إن الغاية التي يناشدها الفقه الإسلامي أن يجيب عن سؤالات يطرحها واقع حياة الناس في معاشهم وديانتهم وتعاملاتهم، جاء السؤال عنه أو لم يأت، لأن الفقه تأطير شرعي للواقع المعيش والظروف المحتفة به، ويشمل هذا الواقع واقع الأفراد والجماعات، والدول والمؤسسات. بل لا ينمو الفقه وتينع ثمرته، حتى تؤتي أكلها كل حين بدون التفافه على الواقع. وحين قال النبي ﷺ: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين” يتضح من ذلك أن الفقه في الدين هو تحصيل العلم وفهمه والعمل به على هدى وبصيرة، ولن يتحقق هذا المعنى المنيف إذا تعرى الفقه عن واقع الحياة.
وذلك أن الفقه ينير الدرب، ويقي من الشبهات، ويعين على معرفة حكمة التشريع، وإذا لاحت حادثة تيسر بالفقه النظر في أدلة التشريع فيحكم بمقتضاه، وكل ما سبق ملابسات في الواقع.
وما ينتجه الفقيه يسير متفاعلا ومتلائما مع ما ينتجه الواقع من نوازل وتطورات. وقد أوضح الدكتور أحمد الريسوني هذا الارتباط الوثيق بين الفقه والواقع بشيء من التمثيل، فقال: مثل الفقه والواقع كمثل الحبل المضفور، تكونه خصلتان تلتف إحداهما على الأخرى من أوله إلى آخره. فإذا التف الواقع بمشاكله ونوازله ومطالبه واستفساراته على الفقه، والتف الفقه باجتهاداته وفتاويه وتوجيهاته على الواقع، كانت الحياة تسير سيرا مفتولا يعطيها متانة وقوة وتماسكا. فإذا سار الواقع بعيدا عن الفقه، وسار الفقه بعيدا عن الواقع، فقدت الضفيرة صفتها، وفقدت بذلك قوتها ومتانتها.
والانفصال بين الفقه والواقع ينتج عنه ضعف التنظير والتقعيد الفقهي، بل إن التفقه بعيدا عن الواقع هو أشأم من السراب الذي لا أمل فيه! لأن هذا النوع من الفقه يعد من أنصاف العلم لانقطاعه عن الواقع العملي، فيصبح علم الفقه تكرارا للمعلومات المجردة، والنظريات الفقهية التي بليت في بطون الكتب أو كوامن العقول، ليست لها وقائع تصدقها من جانب التفعيل.
وهذا ما تنبه له الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، صاحب البصر النافذ، في خطابه الموجه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، عامله على الكوفة، وجاء فيه: ” أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له..”.
ركز هذا الخطاب على ضرورة الفهم في الدين الذي يعد نعمة كبيرة لا يعلو عليها أي شيء، ويمثل الفقه في الدين والاجتهاد في الواقع، حيث بدأ به الخليفة عمر وصيته إلى أبي موسى أولا، وبنى عليه فحوى رسالته، لينتهي إلى تحقيق هذا الأساس، وهو الفهم وحسن القصد في العمل والقضاء وفض الخصومات، يقول ابن القيم: “صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم”. [اعلام الموقعين.. 1/69].
واستخرج ابن القيم من هذه الوصية الجامعة التي تلقاها العلماء بالقبول أسس الفهم الصحيح في قضايا التشريع الإسلامي، واعتبر هذه الأسس قواعد قبول الحكم الصحيح وسلامته يقول:
“ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقعوالفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر..
ثم قال: ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله. [أعلام الموقعين: 1/69].
والاعتماد على هذين الأساسين في الاجتهاد؛ الفقه وفهم الواقع يقدم عجلة نمو الفقه، ويساعد على تطوره، بل الفقيه الذي يجمد على النصوص ولا يسعى في تنزيلها على الواقع المشاهد، ولا يبحث عن إجابات للتحديات التي يواجهها الناس في حياتهم اليومية، فإن علمه لا يزدهر، لأن الفقه – بطبيعته علم واقعي عملي – لا ينمو ولا يزدهر بالمعنى المقصود إلا في واقع حي منعش متحرك ومتجدد، يقول الدكتور الريسوني، وهو لا يعد “كثرة المدارس ولا غزارة التآليف معيارا للازدهار الفقهي .. فهذه قد توجد ولكنها لا تتجاوز حدود التكرار والاجترار، ولا تخرج عن التقليد والتجميد. وقد تصبح عائقا في طريق أي تقدم أو إصلاح، بحيث يتضافر الجمود الواقعي والجمود الفقهي ويقوي أحدهما الآخر. فلا يمكن إصلاح أحدهما إلا بخلخلة الاثنين معا..” [الاجتهاد .. النص، الواقع، المصلحة، ص61].
إن التزاوج بين الفقه والواقع ليس أمرا محدثا، ولكنه مؤصل في مصادر التشريع، يرجع أساسه إلى وقائع شاهدناها واطلعنا على حواراتها في القرآن الكريم بشكل مفصل، وما تولدت المذاهب الفقهية إلا من وراء احتكاكها وتلبسها في واقع الحياة التي عاشها مجتهدو المذاهب، ونختم هذا المقال هنا بذكر مثال من القرآن الكريم يحقق الغرض الذي أردناه من هذا البيان.
جاء البيان القرآني عن حالة المنافقين في حوارات متنوعة، والإجابة على تساؤلاتهم، وكشف مكائدهم تصديقا وتأكيدا لقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
“ثم جاءت الآيات مفصلة ومبينة سبيل أعداء الله، وفاضحة لمآربهم وغاياتهم، ولنأخذ سورة واحدة تؤكد لنا هذه الحقيقة وتجليها: إنها سورة التوبة، ومن أسمائها (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين، وكشفت عن خداعهم وتضليلهم ومؤامراتهم، يقول -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) [سورة التوبة: 49]
(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [سورة التوبة: 56]
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [سورة التوبة: 62]
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) الآية [ سورة التوبة: 67 ].
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [ سورة التوبة: 107 ] وهذه الآية من أعظم الآيات التي فضحت المنافقين، وكشفت دسائسهم، واستغلالهم لهذا الدين بإقامة المساجد تلبيسا وخداعا، وسترا لمؤامراتهم. [فقه الواقع، ناصر سليمان العمر].
وجميع هذه الآيات تفضح مكائد المنافقين وسبيلهم في الإرصاد، وهي تعكس حياة عاشها رسول الله صلى الله وسلم في المدينة حيث كان يتخلل صفوف المسلمين بعض نماذج من المنافقين، فجاءت الآيات كاشفة لهم، وتشد نظر المسلمين إلى فهم الواقع، وأصدرت أحكاما في شأن المنافقين بعد رصد هذه المكائد وملابساتها ومؤامراتهم في هدم صرح الإسلام وتفريق جماعة المسلمين.