يركز المقال على مفهوم القدر وحرية الإنسان في أعماله واختياراته، ومصير الإنسان في الدار الآخرة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار مع التأكيد على أن الله قدّر وخلق كل شيء وكتبه وقضاه، وهذا من تمام الإيمان بالقضاء والقدر، وتعكس ثمراته على الوعي الذاتي للإنسان وقدرته على محاسبة النفس وإحسان الظن بالله تعالى.
لقد خلق الله تعالى الإنسان ليعبده، وجعله خليفته في الأرض حتى يمتحنه وينظر كيف يعمل. وهو تعالى كان ولازال عليمٌ بما سيحدث ومن سيطيعه ومن يعصيه في سابق علمه، إلا أنه قدر على الإنسان أن يمر بهذا الإمتحان ويختار طريقه وأعماله ويجازيه عليها؛ إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً. فتقام بذلك الحجة عليه وبما كُتِب له في صحائف أعماله. وكذلك لتتجلى له قدرة الله وسيطرته عليه وعلى جميع مخلوقاته، وليؤمن بوحدانيته وأُلوهِيته في قلبه ويسلم له طوعاً. فلا يسع إنسان بعدها أن يقول “رب لقد خلقتني للنار فهذا ليس عدل”؛ أو أن يحتج بالقدر كما يفعل الكفار في النار.
فالله تعالى عادل لا يظلم أحداً، والخاسرون هم من ظلموا أنفسهم بكفرهم. فما دخل أحدا النار إلا بسوء عمله وغروره، ولولا ذلك لما شهد عليه كتابه يوم القيامة، قال تعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]. وقال: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: 13-14].
فعلينا إذن بالتوبة والرجوع إلى الله والاستغفار والإنابة ومحاسبة النفس. والله تعالى رقيب علينا وعلى ما تقترفه أيدينا بالليل والنهار، كما أنه يعلم ما تخفي قلوبنا وأسرارنا، وكل إنسان بصير بنفسه، ويعرف تماماً ما قدم وما أخَّر، ويوم القيامة لا يستطيع أن ينكره. ولذا كان حرياً به أن يراقب الله في السر والعلن وفي القول والعمل كما يراقبه هو. قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]. وقال: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
القدر وأعمال الإنسان
ومن رحمة الله بالإنسان أنه مكنه من اختيار أعماله وعقيدته ودينه، فلم يجبره على شيء منها، وله الحرية في أن يختار طريقه، ولا يعنى ذلك أن أفعاله خارجة عن قدر الله وقدرته وأرادته. فلا يملك أنسان ان يفعل في ملك الله ما لم يأذن به، وهو سبحانه يعلم ما سيفعله عباده وكتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، وكل شيء يحدث في ملكه مسطر ومكتوب ومعروف له مسبقاً.
ودليل ذلك ما جاء في الحديث عن عبد الله ابن عمر – رضي الله عنهما -: (إن أول شيء خلقه الله عز وجل: القلم، فأخذه بيمينه – وكلتا يديه يمين – قال: فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول: بر أو فجور، رطب أو يابس، فأحصاه عنده في الذكر، ثم قال: اقرأوا إن شئتم هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون؛ فهل تكون النسخة إلا من أمر قد فرغ منه)[1]. وقوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: 29].
وهذا يؤكد على أن أعمال العباد مكتوبة ومقدرة مسبقاً، وليس من العقل أو المنطق أن يخلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ثم يفرض عليه أعماله. نعم الله قدرها وخلقها ويغير فيها ما يشاء كما يشاء، وذلك بتغيير قلب الإنسان وإرادته وبتغيير أقداره وما كتبه فيها، ولكنه سبحانه أعطانا الحرية في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، ولا ينكر ذلك إلا ضال أو مجنون.
