لا تخلو أمة من أعيادٍ، فالعيد يمثِّل ذاكرة الأمة وهُويّتها ويربط ماضيها بحاضرها، ويعبِّر عن توجهاتها وهمومها وعن تاريخها وعن أبرز الأمجاد التي مرَّت بها الأمة، ويربطه بـ أبعاده الحضارية والدينية.

من هذا المنطق تأتي قيمة العيد، والعيد في اللغة مأخوذ من المعاودة ويكون مشتقا عند الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت:170ه)من عاد يعود وكأنهم عادوا إليه بعد ما مضى، ويرى ابن فارس (ت:395ه) أنَّ الأصح في تسميته أنّه سُمّي بذلك لأنه يعود كل عام [1]، والذي يجمع بين المعنيين أّنه يتصف بالتكرار، والتكرار يحمل ذاكرة الأيام للأجيال ويربيِّها على التمسك بهُوِّيتها.

1 – الفطرة الإنسانية

هي معدن الإنسان الذي ولد عليه، وتتعلق باحتياجاته العقلية كالتفكير والتأمل وربط الأسباب بنتائجها، وباحتياجاته الروحية التي تربطه بالعالم العلوي كالشعور بأن قوة تدير العالم، والشعور بالارتياح عند ممارسة العبادة، وكذا الفطرة تتعلق باحتياجاته الجسدية كالشعور بالاحتياج إلى الطعام والشراب والجنس والنوم، وتتصل أيضا باحتياجاته الاجتماعية كنفوره من الوحدة والظلم الاجتماعي وميله نحو الاجتماع والعدل، ومحبته لتكوين علاقات بين الناس.

2 – اجتماع الأبعاد الثلاثة في العيدين

لا يوجد عند المسلمين إلا عيدان لهما الصبغة الدينية، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى، ويُعدُّ البُعد الديني أساسا للبُعد الجسدي والاجتماعي، وذلك راجع إلى التشريع، فالمشرِّع وهو الله تعالى هو الذي جعل عيدين اثنين، وهو الذي يشرِّع مايحدث فيهما…

 وقد ارتبط هذان العيدان بالجوانب الاجتماعية والاحتياجات الجسدية والروحية بشكل عجيب بحيث يمكن أن يكون موضع العيدين في الإسلام نموذجا رائعا للجمع بين هذه الأبعاد الثلاثة، ويُعد ذلك قدرة الدِّين الإسلامي في ملامسة الفطرة الإنسانية والاستجابة لها.

أبعاد العيد الدينية

والملاحظ في البُعد الديني للعيد أن الجانب الديني يكون قبل العيد وخلال العيد وبعد العيد، ففي عيد الفطر يكون العيد مسبوقا بصيام رمضان، وأبرز ما في رمضان هو العشر الأواخر منه والتي تسبق العيد، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يستثمر هذه الأيام، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما «كان رسول الله يعتكف ‌العشر ‌الأواخر من رمضان » [2] وما دام هناك خير فالنبي لايقصره على نفسه بل كان يحضُّ أهل بيته، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره، ‌وأحيا ‌ليله، وأيقظ أهله » [3]

وهناك دعوة من النبي عليه الصلاة والسلام إلى صيام الستة أيام من شوال بعد العيد، وفي أثناء العيد نجد صلاة العيد والتكبيرات.

وفي عيد الأضحى يكون العيد مسبوقا بالحج، وأبرز هذه الأيام هي العشر الأوائل من ذي الحجة التي تسبق العيد ففي صحيح البخاري، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ” ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه. ‌قالوا: ‌ولا ‌الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء” [4]، وهذه العشر مقابلة للعشر الأواخر من شهر رمضان التي هي أيام اعتكاف وتلمُّس لليلة القدر، وأعمال الحج لا تنتهي باليوم الأول بل يستمر حتى نهاية أيام التشريق الثلاثة.

