عرف الشرق الصحافة المطبوعة في مطلع القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من أنها لم تقابل باستحسان بادئ الأمر إلا أنها سرعان ما حظيت بتأييد واسع يشهد به التوسع المطرد في أعداد الصحف والمجلات والتنوع الكبير في مضمونها، وقد نشأت أولا بإرادة حكومية لتكون لسانا لها لدى الأهالي كما هو الحال في (الوقائع المصرية)، لكنها ما لبثت أن صارت أهلية حيث اتجه المصلحون وأرباب الرأي إلى إصدار الصحف والمجلات باعتبارها أحد وسائل الترقي الحضاري، وتختلف مواضيع المجلات باختلاف غايات أصحابها ونزعاتهم ومشاربهم، فتارة تكون دينية أو تعليمية أو قضائية أو علمية ولكل منها فروع تندرج تحتها، وفي السطور التالية أحاول التركيز على الصحافة و المجلات العلمية العربية، وذلك من خلال استعراض طائفة من المجلات المعنية بالعلوم وهي ذات شقين إما مجلات علمية عامة تعالج العلوم كافة، أو مجلات خاصة تعنى بعلم معين كالمجلات الطبية، ولضيق المقام سأكتفي بتناول المجلات الصادرة خلال القرن التاسع عشر.

الدوريات العلمية

شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور طائفة من المجلات العلمية، التي صدرت في القاهرة وبيروت، ومن أهم هذه المجلات:

مجلةمجموعة العلوم

وهي من أوائل المجلات العلمية العربية، أصدرتها (الجمعية العلمية السورية) وهي جمعية تألفت في منتصف القرن بمدينة بيروت واستهدفت نشر العلوم بين الناطقين بالضاد والدعوة إلى انتشار المدارس، وترأس الجمعية الأمير محمد أمير أرسلان ثم حسين بيهم، وكان من أعضائها ناصيف اليازجي وبطرس البستاني وبعض الأجانب مثل كرنيليوس فانديك، وقد صدرت المجلة خلال عامي 1868-1869 واشتملت على أعمال الجمعية، وعلى مباحث عمومية كالزراعة والصناعة والتجارة والطب والفلك، ومن موضوعاتها: (احتياجات العقل) لحنين الخوري، وخطبة في (الطب القديم) لإبراهيم اليازجي، ونبذة في (علم الطبيعيات وتصوير الشمس) ليوسف الجلخ، ومقالة في (معرفة أعضاء جسم الإنسان ووظائفها) للدكتور ملحم فارس، ومقالا في (الموسيقى) لسليم فارس، وغيرها من المقالات التي تناولت موضوعات علمية متباينة.

مجلةالمقتطف

وهي واحدة من أقدم المجلات العربية وأكثرها ذيوعا، ولطول عهدها لقبها القراء ب”شيخ الصحافة العربية”، صدر عددها الأول في مستهل يونيو عام 1876، وقد وصفت نفسها بأنها “مجلة علمية صناعية زراعية” وتولى تحريرها الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر وهما من خريجي مدرسة الكلية الأمريكية (الجامعة الأمريكية) ببيروت، وأما بواعث تأسيسها فتتلخص في إيمانهما باستحالة مجاراة الأمم الغربية في العلم والمدنية إذا اقتصر الشرقيون على ترجمة وتأليف الكتب، لأن العلوم جارية جريا حثيثا فما يؤلف في عام يغدو ماضيا في العام التالي، ولذا لابد من مجلة “تقتطف” ثمار العلوم والمعارف وتنشرها شهرا فشهر وتنشرها بين أبناء العربية.

المجلات العلمية العربية في القرن الـ 19
مجلة المقتطف

لاقت هذه الفكرة استحسانا من الأستاذ كرنيليوس فانديك الذي وضع المبادئ التحريرية التي يجب أن تسير عليها كما هو الحال مع المجلات الأجنبية، ورغم هذا لم يستقبل المقتطف بحفاوة في بادئ الأمر لأن بعض العقول لم تستسغ وجود مجلة تعنى بالفلسفة العقلية والمعارف المادية فتعرض لهجوم لم يدم طويلا، واستمر صاحبيها في أداء عملهما مع بعض الحيطة والمداراة  . لكن هذه لم تكن الأزمة الوحيدة التي تعرض لها المقتطف فقد خاض صراعا مع مجلة (البشير) اليسوعية لتأييده الداروينية وزعمه أنها لا تناقض الدين ولا الكتاب المقدس، وهو الأمر الذي أثار حفيظة البشير، واحتدم الجدال بينهما لبعض الوقت.