فالمقال الذي أكتبه الآن قدره الله لي منذ الأذل في سابق علمه، ولكني أكتبه الآن بكامل قواي العقلية، ولم يجبرني أحد على كتابته، وإن قلت بغير ذلك كنت كاذبة، فما كتبه الله هو ما علمه عني في سابق علمه بأني سأقوم بذلك. وكان بإمكانه وقدرته تغيير ما يشاء في ذلك إن أراد؛ كأن يصرفني عنه أو يصيبني بعائق يمنعني منه أو يحول قلبي من الرغبة في كتابته، ولكنه تعالى لم يفعل … فتركني لما اخترت فعله وأذن لي به … وكأنه سبحانه يعطيني الفرصة ليمتحنني وينظر ماذا اكتب وما يتفوه به قلمي. ولتفسير كل ذلك وفهمه لابد من الإيمان بصفة علم الله التام بالسابق واللاحق، وصفة عدله، والإيمان بقضائه وقدره.
وإذا كان الله سيفرض علينا ما نختاره لما وهبنا العقل الذي نفكر به والقلب الذي نؤمن به، ولما أمرنا بالتفكر في أنفسنا وفي مخلوقاته وآياته الكونية؟ قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]. وقال: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 185].
وما فائدة العقل إن لم يكن لنا اختيار في أعمالنا؟
وكذلك لم أمرنا الله كثيرا في آياته بأحكام الإسلام وأوامره المختلفة حين يقول يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا أو تجنبوا كذا؟
ولم قال لنا: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]؟
فكلمة “شاء” تعني “أراد”؛ ولا ينبغي أن تؤول على غير معناها الظاهر دون قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي كما قال أهل التفسير. فلو لم تكن لنا قدرة على الاختيار لما أمرنا الله به لأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها. ولو لم يشأ الكفار الكفر لم يدخلهم الله النار، ولو لم يعص العصاة الله لما شهدت عليهم جوارحهم، ولما غضب الله عليهم، وكيف سبحانه سيغضب عليهم لشيء فرضه عليهم؟ فذلك سيعنى أنه يغضب لعمل عمله وقدَّره بنفسه؟!
وكيف يحاسبهم في شيء ليس لهم يد فيه ولم يختاروه بأنفسهم؟
فاحتجاجهم بالقدر ذلك مردود عليهم. قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ﴾ [النحل: 35]. وقال: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 20].
وهذا يرد على من غالى في القدر ونفى إرادة العبد في عمله كالجبرية الذين قالوا أن العبد مجبور في أعماله وأن الكفار مجبورون على الكفر. وهذا القول باطل ويكذِّبه القرآن الكريم كما بينا سابقاً، كما تكذبه أعمالنا. ولو لم يكن للعبد إرادة في اختيار دينه وعمله لماذا أرسل الله لنا الرسل ومعجزاتهم وكتبهم ورسالاتهم؟!
ولماذا جعل هناك جزاءً وحسابًا وجنةً ونارًا وفائزين وخاسرين؟!
ولمَ يمتحننا بالإيمان والكفر؟!
ولو كنا مجبرين على أحدهما لفسد الإمتحان وأصبح بغير هدف ولا مغزى وصار خلق الكون عبثا. وقد أنكر الله ذلك على اعتقد به في قوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115].
ورغم أن الله تعالى خير الإنسان في عمله؛ إلا أن هذا التخيير ليس على إطلاقه في كل شيء، فلا ينكر أحدا أن هناك أقدار لا يستطيع أن يختار فيها الإنسان ولا يد له فيها.
ومثال ذلك اختيار أين يكون مكان ميلاده، ومن يكون أبويه، وما جنسه، وما شكل خلقته وأين سيموت، وهكذا.
وهناك أقدار أخرى يختارها الإنسان بإرادته، وقد علمها الله تعالى في سابق علمه وقدرها له. وله سبحانه أن يغير فيها أو يفعل ما يشاء، وهو بحكمته وعدله ورحمته بعباده جعل للإنسان إرادة فيها. ومثالها اختيار الطاعة والمعصية، واختيار الكفر والإيمان، واختيار السلوك القويم والانحراف. قال تعالى: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15].
وكذلك يسر لنا الله اختيار معظم قراراتنا الحياتية والدنيوية؛ مثل ماذا تريد أن تدرس؟ وما عملك؟ وأين تسكن؟ وما إلى ذلك..
