تدور هذه المناظرة بين الغزالي الذي ألف كتابه “تهافت الفلاسفة” في القرن الحادي عشر الميلادي ، ليهاجم فيه آراء الفلاسفة ومعتقداتهم ، حيث قال ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب أنني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء وقد رفضوا وظائف الإسلام واستحقروا شعائر الدين واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ولا مستند لضلالهم إلا تقليد سماعي وأن مصدر ضلالهم سماعهم أسماء هائلة كسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم فلما رأيت هذا العرق من الحماقة انتدبت لتحرير هذا الكتاب

وابن رشد الذي واجه آراءه بعد ذلك بالنقد والتمحيص ،حيث ألف كتاب تهافت التهافت ، للرد على الغزالي ، وذلك في القرن الثاني عشر الميلادي .
وقد أشار ابن رشد في مقدمة كتابه هذا أن الغرض منه أن يبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب تهافت الفلاسفة لأبي حامد في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن رتبه اليقين والبرهان.

والأقاويل المثبتة كما عرفها أرسطوو قال بها إبن رشد: من زاوية الصدق واليقين هي:

الأقاويل البرهانية.
الأقاويل الجدلية.
الأقاويل السفسطائية.
الأقاويل الخطابية.
الأقاويل الشعرية.

وفي هذا الكتاب يخالف ابن رشد كلا من الغزالي والفلاسفة وابن سينا الرأى أحياناً ، وأحيانا أخرى يوافقهم، ويقول ابن رشد في كتابه فصل المقال عند الرجوع إلى كتب السلف (ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم)

وقد تكلم الغزالي وابن رشد باسم الدين ،واستخدم كلاهما النص الديني سواءلتأكيد رأيه ، وظهرت آراؤهما متضاربة ،الأمر الذي يجعل تحديد مدى صحة أيهما أوخطئه من النظرة الأولية ، أمراً صعباً .

تعريف ابن رشد للفلسفة

ومن أهم المواضع التي تكلم فيها ابن رشد عن الفلسفة وكيف يفهمها كتابه فصل المقال فيما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال  حيث قال ” إذا كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني : من جهة ماهي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك، فيبين أن مايدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع وإما مندوب إليه” .
وحاصل تعريف ابن رشد للفلسفة أنه عرفها بأنها النظر العقلي بشرط معرفة الخالق حالا أو مآلا .

استدلال ابن رشد على طلب الاعتبارالعقلي

وتعالج هذه المناظرة قضية الصلة بين الشريعة الإسلامية والفلسفة، وتنطلق من طرح السؤال عن السلوك الفلسفي هل هو مباح أم منهي عنه أم واجب أم مندوب ؟ لان الإجابة عن هذا السؤال –في نظر ابن رشد- ضرورية ابتداء لمن يريد القيام بإصلاح فكري يكون للفلسفة دورها فيه. ذلك أنه لوجاءت الإجابة بالتحريم كما ذهب إلى ذلك مالكية عصره لأصبحت مهمة الإصلاح عسيرة ، إما إذا جاءت الإجابة بالإباحة بحيث يتساوى فيها الفعل و الترك فيمكن أن لايكون لها دور في الإصلاح الفكري إذا ما اختير تركها، ولو جاءت الإجابة بالندب فسيكون دورها محدودا استحبابيا، ولكن إن كانت الإجابة بالوجوب فعندها سيكون للفلسفة دور رئيس في الحياة.

وقد كان الرأي الذي ذهب إليه ابن رشد هي أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل فيالموجودات واعتبارها حيث قال ” إذا كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع ” وهذا هو فعل التفلسف الذي يتم الاعتبار فيه ” استنباط المجهول من المعلوم ” الذي هو ممارسة للقياس العقلي أي لعلم المنطق.

وشرع في الاستدلال على أن الاعتبارمطلوب شرعا، فقال : ” فأما أن الشرع دعاإلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلبمعرفتها به، فكذلك بين في غير ما آية منكتاب الله تبارك وتعالى، مثل قوله تعالى: (فاعتبروا يأولي الأبصار ) وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي أو الشرعي معا.

فاستنبط من الأمر بالاعتبار وجوب معرفة أنواع الاستدلال العقلي، أي المنطق بمباحثه ومسائله، من قياس برهاني، وخطابي، وغيرهما، واستدل ابن رشد على ذلك بقوله: فإنه كما أن الفقيه يستنبط من الأمر بالتفقه في الأحكام وجوب معرفة المقاييس الفقهية على أنواعها، وما منها بقياس وما منها ليس بقياس، كذلك يجب على العارف أن يستنبط من الأمر بالنظر في الموجودات وجوب معرفة القياس العقلي وأنواعه، بل هو أحرى بذلك لأنه إذا كان الفقيه يستنبط من قوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الأبصار) وجوب معرفة القياس الفقهي، فكان بالحري أن يستنبط من ذلك العارف وجوب معرفة القياس العقلي، واستلزم لذلك فتوى وجوب النظر في كتب القدماء و الاستعانة بها حتى تكتمل المعرفة بالفلسفة وعلوم المنطق ،لأن وقوف واحد من الناس –في نظره- على المعارف كلها من تلقائه وابتدائه عسيرأو غير ممكن.

يقول ابن رشد ” فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلا للنظر فيها، وهو الذي جمع بين أمرين أحدهما : ذكاء الفطرة، و الثاني العدالة الشرعية و الفضيلة العلمية و الخلقية، فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة ، وذلك غاية الجهل و البعد عن الله تعالى” وكأنه يريد من ذلك إيجاب النظر في كتب أرسطو و الاستفادة منها في مختلف البحوث التي بحث فيها من طبيعيات وإلهيات…الخ بشرط أن تكون موافقة لشرائط البرهان.

ويتدرج ابن رشد في فتواه بوجوب الاشتغال في الفلسفة والنظر في كتب القدماء منهم ليصل إلى نتيجة أن الفلسفة التي تقوم على النظر البرهاني لا تتعارض نتائجها مع المعرفة الواردة في الشريعة الاسلامية لأن شريعتنا هذه الإلهية حق وما نصل إليه من معرفة بطريق النظر البرهاني حق و الحق -كما يقول- ” لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.

هذا هو التصور الكلي الذي انطلق منه ابن رشد في مناظرته للغزالي، فهو يرى أن دراسة الفلسفة والمنطق و النظر كتب القدماء واجبة شرعا لمن كان أهلا لها، والتفلسف البرهاني المنضبط بالضوابط الشرع، لا يخالف الشريعة وما جاء فيها، بل يوافقها ويشهد لها ويدعهما، كما توافقه الشريعة وتشهد له في الوقت نفسه، وهذا هو تقرير الصلة بين الحكمة والشريعة من الاتصال.