ممدوح الشيخ

شكلت العلاقة بين العالم الإسلامي وأوروبا قضية مؤرقة للجانبين تأريخا وتدقيقا وتحليلا وتحريفا وتفنيدا، فالتفاعل بين الجانبين ظل لقرون هو المؤثر الأكبر في العلاقات الدولية خلال العصور الوسطى.

في المقابل ظل التأثير الذي أحدثه الفن الإسلامي في الفن الأوروبي -إلى حد كبير- مجالا بكرا، ويشكل كتاب: “التلامس الحضاري.. الإسلامي الأوروبي” (صدر في سلسلة عالم المعرفة الكويتية – أغسطس 2009) للدكتورة إيناس حسني عملا مميزا شديد الغنى بالتحليل، إلى جانب التتبع الدقيق لمسار “التلامس الحضاري” الإسلامي الأوروبي في الفن.

الفن عمل مركب

ولأن الفن هو في النهاية عمل مركب لا يمكن اختزاله في الأبعاد الأداتية المباشرة فإن الغوص فيما وراء الفن شرط موضوعي لاستكناه علاقة التأثير والتأثر بين مدرستين فنيتين وراء كل منهما رؤية كونية شاملة للوجود وما وراء الوجود والإنسان والكون.

وتلخص إيناس حسني المسافة بين الحضارتين قائلة: “يقف الفن الإسلامي منذ نشأته على طرف نقيض مع الفن الغربي في أوروبا المسيحية من حيث الروح والجوهر، وبالتالي من حيث الشكل والمظهر، ولعل أهم نواحي هذا الاختلاف وأبرزها أن الفن الغربي قد قام على المعرفة الحسية، بينما يقوم الفن الإسلامي على المعرفة الحدسية، وإنه لفارق هائل وكبير، ذلك الفرق بين الحس والحدس.

فالأول مجرد صورة واقعية محددة انطبعت في العقل الواعي نتيجة عمل فكري منظم وحساب رياضي دقيق.

أما الثاني فيعني تلك الشحنة الوجدانية الهائلة والطاقة الانفعالية العارمة والإشعاع النوراني الخاطف الذي يجتاز الحدود العرضية والقشور المادية كي يستقر دون مقدمات عقلية أو دلالات منطقية في عالم الحقيقة المطلقة”.(ص 147)

فالمسافة بين الحضارتين وبين الفن الذي أنتجته كل منهما هي نفسها المسافة بين عالم الحس وبين الحقيقة المطلقة.

وتضيف الكاتبة أن: “المعرفة الحدسية ذات امتداد مخروطي؛ حيث تزداد اتساعا كلما ازدادت عمقا”، والعكس بالعكس، “أما المعرفة الحسية فهي ذات امتداد أسطواني؛ ولذلك فهي سطحية لا يفيد معها التعمق”.

وعلى هذا الأساس فإن الفن الإسلامي ينطوي في جوهره على معنى الحدس؛ إذ يستلهم الفنان موضوعه ويستجمع شتاته عن طريق الحدس لا عن طريق الفهم فقط، ذلك الحدس الذي عن طريقه يمكن إدراك المطلق والجوهر الخالد (الله)؛ لأن إدراك الله الجوهر الخالد لا يتحقق عن طريق العقل والمعرفة الحسية، بل عن طريق المعرفة الحدسية، ذلك النوع من المعرفة الذي يفوق الحس والفهم والتعقل. (ص 148).

الفن الجسدي

أما الفن الغربي فقد حفل منذ عهوده الإغريقية بالشكل الحسي المتمثل في الكمال الجسدي والجمال البشري في مختلف صوره، سواء في صورة الإله زيوس إله القوة، أو أبوللو إله الفن، أو فينوس إلهة الجمال أو أثينا إلهة الحكمة.

وبالتالي فإن المثال والمطلق والجوهر الخالد قد تمثل في ذهن الفنان الغربي في “الجسم الإنساني”، وهذا هو المقصود بقيام الفن الغربي على المعرفة الحسية.

ومع مطلع العصر الحديث كانت التأثيرات التي أحدثها المفهوم الإسلامي للفن قد نضجت في العقل الغربي، وبظهور فلاسفة مثل هنري بيرجسون وبندتو كروتشة تغيرت النظرة الغربية للفن ليصبح نوعا من المعرفة الحدسية, وبهذا التحول انطلق الفنان الغربي ليتخلص من الحدود المادية الضيقة التي ظل مخلصا لها لعصور طويلة مضت، وهو بهذا تخطى الغلاف العرضي للوجود في محاولة الوصول إلى الحقيقة المطلقة.

وبعد أن كانت رسالة الفنان الغربي -حتى القرن التاسع عشر- مقصورة على التعبير على ما يشاهده في عالم الواقع أصبح اليوم يولي وجهه شطر الحقيقة ويسعى إلى التعبير عن المضامين والأفكار والمعاني والأسرار التي تنغلق عليها الطبيعة وتطويها في أعماقها.

وانطلاقا من التحول في النظرة إلى الفن اقترب الفن الغربي من روح الفن الإسلامي على مستوى المفهوم والفلسفة في مشهد من مشاهد التلامس الحضاري الإسلامي الأوروبي الذي لم يحظ -رغم أهميته- بعمل يؤرخ له.

وقد نشأ عن ذلك التحول الهائل في المجرى الرئيسي للفن الغربي من بواعث فكرية وسيكولوجية كان لها صدى قوي في تحول نظرة الفنان الغربي عما كان يفتتن به بالأمس من الظواهر السطحية للأشكال الحية والصامتة إلى ما هو مستتر تحت رداء هذه المظاهر من المضامين العميقة والحقائق الجوهرية.

