فيها، وهذا نهضة وعبادة
مظاهر النهضة والحضارة في القرآن
يُنظر إلى القرآن الكريم بوصفه كتابا دينيا مقدسا، لكن الناظر فيه بعمق يجد أنه لم يفرَّط فيه شيء، وأنه حَوى بين دفتيه ما فيه صلاح الإنسان مدنيا ودينيا دون أن يفرق بين هذين الوجهين للعملة الواحدة. فقد اهتم بتصحيح المفاهيم، وحرص على غرس الإباء والعدالة والكرامة الإنسانية. ويتجلى للناظر في أسماء سور القرآن فقط خير ما يدل على شمولية القرآن وكماله: ففيه سور بأسماء الحيوانات: البقرة والعنكبوت والنحل والفيل، وفيه سور تتسم بمظاهر الدهر: الشمس، الليل، الضحى العصر، وفيه سور دالة على الأسرة والاجتماع: آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، يونس، يوسف، مريم، لقمان. وفي القرآن الكريم الحديد والرعد والكهف، والأنبياء والشعراء، سبأ والروم وغيرها!
وإن المتأمل في موضوعات القرآن يزداد قناعة، ففيه الموضوعات العقدية والمفاهيمية، والاقتصاد والسياسة والسلم والحرب، والحضر والسفر، والأسرة والاجتماع والمعاملة وربط كل ذلك بالدين وبالأخلاق.
أخيرا، يساهم الدين والتدين في النهضة والإصلاح بتعريف الإنسان بحقيقة الكون والحياة والإنسان وتحديد التصور الصحيح، ويساهم أيضا في مواجهة أركان الحياة الثلاثة. وعليه فكل من سعى إلى تحقيق حاجة نفسه أو غيره، أو رفع الجهل بالتعليم، أو المساعدة فيما يُعجِز، فهو يحقق الأمرين معا: يحقق العبادة ويحقق النهضة والحضارة! قد يتخلف أحد الوجهين لهذه العملة، فيغرق العابد نفسه في العبادات المحضة ويكون راهبا بذلك ومتبتلا، وقد يواجه الكافر أركان الحياة الثلاثة ويغلبها أو بعضها مدنيا وظاهريا بدون استحضار العبادة؛ لكن السعادة الحقة في الجمع بين الوجهين للعملة الواحدة، عبادة وصلاح وإصلاح ونهضة.