صدر مؤخرا عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” كتاب بعنوان “المستشرقون ومصادر علم الكلام الإسلامي: بين التحقيق والنشر والترجمة”، للكاتب حيدر قاسم مطر التميمي (في224 صفحة)، الذي يبحث في العلاقة بين الاستشراق وعلم تحقيق النصوص، وكيف ساهم المستشرقون في تحقيق التراث العربي الخاص بعلم الكلام ونشره؛ إذ لا يتأتَّى اشتغال المستشرقين بدراسة هذا التراث وتحقيقه إلّا بسبب إدراكهم أهميته وأثره الكبير، واعترافهم بما قدّمه العرب المسلمون للحضارة الإنسانية.
المؤلف حيدر قاسم مطر التميمي أستاذ مساعد، حاصل على الدكتوراه في التاريخ والفكر الإسلامي والاستشراق من جامعة بغداد (2015). رئيس أبحاث في قسم الدراسات التاريخية في مؤسسة بيت الحكمة العلمية. فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن فئة المؤلِّف الشاب (2020). من أبرز مؤلفاته: العلويون في المشرق الإسلامي وأثرهم الفكري والحضاري حتَّى القرن الخامس الهجري (2010)؛ بيت الحكمة العباسي ودوره في ظهور مراكز الحكمة في العالم الإسلامي (2011)؛ علم الكلام الإسلامي في دراسات المستشرقين الألمان: يوسف فان أس أنموذجًا (2018).
في كتابه “المستشرقون ومصادر علم الكلام الإسلامي” حاول المؤلف في المقدمات المنهجية للكتاب تقديم تمهيد هو أشبه ما يكون بتعريف أربعٍ من دعائم التراث العربي الخاص بعِلم الكلام ومفاهيمه. ويعرض أبرز النِتاجات العلمية التي تناولت علم الكلام الإسلامي بالبحث والدراسة، إضافة إلى جهود المستشرقين ومناهجهم في فهرسة المخطوطات. كما يضمِّن كتابه دراسة وصفية يحصي فيها تحقيقات المستشرقين لمخطوطات علم الكلام الإسلامي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وما ترجمه بعضهم من هذه المؤلَّفات إلى اللغات الأوروبية.
الاستشراق ونفائس المخطوطات
عمد الكاتب في البدء إلى استعراض أهم ما تقدّم بشأن مصطلح الاستشراق ومفهومه من دراسات وآراء توضح ماهيته ومدلولاته وأبرز مجالاته التي خاض فيها، وما كان له من أثر بارز في تحديد معالمها؛ حاول الباحث توضيح هذا المفهوم الخاص بالاستشراق، بالتركيز على استخلاصه من جهة صانعه وليس من جهة منتقديه ومعارضيه، كونهم الأَولى بأن يقدّموا لنا التعريف الأدق والأمثل لما أنتجوه من دراسات علمية – أكاديمية وجّهت في صورة رئيسة نحو العالم الإسلامي في محاولة جادة منهم لكشف النقاب عن أسرار هذا العالم والتعرف إليه من كثب. وخاض الفصل الأول من الكتاب في تعريف المخطوطات وعلمها، مع بيان مفهوم هذين المصطلحين ودلالتهما.
وقدَّم الباحث، تحت عنوان “الطباعة العربية في أوروبا… النشأة والتطور”، سردًا موجزًا وشاملًا، قدر الإمكان، لتاريخ الطباعة باللغة العربية في القارة العجوز، راعى فيه التسلسل الزمني، مع إشارة إلى المحطات الكبرى في تاريخ هذه الطباعة. وبحث في طبيعة العلاقة التي ربطت الاستشراق بنفائس المخطوطات لتودع في نهاية المطاف في مكتبات أوروبا، العامة منها والخاصة، متتبّعًا خطوات الرحالة الأوائل في بحثهم الدؤوب عن هذه الكنوز المدفونة قرونًا طوالًا في غياهب الأقبية والمكتبات العتيقة.
وتزخر الكتب القديمة بعناوين كتب لم يُعثر على أصولها، وهو ما يشير إلى قدر المفقود من المخطوطات العربية، لكن الأوروبيين وغيرهم من المستشرقين ممن فُتنوا بحضارة الشرق حرصوا على جمع المخطوطات العربية في فترات مختلفة من التاريخ، ما أدى إلى تناثر المخطوطات العربية في مكتبات العالم، فتوزعت أصول الحضارة العربية في دول عدة.
حصر الباحث مساهمات المستشرقين في خدمة المخطوط العربي ضمن خمسة مجالات، هي في النهاية المجالات المهمة التي يمكن أن يخدم التراث من خلالها، وهي كما يلي:
- البحث عن المخطوطات، والرحلة إليها، وجمعها، ونقلها، وحفظها، وصيانتها.
