اقرأ أيضا:
والحقيقة أن معظم الثقافات في العالم ربما لديها نفس الموقف من البخل والبخلاء، لكن هذا الأمر قد لا ينطبق عن الإسراف والمسرفين، فالحديث عن البخل والاسراف لم يكن بنفس الدرجة، والحديث عن المسرفين قليل وغير مركز مقارنة بما كتب ونقل عن البخل والبخلاء. لكن ديننا الإسلامي الحنيف يعطي لكل حقه، فمثلما ذم البخل ذم الإسراف والتبذير.
البخل هو كنز المال وجمعه وعدم إنفاقه في المباحات بحجة الخوف من المستقبل. والبخل خصلة ذميمة تمنع الفرد من البذل والعطاء. ويعتبر البخل من أسوأ الصفات التي يكرهها العرب، بل كانت وما زالت من الصفات القبيحة التي تقلل من الرجولة، وقد ميّز العرب بين البخيل والشحيح، وقالوا: البخيل فهو من ينفق على نفسه بل يغدق عليها ولكنه بخيل على الناس، أما الشحيح فهو أقبح أنواع البخل فهو شديد البخل على نفسه وعلى عياله وجيرانه وأقاربه ومعارفه وهو سيء المعشر. وقد وصف الجاحظ البخل والبخلاء وصفاً دقيقاً في كتاب البخلاء وذكر أساليبهم وعاداتهم عن طريق أسلوب قصصي.
وفي اللغة نقول:
بخُل، ضنَّ عليه بما عنده، أمسك ومنع
بَخِلَ الرَّجُلُ: ضَنَّ بِما عِنْدَهُ مِنْ مالٍ
يَبْخَلُ عَلَى نَفْسِهِ: يُقَتِّرُ عَلَيْها
بخِلَ عن: إمساك المال عمّن لا يصحّ حبسه عنه، عكسه الكرَم والجود
يقول الله عزوجل في القران الكريم:
“الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا” (النساء: 37). وقال تعالى: “وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”(سورة آل عمران:180).
وقد ورد عن النبي المصطفى محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والسلام هذا الدعاء: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ. وقال صلى الله عليه وسلم: “خَصْلَتَانِ لاَ تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ ، الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ” .كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم البخل داء، ووصفه بقوله: وأي داء أدوأ من البخل. قالها ثلاثاً. رواه البخاري.
وبين عليه الصلاة والسلام ماذا نفعل بالمال فقال: كلوا، واشربوا، والبسوا، وتصدقوا، في غير إسراف، ولا مخيلة. رواه البخاري.
الإسراف: صرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي. بخلاف التبذير، فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي، فبينهما عموم وخصوص إذ قد يجتمعان فيكون لهما المعنى نفسه أحيانًا، وقد ينفرد الأعم وهو الإسراف
في اللغة: مجاوزة القصد، مصدر من أسرف إسرافًا، والسَّرَف اسم منه، يقال: أسرف في ماله: عجل من غير قصد، وأصل هذه المادة يدُلُّ على تعدِّي الحدِّ، والإغفال أيضًا للشيء
في الاصطلاح: هو صرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي
وقال الراغب: (السرف: تجاوز الحد في كلِّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر) وقال الشريف الجرجاني: (الإسراف: هو إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس. وقيل تجاوز الحدِّ في النفقة، وقيل: أن يأكل الرجل ما لا يحلُّ له، أو يأكل مما يحل له فوق الاعتدال، ومقدار الحاجة. وقيل: الإسراف تجاوز في الكمية، فهو جهل بمقادير الحقوق)
وهناك فرق بين الإسراف والتبذير. فالإسراف هو صرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي، أما التبذير: فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي.
فالإسراف يعني أن الشخص يبالغ في ما أباحه الله وفوق ما يحتاج، مثال على ذلك أن يقوم الشخص بملء طبقه من مائدة الطعام حتى لو لم يكن محتاجاً لذلك، فهذا يعني أنه أسرف في شيء مباح أي الطعام؛ لأنه قد يأكل فقط نصف هذا الطبق والباقي سيرميه. وقد نهى الإسلام عن الإسراف. وجاء في سورة الأعراف في الآية 31 “يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ .
أما التبذير، فهو أن يصرف المال في ما حرم الله مثلاً كأن يشتري شخص أي شيء من المحرمات (مثل الخمر مثلا). وقد حرم الإسلام التبذير ووصف فاعليه بأنهم أخوان للشياطين. يقول الله في سورة الإسراء في الآيه 27″إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا.
جاء في موسوعة الدرر السنية وفي بعض كتب التراث أن للبخل آثار وعواقب قد تلحق به هي كالتالي:
يُراد بالإسراف التبذير في الإنفاق في غير حاجةٍ، أو في غير طاعةٍ، ولقد نهى الإسلام عن الإسراف وفصّله إلى أنواعٍ عدّةٍ، وفيما يأتي ذكر بعض الأضرار والعواقب السيئة العائدة على أهل الإسراف في الإنفاق:
في تقرير خاص لـ”بي بي سي” يقول سكوت ريك، الأستاذ المساعد في كلية روس للأعمال بجامعة ميشيغان، إن بعض الأشخاص يجدون صعوبة في إنفاق الأموال، ويشعرون بالضيق عندما يفكرون في الإنفاق، لذلك لا يشتري أولئك الأشياء التي يريدونها. ويوضح ريك أن هذا النوع من الأشخاص أكثر ميلاً لضبط النفس، والتصرف بعقلانية، كما أنهم يتسمون بالإفراط في التفكير في الأشياء، وتثير الأفكار المتعلقة بالأموال قلقهم.
