قبل التعرف على القدوة الحسنة نتعرف على معنى القدوة وهو من يتبع ويحتذى فعله ويكون أسوة ومثالاً لسلوكيات الآخرين.  قال ابن سيده في المحكم : القُدوة، والقِدوة ما تسننت به…” أي اتبعت طريقه ونهجه، فالقدوة متبوع، كالعالم، والأستاذ، والأب، والأم، ونحوهم .

وقد كان عمر رضي الله عنه يحث العلماء وأهل الفتيا على أن يكونوا قدوة للناس بأعمالهم قبل أقوالهم، رأى ذات يوم على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ثوباً مصبوغاً وهو محرم، فقال: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين، إنما هو مدر، فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلاً جاهلاً رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة بن عبيد الله قد كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام.

وهذا من فقه عمر رضي الله عنه، فقد كان يشدد على العلماء وأهل الفضل والمكانة في أمور لا يشدد فيها على غيرهم ، لكونهم ” قدوة”، كما كان يشدد على أهل بيته وأقاربه أن يكونوا أول الممتثلين لما يأمر به الناس، وأن يكون أول المنتهين عما ينهى عنه الناس، فكان رضي الله عنه إِذَا نَهَى النَّاسَ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ وجمعهم ، فَقَالَ : ” إِنِّي  نَهَيْتُ عَنْ كَذَا وَكَذَا ، وَالنَّاسُ إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ نَظَرَ الطَّيْرِ إِلَى اللَّحْمِ ، فَإِنْ وَقَعْتُمْ وَقَعُوا ، وَإِنْ هِبْتُمْ هَابُوا ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أُوتَى بِرَجُلٍ مِنْكُمْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَهَيْتُ عَنْهُ النَّاسَ ، إِلا أَضْعَفْتُ لَهُ الْعُقُوبَةَ لِمَكَانِهِ مِنِّي ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَقَدَّمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَأَخَّرْ”

هذي مناقبه في عهد دولته **** للشاهدين وللأعقـاب أحكيـها

في كل واحدة منهن نابلة **** من الطبائع تغذو نفـس واعـيها

لعل في أمة الإسلام نابتتة **** تجلو لحاضرها مـرآة ماضيـها

حتى ترى بعض ما شادت أوائلها **** من الصروح وما عاناه بانيها

وحسبها أن ترى ما كان من عمر **** حتى ينبه منها عين غافـيها

القدوة يمثل عادة قدرا من المثالية لدى أتباعه ومحبيه، فلا يليق به ما قد يليق بغيره من الناس. أورد البيهقي في السنن الكبرى عن الأوزاعي أنه قال: كُنَّا نَضْحَكُ وَنَمْزَح؛ فَلَمَّا صِرْنَا يُقْتَدَى بِنَا؛ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَسَعَنَا التَّبَسُّم”، وذكر عن الثوري قال: “لَوْ صُلحَ الْقُرَّاءُ لَصُلحَ النَّاسُ”.

والإمام أحمد رحمه الله كان بإمكانه أن يأخذ بالرخصة ويقول للمأمون ما يريد، فهو قد أكره بالسياط وقلبه مطمئن بالإيمان، لكنه إمام يقتدى به والناس ينظرون إلى ثباته ليثبتوا معه، ولو ترخص لربما افتتن منهم الكثير، ولذا أوصاه صاحبه محمد بن نوح قائلا: “أنت رجل يُقتدى به، وقد مدَّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتقِ الله واثبت لأمر الله.

وقبل الجديث عن القدوة الحسنة، لا ينبغي للقدوة أبدا أن يأتي مواطن الشبه التي لا يمكن التمييز فيها بين الحق والباطل، لأنه حينئذ قد يساء به الظن وينسب إلى الفجور وعدم الصلاح.

ومن وضع نفسه في مواطن الشبهة وظن الناس به الظنون فلا يلومن إلا نفسه.

ومنْ دعا النَّاس إلى ذمِّهِ*** ذمُّوهُ بالحقَّ وبالباطلِ

وفي قصة صفية ما يشير إلى هذا المعنى فإنها لما زارت النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه ليلا خرج يودعها فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرعا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:”على رسلكما، إنها صفية بنت حيي”، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: “إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءا . متفق عليه.

يقول الإمام الخطابي: ” في هذا الحديث من العلم استحباب أن يحذر الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون، ويخطر بالقلوب، وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءَة من الريب “.

كثير من الأفكار والقيم والسلوكيات تنتقل إلى الآخرين عن طريق القدوات فالإنسان بطبعه ميال للتقليد والمحاكاة، ولا سيما في مراحل حياته الأولى، ولذا يقول المختصون إن سبعين بالمائة من المهارات والمعلومات التي يكسبها الطفل تكون من خلال التقليد والمحاكاة، ومن هنا ندرك أهمية القدوة إن كانت صالحة، وخطورتها إن لم تكن كذلك.