- فهرسة المخطوطات، وتوثيقها وضبطها وراقيًّا (وعائيًّا أو بيبليوغرافيًّا)، وربما كشفها وتلخيصها.
- تحقيق كتب التراث العربي – الإسلامي.
- الدراسات والبحوث حول التراث، مع العناية بالمعاجم.
- ترجمة التراث العربي – الإسلامي إلى اللغات الأجنبية المختلفة.
- علم الكلام الإسلامي في الدراسات الاستشراقية
بحث المستشرقون في علم الكلام الإسلامي منذ نشأته وتاريخه، مرورًا بأطواره، وتناولوا العوامل التي ساعدت في تكوينه، التي منها ما هو داخلي، ومنها ما هو خارجي. فعن نشأته، أبدى أكثر المستشرقين صعوبة تحديد بدايتها، وذكر ذلك المستشرق الألماني باريت، بقوله: “من المتعذر أن تحدد بدقة العصر الذي صار فيه مصطلح “علم الكلام” يعني علمًا دينيًّا مستقلًا”، الأمر الذي أدى إلى جدل وخلافات في شأنه. يقول المستشرق الأميركي ديمتري غوتاس: “إن بدايات علم الكلام هي موضوع كثر الجدل حوله”. لكن هذا لم يثن المستشرقين عن تحديد بدايات علم الكلام الإسلامي التي كانت في نظرهم مع بداية الدين الإسلامي نفسه، وهذا ما يسمونه الوسائل أو العوامل الداخلية؛ فالإسلام في نظر المستشرقين لم يكن دينًا كاملًا ومتكامل البناء، ثم إنه يحتاج إلى علم الكلام ليتمّه ويكمل بنيانه. يقول المستشرق المجري إغناتس غولدتسيهر (1850-1921) Ignác Goldziher في هذا الشأن: “ليس الأنبياء من رجال علم الكلام، فالرسالة التي يأتون بها بدافع إدراكهم المباشر، وكذلك المعارف الدينية التي يوقظونها، لا تتمثل كهيكل مذهب مبني طبقًا لخطة روي فيها مقدمًا، بل كثيرًا ما تتحدى كل محاولة للتنسيق المذهبي. يجب إذًا الانتظار إلى أن تأتي الأجيال التالية، حيث تؤدي الثقافة المشتركة للأفكار المستقاة من الأنصار والأوائل، إلى تكوين طائفة محددة؛ عندئذ تتخذ تلك الأفكار شكلًا مجسّمًا، من طريق وسائل داخلية في الطائفة نفسها أو بفعل تأثيرات البيئة المحيطة، وهذه الأفكار تتقدم بواسطة من يشعرون بأنهم مختارون ليكونوا المفسرين لما أتى به النبي. بذلك يسدون ما يكون في التعاليم النبوية من ثغرات”.
هكذا، تتحدد نظرة المستشرقين إلى نشأة علم الكلام الإسلامي، في أنه نشأ من داخل المجتمع الإسلامي، وبسبب نقص تعاليم القرآن الكريم والدين الإسلامي وتناقضها، التي اتضح أنها نظرة مبنية على أمور خطِرة، من أهمها: الطعن في الدين الإسلامي ووصفه بأنه دين من وضع محمد؛ الطعن في القرآن الكريم، فهو عندهم كتابٌ ليس فيه عقيدة واضحة، ولا إعجاز، اختلف المسلمون الأوائل حول قراءاته التي وحّدها الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان (47 ق.ه./35 ه) في مصحف واحد، فكانت نظرتهم إلى القرآن الكريم تشبه نظرتهم إلى الإنجيل؛ جعل الفضل لما وصل إليه الإسلام من ترتيب عقائدي منظم ومفسر لجميع ما فيه لا يعود إلى الدين نفسه، كونه دينًا ناقصًا ومتناقضًا، بل إلى أمور هي من خارجه، كالفلسفة اليونانية والاتصال بالديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية والمانوية، وغيرها.
ولم تقتصر أعمال المستشرقين على التأليف والكتابة، بل إنها تنوعت في عدد من الأشكال، منها التدريس الجامعي الذي لا تخلو جامعة منه تقريبًا، بل قد يكون في بعض الجامعات الغربية تخصصات متنوعة تعنى بالدراسات الإسلامية، منها ما يتناول دراسة اللغة العربية، ومنها ما يختص بدراسة تاريخ الإسلام وحضارته، حيث تمد هذه الجامعات مكتبات مليئة بالمصادر والمراجع العربية والإسلامية، فتؤهل هذه الجامعات الدارسين ليواصلوا العمل في المجال الاستشراقي، فضلًا عن جمع المستشرقين المخطوطات والمحافظة عليها وصيانتها من التلف، وفهرستها فهرسةً علمية.
