اقترن نشوء علم الجغرافيا لدى العرب بظهور الإسلام فليس هناك دلائل على إحاطة عرب الجاهلية بهذا العلم وبخاصة أنهم كانوا يتهيبون ركوب البحر ويؤثرون التنقل برا في أسفارهم، وبصفة عامة يمكن الادعاء أنهم افتقدوا شروط النشاط الجغرافي التي أجملها جويدي في: اتساع رقعة الملك، وامتداد شبكة النشاط التجاري، والنهضة الفكرية، غير أنهم لم يكونوا وحدهم فاليونان والرومان رغم توفر هذه الشروط لم يقدموا إسهامات جغرافية تذكر وظلت أفكارهما عالة على ما قدمه بطليموس في مصنفاته.
ومع ظهور الإسلام شرع العرب في الاعتناء بالجغرافيا، وتوالت مؤلفاتهم وبلغت أوج نضجها في القرن الثالث الهجري، ومن الظاهر أن هنالك عوامل حفزت البحث الجغرافي لدى المسلمين، ومن بينها:
– رحلات الحج التي حفزت بطريق غير مباشر عملية التصنيف الجغرافي لدى المسلمين الذين قصدوا مكة من مناطق مختلفة ونائية، واتجهوا إلى وضع مؤلفات تصف البلاد التي اخترقوها بغرض مساعدة إخوانهم الحجيج في المستقبل، وغالبا ما تم تجاوز هذه الغاية إلى أغراض علمية أخرى، ومن هنا نشأ نوع جديد من التأليف عرف باسم “الرحلات” وأقدم الكتب المعروفة وأعمها فائدة في هذا الباب رحلة ابن جبير المولود في بلنسيه عام 540ه.
– اتساع ديار الإسلام، وظهور الحاجة إلى إنشاء جهاز فعال للبريد يكون همزة وصل بين الحكومة المركزية في عاصمة الخلافة وبين العمال والولاة التابعين لها في مختلف الأمصار، ومن ثم ظهر نوع من التآليف يسمى (المسالك والممالك) أو الطرق والبلدان، ومن أشهر من صنف فيه ابن خردازبه والاصطخري وابن حوقل.
– نظام الصلاة، وهو يتطلب معرفة دقيقة بالمواقيت وبحركة الليل والنهار وتحديد القبلة، وقد دفع المسلمين إلى التعمق في علم الفلك، واختراع أجهزة القياس والرصد التي ساعدت على الملاحة.
الجغرافيون المسلمون ومصنفاتهم
خلف الجغرافيون المسلمون ورائهم تراثا ضخما من المؤلفات يصعب حصرها، ولذلك سنكتفي بالإشارة إلى طائفة من أشهر هذه المؤلفات مرتبة ترتيبا زمنيا
– المسالك والممالك لابن خردازبة، وهو أقدم المؤلفات الجغرافية التي بين أيدينا ويعود تاريخ تصنيفه إلى عام 230 ه، وهو يتناول ذكر الأرض وأبنية الخلق عليها وذكر الممالك وتقدير المسافات إليها، وما تحويه من جبال وأنهار وطرق، وأسماء ملوكها وألقابها، ولهذا الكتاب قيمته العملية فهو يضم معلومات دقيقة وموثقة عن جميع محطات البريد وأبعادها والضرائب التي تؤديها كل ولاية.
– رسم المعمور من البلدان للخوارزمي، وهو من أوائل المصنفات التي حوت صورة للأرض في منتصف القرن الثالث وهي مستخرجة من كتاب بطليموس، ولم يسبقها في ذلك سوى “الصورة المأمونية” التي شارك فيها سبعون عالما وجغرافيا وهي مفقودة.
– الأعلاق النفيسة لابن رسته، المتوفي عام 300 ه تقريبا، وهو يقع في سبع مجلدات فقدت جميعا عدا المجلد السابع، وقد ذكر فيه الفلك وعجائبه وقدرة الله في خلقه، وأهم ما يميز الكتاب بيانه “أن الأرض جميعا بجميع أجزائها برا وبحرا على مثال الكرة” وأنها ثابتة في وسط السماء كالمركز”[1].
– مسالك الممالك للكرخي، وهو من أهل القرن الرابع ويعرف كذلك باسم الاصطخري، وقد ذكر فيه أقاليم الأرض وممالكها إجمالا، ثم أتى على ذكر ديار الإسلام مفصلة فقسمها إلى عشرين اقليما، وذكر كل إقليم بما اشتمل عليه من المدن والبقاع والأنهار، وقد ضمنه ستة عشر خريطة.
– أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي، وهو من أجلاء الجغرافيين العرب، وقد وضع كتابه عام 375 ه ثم أصلحه وأبرزه ثانيا، واقتصر فيه على ذكر الممالك الإسلامية دون الإفرنجية، وهو ما عرضه لانتقادات الدارسين الغربيين باعتباره تغافل عن ذلك عمدا لا سهوا[2]، لكن هذا الانتقاد يتضاءل أمام حقيقة أنه قصر كتابه على ذكر الممالك التي زارها ودون مشاهدات دقيقة وأجاد وصفها وتحريرها.
– المسالك والممالك للبكري، وهو من جغرافي القرن الخامس ولم يطبع كتابه وإن كنا علمنا به وبمحتوياته من مؤلفات اللاحقين عليه، وله كتاب آخر فريد في بابه بعنوان (معجم ما استعجم) ذكر فيه أسماء الأمكنة الواردة في أشعار العرب ومنازل البداوة، وهو مرتب على حروف المعجم، وبه إفادات مهمة حول أشعار العرب وما جاء فيها من أماكن وأنهار وأودية، وتمت طباعته بمدينة غوتنجن الألمانية عام 1876.
– نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي، وهو من أبناء المغرب وقد وضع كتابه بناء على طلب الملك رجار ملك صقلية، وأنجز تصنيفه عام 548ه، وللإدريسي كتاب آخر بعنوان (أنس المهج وروض الفرج) وسلك في تأليفه نهجا جديدا لم يُسبق إليه ووصف بلاد أوروبا وإيطاليا وجبالها وأنهارها مفصلة، وهذا الكتاب مدار علم العرب ومعرفتهم بالأمم الأوروبية فكل من جاء بعده نهل منه.
– معجم البلدان لياقوت الحموي، وهو من أهل القرن السابع، وليس في تآليف العرب في الجغرافيا ما هو أنفع منه فإن ياقوتا لم يأل جهدا في سبيل جمع أخبار البلاد الاسلامية وغيرها ثم رتبها على حروف الهجاء، وقد اختصره صفي الدين عبد المؤمن وسماه (مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع).
– تقويم البلدان لأبي الفداء إسماعيل صاحب حماة، وقد قدم فيه ما تجب معرفته من ذكر الأرض والأقاليم العرفية والحقيقية والبحار وذكر فيه ستمائة وثلاث وعشرين بلدا مرتبا على الأقاليم العرفية، وفرغ من تأليفه عام 721 ه، وطبع في فيينا عام 1807م مصحوبا بترجمة إلى اليونانية القديمة.
– رحلة ابن بطوطة، وهو من مشهوري الرحالة العرب في القرن الثامن، وتعد رحلته للحج التي قام بها عام 725 ه من أهم كتب الرحلات، وذكر فيها عجائب الأمصار ومن لقيهم من: العلماء والملوك والأمراء والأولياء والصالحين والأثار القديمة، وقد نمقها وحررها ابن سعيد الغزي.
– أوضح المسالك في معرفة البلدان والمسالك لسياهي زادة، وهو من أهل القرن العاشر وعاش في كنف الدولة العثمانية، وأهدى كتابه الذي فرغ من تأليفه عام985ه إلى السلطان مراد الثالث، وقد ضمنه كتاب (تقويم البلدان) لأبي الفداء، وأضاف إليها ما التقطه من مؤلفات ورتبه على حروف الهجاء.
مناهج الكتابة وخصائصها
كانت تلك منتخبات من التآليف الجغرافية التي ظهرت في ظل الحضارة الإسلامية، وبالإمكان تصنيفها موضوعيا على: المسالك والممالك، وتقويم البلدان، ورسم المعمور، والرحلات، والتقاسيم وما إلى ذلك، أما من حيث المنهج المتبع فقد تفردت هذه المصنفات بعدة خصائص ميزتها عن الكتابات الاغريقية ويمكن تلخيصها في الآتي.
أولا: اعتماد التقسيم، وهو ليس تقسيما رياضيا يقوم على أساس الأقاليم السبعة بتأثير جغرافية بطليموس، كما أنه ليس تقسيما جغرافيا بحسب أقاليم الأرض، ولكنه تقسيم إداري سياسي أي إلى وحدات سياسية أو إدارية تمثلها: الأمصار والولايات والممالك.
ثانيا: اتباع المنهج الوصفي، فقد حرص الجغرافيون والرحالة على وصف البلدان والممالك وذكر الأجناس وتنوعها وصفاتها وتطرقوا إلى المحاصيل والمناخات وما إلى ذلك، وجاء وصفهم دقيقا ومؤيدا بالمشاهدات العينية.
ثالثا: الاعتناء بالخرائط، كان الربط بين النص الجغرافي والخريطة وإقامة صلة وثيقة بينهما ملمح مميز للكتابات الجغرافية العربية، وقد بدت هذه العناية في وقت مبكر منذ عهد المأمون، وممن اهتم بذلك الربط الخوارزمي والبلخي وابن حوقل والاصطخرى[3].
رابعا التركيز على ديار الإسلام دون الممالك الافرنجية، وكان ذلك مثار انتقاد المستشرقين الغربيين الذين نظروا إليه بوصفه اكتفاء بالذات وتجاهلا للآخر، غير أن أسبابا موضوعية كانت تحول دون ارتياد بلاد الفرنجة وفي مقدمتها بطبيعة الحال الصراع الدامي بين الشرق والغرب، وتأثر طرق التجارة والسفر بنشاط القراصنة الصليبين في البحر المتوسط.
وبالجملة شهد البحث الجغرافي انتعاشا لدى العرب بظهور الإسلام، وسرعان ما نجح الجغرافيون المسلمون في تجاوز تراث بطليموس وتوصلوا إلى اكتشاف جغرافية مهمة من قبيل كروية الأرض، والتوصل إلى خطوط الطول والعرض وتحديدها بنسبة خطأ ضئيلة.
[1] أنظر: دار الكتب المصرية، فهرس الكتب العربية الموجودة بالدار لغاية سنة 1932، القاهرة: 1933، ص12.
[2] جويدي، محاضرات أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب، القاهرة: مجلة الجامعة، د/ت، ص25.
[3] شفيق عبد الرحمن علي، مدارس الجغرافيا عند المسلمين، الرياض، ﺑﺤﻮﺙ ﺍﻟﻤؤﺗﻤﺮ ﺍﻟﺠﻐﺮﺍﻓﻲ ﺍﻻﺳﻼﻣﻲ ﺍﻷﻭﻝ، 1984، ص258-259.