قد لا يمتثل الفرد للتوجيه والخطاب لكنه يقتنع ويتأسى بأفعال القدوة الحسنة حين يراها ولو دون توجيه له بفعلها. ولعل هذا الأمر من خصائص السلوك البشري الذي لا يُقبل على أي عادة أو فكرة غالبا إلا بعد أن يدرك كونها حقيقة وواقعية.

والمتأمل في كتاب الله يجده يومئ إلى هذا المعنى من خلال عرض قصص الأنبياء وسيرهم ثم يقول الحق سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يوسف (111)، ويقول سبحانه: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الأنعام (90)

وكذلك عند التأمل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجد مواقف مختلفة تؤكد هذا المعنى وتجليه، فالقدوة الحسنة من أهم الوسائل المؤثرة والفعل أبلغ في إفهام المتلقين من القول المجرد؛ لاختلاف أفهام الناس وتفاوت عقولهم في مدى استيعاب الكلام وفهمه، فلوا حُدثوا بحديث لأخذ كل منهم بحسب فهمه، وقد يفهمه على غير المراد، لكن حين يرى المرء مواقف وأفعالا، فإنه يدركها تمام الإدراك ويتأثر بها ويسهل عليه محاكاتها والتأسي بها.

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة على أن يُري الصحابة أفعالا لا أقوالا مجردة ولا سيما حين تدعوا الحاجة إلى سرعة الامتثال وترسيخ المعنى.

فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أن رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ فَصُّهُ مِنْ دَاخِلٍ إِذَا لَبِسَهُ، فصنع النَّاس خَوَاتِمَ مثله، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَ خَاتَمَهُ، وَقَالَ: «كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ، فَلَمَّا رَأَيْتُمُونِي صَنَعْتُ هَذِهِ الْحَلْقَةَ صَنَعْتُمُوهَا»، فَقَالَ: «لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا»، فَنَبَذَ رَسُولُ اللَّهِ الْخَاتَمَ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِمَهُمْ. والحديث أصله في الصحيحين.

وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: “صلوا كما رأيتموني أصلي” وصلى على مكان مرتفع يوما وقال: “أيُّها الناسُ إِنما صنعتُ هذا لِتأتَمُّوا بي، ولِتَعلَّموا صَلاتي” كما في البخاري. وكان يقول صلى الله عليه وسلم: “خذوا عني مناسككم” وقد حج راكبا ليرى الناس أفعاله ولا يخفى عليهم منها شيء.

وكان في سفر ومعه أصحابه فشق عليهم الصوم، فدعا رسول – صلى الله عليه وسلم – بإناء فيه ماء، فشرب -وهو على راحلته- والناس ينظرون إليه فأفطروا لما رأوه.

وعند أحمد في مسنده من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَمَرَرْنَا بِنَهَرٍ فِيهِ مَاءٌ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ، وَالْقَوْمُ صِيَامٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” اشْرَبُوا “، فَلَمْ يَشْرَبْ أَحَدٌ فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِبَ الْقَوْمُ.

وهذا يشبه قصة الحديبية حينما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة بالتحلل بعد أن تم الصلح، أمرهم ثلاثاً أن ينحروا ويحلقوا، فلم يفعلوا، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودخل على أم سلمة فقالت: ما لي أراك غاضباً، أغضب الله من أغضبك؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: تصالحنا مع القوم، وانتهت العمرة، وأمرتهم أن ينحروا ويتحللوا فلم يتحلل أحد قالت فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها قائلة خذ المدية، واخرج على الناس ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق واحلق شعرك، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فلما رأى الصحابة رضي الله عنهم ما فعل، بادروا إلى الحلاق حتى كادوا يقتتلون على الحلاقة.

هذه نماذج من سنته صلى الله عليه وسلم تؤكد لنا مدى تأثير القدوة الحسنة، وأن التأسي بالأفعال أسهل وأبلغ من الأقوال.

قد لا يترك الكلام أثرا على الشخص مهما طلب منه التحلي بالفضائل والإقبال عليها ولا سيما إذا كان الآمر لا يتحلى بما يقول ولا يأتي ما يأمر به كمن يؤدب أبناءه على ترك الكذب وهو يكذب أمامهم، أو ينصحهم بعدم التدخين وهو يدخن، فلن يستجيبوا؛ لأن ما يرونه أبلغ في التأثير عليهم مما يسمعون منه. ولذا قال شعيب على السلام لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} هود (88)

ولله در أبي الأسود الدؤلي إذ يقول:

لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله … عارٌ عليك إذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها … فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

هناك يقبل ما وعظت ويقتدى … بالعلم منك وينفع التعليم.