وتؤكد الدكتورة إيناس أن الفارق بين هذه النظرة الصوفية الحديثة وتلك النظرة الواقعية للطبيعة كالفارق بين عالمين.

وبناء على هذه الحقائق تأخذ خطوات الفنان الحديث طريقها في الاقتراب من روح الفن الإسلامي ومفهومه وفلسفته، والثمرة الأولى لهذا التحول تتمثل في انتقال الفنان الغربي من محاكاة الواقع إلى التجريد.

 

الخروج عن التقاليد

وقد كانت التأثرية أول خطوات خروج الفنان الغربي على التقاليد وقيود القواعد البالية، وقد كانت بداية تحول مسيرة الفن وانعطاف الحياة الفنية نحو نظريات العلم.

وقد لجأ الفنان الغربي في أولى خطوات مسيرته بعيدا عن ميراثه الفكري والعملي إلى فنون الشرق.

وتعد حركة الاستشراق الفني أحد النوافذ المهمة التي أطل منها الغرب على فن الشرق، بل على حضارته بوجه عام.

ومن الفنانين التأثريين الذين زاروا العالم الإسلامي مشرقه ومغربه مونيه ورينوار وبازي وديجا.

ومن المدارس الغربية الفنية التي تأثرت بالمفهوم الإسلامي للفن أيضا “جماعة الأنبياء”، ويعد المعرض الذي نظم في باريس عام 1903 للفن الإسلامي نقطة انطلاق للتأثير الإسلامي الواضح في فن الوحشيين.

وتفرد الكاتبة جزءا كبيرا لفن هنري ماتيس بوصفه أكثر ممثلي مدرسة الوحشيين، وترى أن أهم سمات الفن الإسلامي في فن ماتيس: النزوع التجريدي، والخط كعنصر أساسي في التصميم، والتسطيح ذو البعدين، وجمالية اللون الأولية.

وبعد الوحشية جاءت التكعيبية معتمدة في أول الأمر على التحليل الهندسي لعناصر الطبيعة، ولا تقتصر أهمية التكعيبية على الفن، بل كانت القوة المحركة لكثير من المذاهب التي جاءت في إثرها -إما بفعلها أو ردا عليها- كالمستقبلية والتجريدية.

وامتد التأثير الطاغي من فن التصوير إلى سائر الفنون (العمارة، والأثاث، والإخراج المسرحي، وأشكال الآنية، والحلي، ورسوم المنسوجات، والتصميمات الصناعية)، بل إننا لا نبالغ عندما نقول إن “كل ما هو ذو شكل عصري في هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم إنما يرجع في أصله إلى النزعة التكعيبية. (ص 206)

وتتوقف المؤلفة بشكل مطول مع بابلو بيكاسو كرمز رئيسي للمدرسة التكعيبية، وقد كان أكثر جرأة من ماتيس وأشد خروجا على المظهر البصري للعالم، وأنجز بيكاسو هذا التحول عبر تحطيم الشكل الطبيعي عبر “الانفجار البصري” ليعيد تنسيق فئات هذا الانفجار بالصورة التي تتفق مع رؤيته الجمالية.

ويعد أهم ملامح تأثر بابلو بيكاسو بالفن الإسلامي نزوعه إلى بناء منظور مبتكر أبرز سماته تفتيت الشيء إلى أجزاء وتنظيمها في صورة مجموعة من السطوح.

وتنقل الدكتورة إيناس حسني عن بيكاسو قوله: “إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن التصوير وجدت الخط الإسلامي قد سبقني إليها”.

وبصفة عامة ترمي التكعيبية إلى الكشف عن الجوهر الكامن وراء المظهر الخارجي وتعرية هذا الشكل وصولا إلى الحقيقة المطلقة، وإذا كان الكشف عن الجوهري الكامن وراء المظهر الخارجي هو نفسه هدف الفنان المسلم وغايته، فإن الفن التكعيبي بهذا المعنى يتفق مع الفنان المسلم في الغاية والقصد، لكنه في الوقت نفسه يختلف معه في وسيلة تحقيق الهدف والغاية.

العمارة الأوروبية

وتتوقف الكاتبة كذلك مع التأثير الكبير للفن الإسلامي في أنماط العمارة الأوروبية، فما تزال الآثار الرائعة في الأندلس وفي جنوب فرنسا، وحتى بعد سقوط دولة المسلمين في الأندلس؛ حيث بقي المسلمون هم كبار المعماريين في إسبانيا لينشروا ما سمي بـ”الفن المدجن”، وهو فن امتد تأثيره في أوروبا ليشمل معمار الكنائس والأديرة الأوروبية، ولاحقا انتشر تأثير الفن الإسلامي في المعمار إلى إيطاليا.

وإلى جانب فن العمارة ترك الخط العربي أيضا بصمات مهمة في تاريخ الفن الغربي؛ إذ كان من أهم ما استرعى الفنانين الأوروبيين، وبلغ من إعجاب الأوروبيين بالكتابة العربية أنهم نقلوا بعض العبارات دون أن يعرفوا معناها.

وشاعت الزخرفة العربية على منسوجات حريرية صنعت في أوروبا واستخدمت في حفظ مخلفات القديسين.

وفي نهاية مسار التأثير الكبير للفن الإسلامي في الفن الأوروبي أقبلت مدن أوروبية على سك عملات معدنية عليها عبارات بالعربية، بل آيات قرآنية.

وتعتبر الدكتورة إيناس أن أهم الفنانين الذين استفادوا من الفن الإسلامي: فاسيلي كاندنيسكي، وبول كلي، وموندريان، وفيكتور فازاريللي، وخوان ميرو، وأندريه ماسون، ومارك توبي، وغوستاف كليمت، وماكس إرنست.