عقيدة الجبرية والقدرية
وهناك من نفى القدر في أعمال العباد كالقدرية وجعل العباد خالقين لأفعالهم، وهؤلاء أيضا تاهوا مثل الجبرية ولكن في الاتجاه المعاكس. فالله تعالى قدَّر أعمال العباد وخلقها أيضا، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96]. ولو كان العباد خالقين لأفعالهم كما يقولون لتنافى ذلك مع أن يكون الله هو خالق كل شيء، وهذا كفر لأنه يكذب القرآن الذي بين أن الله خالق كل شيء. ويتنافى كذلك مع حديث القلم واللوح المحفوظ السابق ذكره. قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام: 102].
وقد كتب الله تعالى من سيكون أصحاب الجنة ومن أصحاب النار؛ وذلك لعلمه وإحاطته بأعمالهم وقلوبهم وما سيقع منهم.
روى عن عبد الله بن عمرو أنه قال: (خرج علينا رسول الله ﷺ وبيده كتابان، فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبدا. ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا.
فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟
فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل ثم قال رسول الله ﷺ بيديه فنبذهما ثم قال: فرغ ربكم من العباد: فريق في الجنة: وفريق في السعير)[2].
وهذا يبين أن الإنسان عبد لله، ويستطيع أن يختار الكفر او الإيمان ولكنه لا يستطيع أن يخلقهما. وأرادته تابعة لإرادة الله وتحت مشيئته، وهذا يثبته الواقع الذي نمر به، فكم من ساعة نقرر فعل شيء ولكن الله يقدر ألا نفعله.
فمثلا ربما قررت أن تذهب للحج هذا العام؛ ولكنك لم تستطع، ربما نقص مالك عن التكلفة أو مرضت أو لم يتم اختيارك من قبل لجنة اختيار الحجاج أو مت قبل ذلك وما إلا ذلك. فهذه الموانع كلها من قضاء الله وقدره. وربما أراد الله تعالى بها أن يكتب لك الأجر دون أن تتكبد المشقة. قال ﷺ: (من هم بحسنة فلم يعملها؛ كتبت له حسنة؛ فإن عملها؛ كتبت له عشر أمثالها إلى سبع مئة وسبع أمثالها، فإن لم يعملها؛ كتبت له حسنة)[3] وغير هذه العراقيل التي قد تواجه الإنسان فيما ينوي فعله.
وهناك أيضا تقليب القلوب بيد الله، وجاء في الحديث: (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء) [4]، ودعائه ﷺ بقوله: (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)[5].
الاحتجاج بالقدر
ورغم أن القدر ليس بعذر للكفر وأن بمقدورنا أن نؤمن وأن الله تعالى لم يجبرنا عليه، ولكن من يتكبر على الله وعلى طاعته ويختار المعصية والكفر قد يختم الله على قلبه فلا يعد يقبل إيمان بعدها والعياذ بالله. وهذا عقاب له على كفره وتكبره على خالقه ورفضه الإيمان ابتداءً. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 6-7].
والله تعالى عادة يمهل العبد ويعطيه الكثير من الفرص ليتوب، ويبتليه بالمصائب والأمراض لعله يرجع وينيب، ويرسل له الإشارات، وهو لا يريد تعذيبنا وأرسل لنا الرسل والناصحين حتى ننجو وهو أرحم بنا من أمهاتنا ويفرح بتوبة عبده، قال ﷺ: (إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني مشيا أتيته هرولة) [6].
ولكن من يصرُّ ويتمادى ويبارز الله بالكفر يغضب الله عليه ويختم على قلبه، وكثرة المعاصي دون توبة والمجاهرة بها تُهلِك الإنسان وتجلب له النفاق وسواد القلب، قال ﷺ: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها، حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14])[7].
والله تعالى ذكر أن الهداية والضلال بيده، فلا يظن أحد أنه يملك كل شيء في ذلك القرار. قال تعالى: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39]. فرغم أن الله خير الإنسان في ذلك ولكنه يمكن أن يضله إن رأى منه ما يغضبه، ولذا أمرنا الله تعالى بأن نستغفره ونستعين به ونطلب منه الهداية في كل يوم وكل صلاة وكل ركعة، حين نقول في سورة الفاتحة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 5-6].
وعلمنا خير البرية بأن نقول دبر كل صلاة: (اللهمَّ أعنِّي على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادَتِك)[8]، فعلينا بالاستغفار وأن نعبد الله بين الخوف والرجاء ونخشى مكره وإضلاله لنا، وهذا يحقق الوحدانية المطلقة لله. فلا يظن عبد أنه يمكن أن يقترف المحرمات ويعيش طيلة حياته على اللهو والكفر اعتمادا على أنه سيتوب قبل الموت، فربما يغضب عليه الله ويمنعه من ذلك في آخر عمره وينتهي بسوء الخاتمة.
وهنا يأتي تدخل القدر حيث يظهر أثره كثيراً في الخواتيم، وعند الموت تُفتضح سرائر الناس وأعمالهم. فمن ختم له بسوء يكون عادة عاش على المعصية، وحتى لو ظهر للناس بالصلاح إلا أن الله يعلم سريرته. وليس ذلك لأن الله ظالم له، بل لما أسَّرَّ في قلبه، ونحن لا نعلم ما في نفوس الناس ولا ندري ما يضمرون ولا ما كسبت قلوبهم ومعتقداتهم، فربما ساءت خاتمة المرء لخلل في عقيدته أو لسوء النية أو لذنوب الخلوات أو للرياء والنفاق؛ أو المجاهرة بالمعاصي أو لفساد القلب أو لتغلب الشهوات أو غيرها من المهلكات، فيقدر الله له الموت على كفر أو أثناء معصية.
وكذلك كم رأينا من حسن الخاتمة لأناس لا يبدو عليهم كثير من الصلاح، وربما ينجيهم الله لتوحيدهم وحسن سريرتهم وحسن خلقهم ونقاء قلوبهم وعفوهم عن الناس وما إلى ذلك من العبادات التي تكون بين العبد وربه.
فقه الإيمان بالقدر
وفهم القدر من أقوى ما يجعل المرء يخبت لله ويزيد من خوفه وخشيته ويجعله يجد في طلب الآخرة والسعي في مرضاة الله. ولذا علينا تعليمه لأبنائنا منذ الصغر وإفهامهم جميع جوانبه حتى لا يقعوا في الغلو في جانب منه، ويهلكوا به.
ويجب تعليمهم أن الصواب في القدر هو الوسطية التي تحميهم من اعتقاد القدرية في نفي القدر في أعمال العباد ونفي خلق الله لها، ومن معتقد الجبرية بأن الإنسان لا إرادة له ولا خيار في عمله. فهم وسط في ذلك، ولا يغالون في جانب دون الآخر. ويسلموا بكل ما جاء وصح عن الرسول ﷺ في القدر واتبعوا ما كان عليه هو وصحابته الكرام.
وهذا هو المعتقد الذي تعتقده الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: “أهل السنة والجماعة وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية[9].
فعلينا ألا ننفي القدر ونؤمن بأن الله خالقنا وخالق أعمالنا وبيده مصائرنا. ونؤمن كذلك بأن الله تعالى أرسل لنا الرسل وأمرنا بالإيمان والعمل الصالح ووهبنا العقل لنختار به وجعل لنا القدرة على اختيار أفعالنا والقيام بها، وأنه تعالى يمتحننا بهذا في الدنيا لجزينا بما عملنا في الآخرة، فلا ننكر القدر ولا نعتقد أن بيدنا أن نفعل في ملك الله ما لا يريد أو أن نقوم بشيء بدون أن يأذن به لنا، وأن بإمكانه أن يمنعنا عن عمل أردنا القيام به لو شاء حتى ولو كان طاعة، وأن قلوبنا بيده، وأنه ليس بظلام للعبيد.
ونؤمن بأن أهل النار دخلوها لسوء أفعالهم التي علم الله أنهم سيفعلونها بسابق علمه. ونؤمن بأن الهداية والضلال بيد الله، وأن علينا أن ندعوه ونسأله التوفيق للإيمان والعمل الصالح ونستعيذ به من الكفر والشرك والخذلان، وهذه هي سنة النبي ﷺ والأنبياء من قبله، بدليل أنهم كانوا يدعونه تعالى ليوفقهم للعمل الصالح والصلاة والموت على ملة الإسلام. قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40]، وقال على لسان يوسف عليه السلام: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].
هذا والله تعالى أعلم، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للإيمان والعمل الصالح ويثبتنا على طاعته حتى الممات ويتوفنا مسلمين ويحشرنا في زمرة الأبرار والصالحين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.