وإذا كان المقتطف قد استطاع عبر عمره المديد ( 1876-1952) أن يكون واسطة لنقل المعارف والعلوم ومؤرخا للمخترعات والمكتشفات الحديثة وسبيلا لنقل علوم أهل الغرب إلى الشرق، إلا أن عمله لم يكن ليخلو من الهنات ويلخصها صاحب المقتبس في:” ظهور الغرض أحيانا في مطاوي ما يكتب مدفوعا إلى ذلك بعامل التربية والمنشأ أو بداعي قلة اختبار في أحوال المجتمع أو مراعاة لغرض تستدعيه المصلحة، وكان الأحرى به وهو يدعو إلى العلوم المادية أن يتجرد عن النزعات السياسية والدينية بتة، فالعلم مشاع لا مشرب له ولا دين، ولو خلا من التعريض ببعض الفرق لنجا من طعن الطاعنين عليه” . وفي وثوقه بالثقافة الغربية حيث “لا يرى إلا الأخذ عن الغربيين، وعنده معظم ما هو من أصل شرقي مظنة للظن والريبة لا يعتد به في الغالب” . 

مجلةالبيان

وهي مجلة (علمية أدبية صحية صناعية) أسسها بالقاهرة إبراهيم اليازجي، ولم تعمر سوى عاما واحدا إذ توقفت عن الصدور في العام التالي، وقد لخص اليازجي في افتتاحية العدد الأول الصادر في مفتتح مارس عام 1897 سبب إنشائها بقوله :” غير منكر أنه ليس في الذرائع الموصلة إلى سرعة انتشار العلم أعون من هذه المجلات العلمية على أصنافها الموكلة بنشر كل ما يحدث في عالمي العلم بأنحائه والصناعة بأطرافها فإنها لم تبرح العامل الأعظم في شيوع العلم بين طبقات الناس..إذ هي تلقن العلم أجزاء متفرقة يتناولها المطالع من أيسر سبيل، وتلقي إليه زبدة الحقائق محصلة دون أن تكلفه معاناة التحصيل”.

المجلات العلمية العربية في القرن الـ 19
مجلة البيان (علمية أدبية صحية صناعية)

وعلى الرغم من أن البيان لم تدم طويلا إلا أنها اقتفت أثر المقتطف وتناولت طائفة من الموضوعات التي غطت فروع المعرفة، فتناولت العلوم الطبيعية والنبات والفلك والطب والرياضة والجغرافيا والتاريخ والآثار، واستقطبت زبدة أصحاب الأقلام في ذلك العهد من مثل: أحمد زكي، مصطفى المنفلوطي، شكيب أرسلان، نجيب الحداد، شبلي شميل، الأب أنستاس الكرملي، عبد الله المراش وغيرهم. 

مجلة الضياء

وهي مجلة (علمية أدبية صحية صناعية) أنشأها بالقاهرة إبراهيم اليازجي لتكون خلفا وامتدادا للبيان التي تعثرت بعد عام واحد من صدورها، وقد أوضح في افتتاحية العدد الأول هذه الصلة قائلا أنه لما رأى رياح العلم تهب على الأقطار الشرقية بعد ركود طويل أنشأ مجلته البيان لنشر كل ما فيه فائدة للأذهان لكن القدر أوجب عليها أن تتوقف ولم تتم عامها الأول، فتتابعت رسائل الفضلاء ترجوه استئناف ما بدأه، وكانت نفسه تميل إلى تأدية هذا الطلب الذي سبق له أن أنشأ لأجله مجلة البيان فاستخار الله تعالى وعقد العزم على استئناف ما بدأه ، وقد نالت المجلة نصيبها من النجاح هذه المرة إذ استمرت الضياء في الصدور قرابة تسع سنوات خلال الفترة بين عامي (1898-1906).