ويفسر عالم النفس براد كلونتز ذلك الأمر قائلاً إن إنفاق الأموال يكون بالنسبة للبعض أمرًا مؤلمًا، لأنهم يشعرون بأن ذلك يجعلهم معرضين للخطر، يرى كلونتز أن الأشخاص الذين يجدون صعوبة في إنفاق الأموال، لا يسمحون لأنفسهم بالاستمتاع بأموالهم. ويشير كلونتز إلى أن بعض الأشخاص قد يشعرون بالقلق المفرط من المستقبل، لدرجة أنهم لا يستمتعون باللحظة الحاضرة.
لهذه الأسباب قد يكون الأشخاص الذين يواجهون صعوبة شديدة في إنفاق الأموال، أقل سعادة في حياتهم، لأنهم يتخلون عن التجارب والمشتريات التي قد تجعلهم سعداء، خوفًا من إنفاق الأموال.
على الجانب الآخر يكون الأشخاص الذين يجدون صعوبة في السيطرة على إنفاقهم أكثر تركيزًا واهتمامًا باللحظة الحاضرة، ويميلون إلى الإفراط في الشراء. ويرى ريك أن هناك علاقة بين التبذير والشعور بالملل واتسام سلوك الأشخاص بالمادية. فيما يقول كلونتز إن شراء الأشياء قد يكون ممتعًا، ويساعد الأشخاص في التواصل مع الآخرين، وقد يتزايد لدى الأشخاص الشعور بالفخر والمكانة عند شراء بعض السلع، التي تلبي الحاجة للشعور بالقبول الاجتماعي.
هناك فرق بين أن يكون الشخص مقتصدًا ويحب الادخار، وبين أن يجد صعوبة كبيرة في إنفاق الأموال. فالأشخاص المقتصدون قد يبذلون جهودًا كبيرة لادخار الأموال، وعدم إهدارها، فهم يميلون على سبيل المثال لإصلاح ملابسهم بدلاً من شراء ملابس جديدة، أو يذهبون للتسوق من متاجر السلع المستعملة.
يرى ريك أن من الجيد أن يكون الشخص مقتصدًا، مضيفًا أنه من المرجح أن يكون لدى الشخص المقتصد قدر كبير من المدخرات، وديون أقل في بطاقة الائتمان.
وفي ديننا الإسلامي، النفس بطبعها تحب المال حبا جما كما قال تعالى: “وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا” (الفجر-20)، وليس من السهل عليها الارتياح لبذله، فينبغي أن لا يطاوعها الإنسان في ذلك، بل يجاهدها حتى ينزع منها البخل، والشح ويعودها على البذل والعطاء.
ديننا الإسلامي هو دين الوسطية، والأفضل في هذا الأمر كما في غيره، هو التوسط، فلا يكون الشخص مبذرا للأموال يمنة ويسرة دون حساب، ولا يكون بخيلا، شحيحا، لا ينفق مما أعطاه الله، بل ينفق حيث أمر بالإنفاق، ويمسك حيث أمر بالإمساك.
يقول الشيخ الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”: “المال خلق لحكمة، ومقصود وهو صلاحه لحاجات الخلق، ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ بَذْلُهُ بِالصَّرْفِ إِلَى مَا لَا يَحْسُنُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ أَنْ يُحْفَظَ حَيْثُ يَجِبُ الْحِفْظُ، وَيُبْذَلَ حَيْثُ يَجِبُ الْبَذْلُ، فَالْإِمْسَاكُ حَيْثُ يَجِبُ الْبَذْلُ بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير، وبينهما وسط وهو الْمَحْمُودُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السَّخَاءُ، وَالْجُودُ عِبَارَةً عَنْهُ؛ إِذْ لَمْ يُؤْمَرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِالسَّخَاءِ، وَقَدْ قِيلَ له: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تبسطها كل البسط. وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً. فَالْجُودُ وَسَطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ، وَالْإِقْتَارِ؛ وَبَيْنَ الْبَسْطِ وَالْقَبْضِ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ بَذْلُهُ وَإِمْسَاكُهُ بِقَدْرِ الواجب، ولا يكفي أن يفعل ذلك بجوارحه ما لم يكن قَلْبُهُ طَيِّبًا بِهِ، غَيْرَ مُنَازِعٍ لَهُ فِيهِ.
وعليه فإن التوسط هو الأمر المحمود، فعلى المسلم أن يحذر من الاثنين البخل والإسراف، ويعرف المقصد الشرعي من الأموال، فيؤدي الحقوق التي عليه، ويعن من يحتاج إلى الإعانة منها، ويقرض من يحتاج إلى القرض ممن لا يخشى مماطلته.. الخ، وبذلك يصدق عليه -إن شاء الله- قول النبي صلى الله عليه وسلم: نعم المال الصالح، للمرء الصالح. أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
ومعلوم أن توسط الإنسان، يصرفه عن التطرف، سواء التطرف ناحية البخل أو التطرف ناحية الإسراف، لأن في كلا الجانبين أضرار ومخاطر.
مصادر:5>
موسوعة الدرر السنية
“الإسراف” للشيخ حفظ الرحمن الأعظمي الندوي
كتاب موسوعة الأخلاق الإسلامية
كتاب “البخلاء” للجاحظ
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين