نشأت الدراسات الحديثة التي تناولت الفن الإسلامي في ظل الدراسات الاستشراقية الغربية التي لم تقصر همها على دراسة صنوف المعرفة الإسلامية وإنما امتدت إلى دراسة التجليات المادية للحضارة الإسلامية ومن بينها الفن، وقد تأثرت الدراسات الفنية بها لحقب طويلة لاحقة حيث بدت تعبيرًا عن النظرة الاستشراقية للفن الإسلامي أكثر من كونها تعبيرا حقيقة هذا الفن ومقاصده، ولعل هذا ما وجه بعض المفكرين المسلمين إلى الاهتمام بنقض الرؤية الاستشراقية للفن الإسلامي من جهة والعمل من جهة أخرى على تأصيل نظرية الفن في الإسلام من جهة أخرى، والتي كان لإسماعيل راجي الفاروقي، وجارودي، وعلي عزت بيجوفيتش إسهاماتهم المقدرة في بلورتها.

وتقوم النظرة الاستشراقية على فكرة جوهرية مفادها أن الإسلام لم يسهم في إطلاق الفنون بل إنه أعاق الفنانين المسلمين وحد من قدراتهم الإبداعية وقيدها بتحريمه التصوير الإنساني متأثرا في ذلك بالتحريم اليهودي، وأن الإضافة الوحيدة التي قدمها الفن الإسلامي هي في مجالي الخط والزخرفة، فالفن الإسلامي فن زخرفي يُعنى بالزخارف وليس التصوير ولذلك فهو فن خال من المضمون، ويذهب بعض المستشرقين استنادا إلى ذلك أن الفن الإسلامي فن يخلو من النظرية وأنه اقتبس كثير من سماته من الحضارات الأخرى[1]، وهذه الافتراضات راجعة إلى أن المستشرقين يجعلون من الفن الإغريقي معيارا ينبغي أن تقاس عليه كافة الفنون في مختلف الحضارات، دون إدراك أن الفن هو تعبير عن جوهر عقدي أو حضاري معين وأن أشكال التعبير الفني عن ذلك تتفاوت بين الحضارات.

خصائص الفن الإسلامي

لم تلبث تلك الدراسات الاستشراقية أن تعرضت للدحض من قبل الدراسات الفنية الحديثة التي درست الفن الإسلامي وأجمعت على أن الفنون الإسلامية المختلفة تتمتع بخصائص ذاتية، ومن مجموعها تتشكل قواعد ما يمكن أن يطلق عليه نظرية الفن في الإسلام، ومن بين هذه القواعد:

كراهية الفراغ: وتتجلى في ميل الفنانين المسلمين إلى تغطية المساحات، وهربهم من تركها بدون زينة أو زخرفة، فإن من أكثر ما يلفت النظر في العمائر والتحف الفنية الإسلامية ازدحام الزخرفة وكثرتها واتصالها حتى تغطي المساحة كلها أو جزءًا منها؛ ويعبر الغربيون عن هذه الظاهرة في تعريف  بالاصطلاح اللاتيني Horor vacui أي الفزع من الفراغ.

الزخارف المسطحة: يستلفت النظر أن النتوء والبروز نادران في الرسوم الإسلامية؛ إذ انصرف الفنان عنهما خوفا من الوقوع في التجسيم إلى تغطية المساحات برسوم سطحية، ولكن التلوين والتذهيب خففا كثيرا من وطأة هذا النقص.

التجريد والبعد عن الطبيعة: لم يحاول الفنانون المسلمون تمثيل الطبيعة ومحاكاتها في رسوماتهم بقدر ما كانوا يرسمون الأشياء كما يصورها لهم خيالهم، فطغت على فنونهم الاصطلاحات والأوضاع المبتكرة، ومالوا إلى الأشكال التجريدية، وكان نفور المسلمين من تقليد الخالق أكبر مشجع لهم على عدم اقتفاء أثر الأساليب الفنية الإغريقية القديمة التي تنحو نحو تمثيل الطبيعة وتصويرها، وهذه التجريدية ليست سببا لإضعاف الفن الإسلامي كما يزعم مؤرخي الفن الغربيين بل هي على الضد من ذلك فقد أكسبت الفن الإسلامي شخصيته.

التكرار والتداخل: فالمشاهَد أن الموضوعات الزخرفية تتكرر على العمائر والتحف الإسلامية تكرارًا يلفت النظر، وإننا لنرى ذلك في الموضوعات التي يرسمها المصور في المخطوطات، وفي الزخارف الهندسية الخشبية ، وفي الزخارف الخزفية، وفي الزخارف التي تسود العمائر، وفي سائر التحف الإسلامية على الإطلاق[2]. وهذا التكرار والتشابه بين المنحنيات والأشكال الهندسية المتساوية الأضلاع ترمز كما يقول جارودي إلى امتداد روح الله وانقباضه السرمدي الذي جاء عنه في القرآن ” ولله ما في السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور”.

الأفقية: وهي إحدى الخصائص المميزة للفنون عموما وعمارة المسجد خصوصا، وهي تعبير عما هو ثابت في الطبيعة كالسهل والبحر والصحراء، ويعكس في ذات الوقت نظرية المساواة في الإسلام، فهناك “غابة متراصة ممتدة داخل المسجد هذه الغابة ربما تكون التعبير المعماري الذي هو أقرب ما يكون إلى جماعة المصلية المتراصين تحت السماء”، وقد جعل قانون الأفقية الفنان المسلم ينفر من الاتجاه الصعودي الرأسي باستثناء المئذنة التي تضاد الأفقية الغالبة على المسجد، وترمز إلى ضرورة التسامي والتوجه نحو السماء والتطلع إليها في الصلاة وفي جميع الأعمال[3].

فلسفة الفن لدى المفكرين

وانطلاقا من التلاحم بين المبادئ العقدية والفن حاول بعض المفكرين المسلمين استجلاء العلاقة بين الإسلام والفن، والكشف عن مقاصد الفن ووظيفته الجمالية والعقدية، ومن أولئك الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي الذي سعى إلى توضيح العلاقة بين الفن والتوحيد؛ مفترضا أن “التوحيد هو مبدأ الجمال” وهو بذلك يعده الأصل الفكري لنظرية الفن في الإسلام، والتوحيد يمتد ليتجاوز حقيقة كون الله هو الأله الواحد المتعالي وإنما يشمل أيضا فكرة التكوين الجمالي في العمل الفني المباشر المحسوس، أو البحث والتعبير عن المتعالي الذي يسمو على أي وصف ويستحيل تمثيله بأي صورة.

ومن خلال الربط بين التوحيد والفن يعارض الفاروقي المفهوم الغربي للفن، الذي يعد الفن “محاكاة فوتوغرافية ساذجة للطبيعة، بل هو بالأحرى محاولة للتمثل الحسي لفكرة قبلية وتجليات لحظية لفكرة الطبيعة والإنسان الذي هو أغنى تجليات الطبيعة وأعقدها”.

وأما جارودي فيمضي موضحا جوانب من علاقة الإسلام والفن، وهو يفترض أن المسجد هو نقطة التقاء جميع الفنون، وأن جميع الفنون تؤدي إلى المسجد الذي يستجيب بطبيعة بنيته ذاتها إلى وظيفته، فهو لا يشبه الكنيسة المسيحية ولا المعبد اليوناني، إذ لا يحوي على نقطة ثابتة تضم رفات القديسين، وهو ليس إطارا زخرفيا لإقامة احتفال ديني، وإنما هو عكس الكنيسة والمعبد يمتد أفقيا ليتيح لأكبر عدد من المؤمنين الصلاة بمواجهة القبلة.

إن الحيز كما يعتقد جارودي هو أحد مميزات الفن الإسلامي، فلا يحتوي المحراب أي تمثال أو صورة، وهذا الفراغ ربما يرمز إلى الله سبحانه وتعالى الموجود الحاضر في كل مكان ولكنه لا يُرى في مكان، وهذا هو السبب الأساسي لاستبعاد الصورة من الفن الإسلامي، أما الأديان الأخرى فعلى العكس إنها تخلق محور “نواة” من الحقيقة أكثر كثافة وغايتها جعل “اللامرئي” مرئيا وملموسا، لكن الإسلام بحكم عقيدته يقتضي أن يتجرد الإنسان من المحسوسات وأن يتوجه نحو الحقيقة الإلهية بكليته متساميا عن الشكل والصورة[4].

ويمضي على عزت بيجوفيتش إلى مدى أبعد مما ذهب إليه الفاروقي وجارودي، فهو لا يربط بين الإسلام والفن وإنما يربط الدين في عمومه وبين الفن، وهي تتأسس على أن الفن هو ابن الدين، وإذا أراد الفن أن يبقى حيا فعليه أن يستقي دائما من المصدر الذي جاء منه، وجوهر التشابه بينهما يكمن في أن الفن يتحدث عن الشخصية والدين يتحدث عن النفس، وهما غير مختلفان في الجوهر ولكنهما يختلفان في طريقة التعبير عن الفكرة ذاتها، ويضرب مثالا لذلك بالفنان البدائي الذي كان يولي عناية فائقة في الرسم والنحت بالوجه الإنساني اعتقادًا منه أن النفس تكمن خلف الوجه على حين يهمل باقي الجسد، واستمر هذا حاضرا لدى فناني عصر النهضة الذين بدوا مأخوذين بوجه الإنسان وعالمه الجواني، ولعل شهرة الموناليزا ترجع إلى أنها أنجح المحاولات لتصوير الحياة الجوانية للإنسان، إن الفن في بحثه عما هو إنساني وجواني قد أصبح بحثا عن الله.


[1] إدهام محمد حنش، نظرية الفن الإسلامي عند المفكر إسماعيل راجي الفاروقي، عمان: إسلامية المعرفة، مج 19، ع 74، 2013، ص 132- 133.

[2]  زكي محمد حسن، في الفنون الإسلامية، في الفنون الإسلامية، طبعة هنداوي.

[3]  السيد محمد عبد العزيز سالم، أسرار الجمال في الفن الإسلامي، القاهرة: المجلة، س2، ع 22، 1958، ص 90-91.

[4] روجيه جارودي، وعود الإسلام، ص 137-138.