ولنلحظ إلى هذه التداخل العجيب بين هذه الأبعد الثلاثة ففي الوقت الذي تكون فيه العبادة بارزة من الصلاة والتكبير في البيوت والمساجد والطرقات، وذلك للرجال والنساء، ففي صحيح البخاري: “وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد، فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا، وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعا، وكانت ميمونة تكبر يوم النحر، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد [5] وهذا يرتبط بقوله تعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} [الحج: 27، 28]

في هذا الوقت الذي يبرز فيه البُعد الديني نجد قول الله تعالى في أيام العيد والحج “لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ” مقترنة  مع قوله تعالى ” وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ  ” والمنافع عامة وتشمل التجارة  وهي أبعاد جسدية يقول القرطبي: “والشهود الحضور. (منافع لهم) أي المناسك، ‌كعرفات ‌والمشعر ‌الحرام. وقيل المغفرة. وقيل التجارة. وقيل هو عموم، أي ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة، قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي، فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى”[6]

البعد الجسدي للعيد

ويتجلى البُعد الجسدي بارزا متداخلا مع البعد الديني في قوله   ” أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ‌أَيَّامُ ‌أَكْلٍ ‌وَشُرْبٍ” ولنلحظ أنَّ البخاري وضع هذا الحديث تحت باب “تحريم صوم أيام التشريق” وهذا ليس خاصا بالبخاري فصيام أيام التشريق والعيدين محرمة عند غيره،  ولعل من أبرز الحِكم في ذلك  هو الجمع بين البُعد الديني والبُعد الجسدي، فهذه الأيام هي بمثابة أيام تكريم للصائم وتكريم للحاج بعد هاتين العبادتين ومن أنواع التكريم أن يُريح الإنسان جسده.

البُعد الجسدي والديني كان مترابط في أبرز صوره في الآيات التي تتحدث عن الصيام في سورة البقرة ابتداء من قوله تعالى

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183] إلى قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} [البقرة: 187].

فالغاية من الصيام هي التقوى، وقد كانت في أول آية وفي ختم آخر آية وهذا بُعْد ديني بارز، وبين ذلك حلُّ الطعام والشراب والجنس في أيام الليالي مع تحريم ذلك في النهار.

ويظهر البُعد الديني جليا في الوقوف عند شرع الله تعالى، فما يشرعه الله ينبغي الوقوف عنده، فالإفطار في رمضان من غير عذر محرم، والصوم في وقت العيدين محرّم، وبيان هذا أنَّ تعالى هو المشرع، ومن الضروري الوقوف عند هذه الحدود.

البعد الاجتماعي للعيد

أما البُعد الاجتماعي ففي العيدين مظاهر الفرح والسرور وصلة الأرحام وزيارة الأقرباء، ومن ذلك التعارف بين الناس في الحج، وهذه من منافع الحج، يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عند قوله تعالى “لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ : “وتنكير منافع للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية لأن في مجمع الحج فوائد جمة للناس: لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحا في الدنيا بالتعارف والتعامل” ومن الملاحظ أنَّ أيام التشريق سُميت بذلك لانهم كانوا يشرقون فيها اللحم، وتشقيق اللحم يقتضي إطعاما وإهداء.

ونجد في الأضاحي تكمالا بين هذه الحاجيات بشكل عجيب ففيها التقُّرب إلى الله تعالى للمضحي، فهي تأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها لتكون في ميزان حسنات المضحي [7] ، وهو بهذا لايتقرب إلى الله تعالى بالاستجابة لهذه الشعيرة، بل يأكل منها ويتصدق ويهدي، وفي هذا تحقيق لمطالب الجسد، وتكافل اجتماعي للفقير من خلال الصدق بجزء منها، وللغني بالهدية، وهذا مايؤدي إلى تطييب النفوس والتقريب بين المختلف والتلاحم بين الأقارب.

ومثل هذا زكاة الفطر التي آخر وقتٍ لإخراجها هو غروب شمس يوم العيد عند الجمهور [8] وما يدفعه الصائم عن نفسه ومن يكفلهم يساهم هو شكر لله تعالى، وسدٌّ لحاجات المجتمع.

قبل العيد كان هناك اعتكاف وابتعاد عن الناس فيأتي العيد لسد هذه الثغرة وليكون هناك تواصل بين الناس وخاصة بين الأرحام، قضية التكبير والصلاة الموجود في العيد والتكبير الموجود في الخطبة وفي الأسواق … ينبغي أن يلفت الانتباه إلى معاني العزة والشموخ لهذه الأمة، وأن الكبير هو الله وبهذا يكون المؤمن شجاعا مقداما لاتصدّمه الحواجز ولا يقف اليأس حاجزا عن تحقيق مايريد، ففي الوقت الذي يشعر بقوته وقدرته على تحقيق المُراد بتوفيق من الله تعالى يشعر بالعبودية لله تعالى.

3 – هُويَّة الأمة الحضارية تجتمع في هذه الأبعاد الثلاثة:

لكل أمَّة هوية تميزها عن غيرها وتتباهي هي بهذه الميزة، ولعل أبرز ما تتميز به الهوية الإسلامية الحضارية هي ارتباطها بالدِّيني الذي انعكس على الاستجابة للبعد الجسدي والروحي والاجتماعي، وهذه ميزة تفرّدت بها الشريعة الإسلامية، فالشريعة ليست روحية محضة تهتم بالعبادة وتلغي دور الجسد ومتطلباته، كما أنها ليست جسدية تلغي ارتباط الإنسان بأشواقه الروحيه وتطلعاته كالنظريات التي تقدِّس الجنس والمادة، وأيضا ليست ميزة هذه الهوية فردية تنطلق من حرية الفرد لتدوس على اختيارات المجتمع وتوجهاته كالنظريات الغربية التي تُعلي من شأن الحرية الفردية والتي وصلت إلى الحرية  الجنسية بأقبح صورها، وإلى حرية كاذبة موّجهة إلى الوقوف ضد الأديان والأنبياء، كتحريق القرآن ونزع الحجاب وتصوير الأنبياء على أنهم قتلة مجرمون.

وأيضا هذه الهوية استطاعة أن تجمع بين مسؤولية الفردية اتجاه نفسه والمجتمع، ومسؤولية المجتمع اتجاه الفرد، فحرية الفرد مصانة مالم تصل إلى القيم الحاكمة في المجتمع، وما يملكه الفرد يجب أنْ يُصان من قِبَل المجتمع مالم يتصادم مع متطلبات المجتمع واحتياجاته، وعندها تقدَّر الضرورة بقدرها ويُصان حقُّه.

كما أنَّ هذه الهوية الدينية الحضارية جاءت بكلِّيات مسلّما بها يخض لها الجميع كأركان الإسلام والإيمان… فلا اجتهاد في ردّها أو الاعتراض عليها، لأنَّها هذه الكليات تمثِّل ارتباط الأمة الوثيق بدينها الذي ينتج حضارة، وفي الوقت ذاته كان المجال  واسعا للاجتهاد في فروع الدِّين، وهذا الاجتهاد فيه المسايرة والعطاء وإنتاج الحضارة.

هذه الهُويِّة انطلقت من الوحي، في أوِّل خطاب يصل الأرض بالسماء في رمضان، وفي ليلة القدر {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1] وستستمر هذ الهُوية من غير تشويش أو تشويه مادامت متمسكة بهذا الخطاب { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] فهو يهدي إلى الأقوم في العبادة، وفي التشريع، وفي الاجتماع، وفي تحقيق متطلبات الروح والجسد.

4 – فلسفة اجتماع هذه الأبعاد

اجتماع هذه الأبعاد – وإنْ كان يظهر في العيدين بشكل جليِّ – ليس قاصرا عليهما، ومردُّ ذلك إلى أنَّ كلَّ مافي هذا الكون مرجعه إلى الله تعالى من حيث التّوجه والقصد، وفائدته لبني الإنسان من حيث الفائدة والأثر، فليس هناك شيء إلا وينبغي أنْ تكون نية الفعل متجهة إلى الله تعالى خالقا ورازقا ومعطيا … وهذا معنى (قُلۡ إِنَّ ‌صَلَاتِي ‌وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ) فحياتنا وأواحنا وعطاؤنا وأخذنا  وموتنا وعيشنا لله تعالى، وأكلنا وشربنا، لله رب العالمين، ولايغيب عنَّا أصل ذلك وهو حديث النبي عليه الصلاة والسلام  فليس هناك شيء  وهذا مانجده بشكل جلي  واضح في قوله «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، ‌وفي ‌بضع ‌أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا»[9]

والذي يجمع هذه الأبعاد هو النية، والنية هي استحضار عظمة الله تعالى في العبادات والمعاملات والعادات.