اهتمت الضياء بنشر الأفكار والمخترعات العلمية الحديثة فتناولت مواضيع تتعلق بالطاقة الكهربية والملاحة الجوية والمناطيد والعلوم الجوية والعلوم الطبية وما إلى ذلك من مواضيع كانت جديدة في ذلك العهد، ولكنها لم تقتصر عليها إذ حرص اليازجي على نشر بعض الروايات الأدبية والقصائد الشعرية حتى يضمن إقبال القراء عليها، وهو ما توصل إليه صاحبي المقتطف لاحقا، وقد استقطب الضياء أقلام عدد من الكتاب المبرزين مثل: عيسى المعلوف، شبلي شميل، لبيبة هاشم، نقولا الحداد، قسطاكي الحمصي.

وإلى جوار هذه المجلات التي ذاع صيتها واشتهرت هناك طائفة أخرى لم تنل حظا من الشهرة ولم تصل إلينا ومنها (الزراعة) التي أنشأها بالقاهرة حسن حسني الطويري، وهو صاحب جريدة وادي النيل، و(المهندس) وغيرهما من الدوريات التي لم يفلح فيليب دي طرازي مؤرخ الصحافة العربية في تقديم أي معلومات بشأنها لأن نسخها مفقودة ولم يعثر عليها.

الدوريات الطبية

تندرج الدوريات الطبية ضمن فئة المجلات العلمية لكنها أكثر تخصصا تقتصر في موضوعاتها على المباحث الطبية دون سواها، فضلا عن أنها كانت موجهة للأطباء دون سواهم من صنوف القراء، وقد ظهرت للمرة الأولى في مصر في العقد السادس من القرن التاسع عشر ثم شقت طريقها إلى بقية البلدان تباعا وفيما يلي نشير إلى بعض المجلات المشتهرة.

مجلة يعسوب الطب

وهي أول مجلة طبية عربية، صدرت في القاهرة عام 1865 بإدارة الدكتور محمد علي البقلي، والشيخ إبراهيم الدسوقي، وكانت تصدر شهريًا برعاية الحكومة متخذة من الآية الكريمة (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) شعارا لها، وقد أسهم في تحريرها أمهر الأطباء المصريين في ذلك العهد، لكنها توقفت عن الصدور عام 1876 بسبب وفاة مؤسسها الدكتور علي البقلي.

مجلة المنتخب

بعد توقف يعسوب الطب بنحو خمس سنين أصدرت الحكومة المصرية مجلة أخرى باسم المنتخب في مايو 1881، وعهدت بإدارتها إلى الدكتور أحمد حمدي نجل الدكتور البقلي ومفتش الصحة بمصر، وتولى تحريرها نفر من الأطباء، وتشمل الأعداد القليلة التي وصلت إلينا على مقالات في تشخيص الأمراض ومعالجتها، ووسائل حفظ الصحة العامة، ونبذ من الاكتشافات الطبية الحديثة، ولم تدم المجلة طويلا إذ توقفت في العام التالي وربما يعود السبب في ذلك إلى الاضطرابات السياسية التي انتهت بالاحتلال البريطاني في ذات العام .

مجلة الطبيب

وهي مجلة طبية صدرت في بيروت عام 1878 أسسها الدكتور جورج بوست أستاذ الجراحة والنبات بالكلية الأمريكية، وكانت مباحثها تتناول الكيمياء والنبات والحيوان والأعمال الطبية والمستشفيات وكل ما له علاقة بالطب، وشارك في تحريرها إبراهيم اليازجي وشاهين مكاريوس وكرنيليوس فانديك، ومن مآثرها أنها تعد من أوائل من ساهم في وضع المقابل العربي للمصطلحات العلمية والطبية الأجنبية، وساعدها على ذلك أن المعاهد الطبية في مصر ولبنان كانت تدرسان علم الطب باللغة العربية فلما استبدلت العربية بالإنجليزية تأثرت المجلة بذلك وقل متابعيها وانصرف الأطباء العرب إلى الدوريات الطبية الأجنبية، وهو ما أسفر عن ضمور الصحافة الطبية العربية وتحولها إلى مخاطبة عموم القراء بدلا من الأطباء.

المجلات العلمية العربية في القرن الـ 19
الطبيب مجلة طبية صدرت في بيروت عام 1878

وبالجملة، أسهمت المجلات العلمية العربية في نشر العلوم وتبسيطها وتقريبها إلى أذهان القراء، والتعريف بالاختراعات العلمية الحديثة، وكان لها فضل إحياء عدد من المصطلحات الفنية التراثية ووضعها إزاء المصطلحات الحديثة.