دارت مناقشات طويلة حول موضوع فهرسة المخطوطات بين العلماء والمكتبيين منذ عقود تكاد تُعَد – من بعض الوجوه – نوعًا من المناقشات البيزنطية؛ لأنها لم تفض إلى خلاصات يطمئن إليها المختصون في معظم الجهات.
إن الفهرسة ليست مشكلًا يخص التراث العربي وحده، بل هي مشكل يهم الدراسات الأجنبية كذلك؛ فمنذ أربعينيات القرن الماضي، نرى علماء الغرب يدعون إلى توحيد فهرسة المخطوطات اليونانية واللاتينية، وغيرها من مخطوطات اللغات الفرعية، فهل نجحوا في مسعاهم؟ وهل وضعوا فهارس موحدة تفي بالمواصفات الضرورية للتعريف بالمصطلح؟
لذا، ناقش كتاب”المستشرقون ومصادر علم الكلام الإسلامي” دور المستشرقين في حفظ التراث العربي – الإسلامي من المخطوطات الأصلية والنادرة، سواء في مكتباتهم الخاصة أو في المكتبات العامة، وفهرستها فهرسةً علمية مبنية على أصول وقواعد منهجية رصينة، ساهمت في تذليل العقبات أمام سبل الوصول إلى هذه الكنوز المعرفية والاستفادة منها. أكسب هذا الدور الحركة الاستشراقية بصورة عامة معظم رصيدها من الإشادة والإيجابية.
تراث علم الكلام المخطوط
إن مناهج التحقيق التي كانت تسود أوروبا بعد القرن الخامس عشر هي نتاج اجتهادات الجماعات التي اهتمّت بإحياء التراث اليوناني – اللاتيني القديم، وهي التي اعتمدت بادئ الأمر على منهج لا يقوم على مقارنة النصوص وتحقيقها من نسخ متعددة، بل على اختيار نص واحد يعاد صوغه ونشره، ليتطور هذا المنهج في ما بعد لتعمل تلك الجماعات على تكوين نص واحد متكامل مبني من الروايات والنصوص المختلفة، أسمته النص الكامل. واعتمد بعض المستشرقين الأوائل على مثل هذا المنهج في ترجمة بعض الأعمال العربية إلى اللاتينية. ومع منتصف القرن التاسع عشر، اتسعت الحاجة إلى نشر هذه النصوص، ومن ثم، اتسع نطاق الاجتهادات في مجال مناهج التحقيق، لتأخذ طابعًا أكثر علميةً يقوم على جمع النسخ والمقابلة والتصحيح وضبط الأعلام والأماكن والتواريخ، وتحقيق النصوص والتعليق عليها وتذييلها بالفهارس اللازمة، ليبدأ وضع أسس وأصول هي أقرب ما تكون إلى قواعد وتعليمات اعتمدها المستشرقون في تحقيقهم ونشرهم الأعمال العربية.
تأثرت جهود الحركة الاستشراقية في ميدان مناهج تحقيق التراث العربي المخطوط إلى حد بعيد بأصول نقد النصوص الكلاسيكية اللاتينية القديمة. وعلى الرغم من الملاحظات كلها التي يمكن أن تثار على هذه المناهج، فإنها في المحصلة تركت في الشرق أثرًا كبيرًا، إذ جاءت المحاولات العربية، في معظمها، في ميدان أصول نقد النصوص ونشرها امتدادًا لمناهج المستشرقين.
وقد قدَّم الباحث قائمة بما طبعه المستشرقون من مؤلفات تخص المذاهب والفِرَق الإسلامية الخاصة، وكلها مؤلفات أصلية ومباشرة تبين موقف كل فريق من العقيدة، فتوضح للمستشرقين خصوصًا، وللناس كافة، من دول الغرب عمومًا، المواقف العقائدية المختلفة، ليكوّنوا عنها فكرةً واضحة.
وكان ذلك بما عثروا عليه في المخطوطات الخاصة بحقل علم الكلام، وهي مخطوطات جرى جمعها في مكتبات برلين وباريس وإنكلترا، وغيرها. ثم ترجم فريقٌ من المستشرقين مؤلفات منها تبحث في علم الكلام إلى لغات أوروبية عدة، ولا سيما الألمانية والإنكليزية والفرنسية.
الترجمة والأدب المقارن وأدب الرحلات، مصطلحاتٌ ارتبطت في ما بينها، بحيث يصعب وضع حدٍّ فاصل بينها. وقد أدت دورًا بارزًا في الكشف عن تراث الأمم السابقة وما زالت، كما يعود لها الفضل في ظهور كثير من المصطلحات الأدبية المرتبطة بها، كالتوازي والتقاطع والفرنكوفونية والتأثير والتأثر والمثاقفة وغيرها، وهي كلها ساهمت في تلاقح الثقافات وتلاقيها، ما فتح المجال أمام الدارسين والباحثين الذين كشفوا عن علاقات مهمة ووثيقة بين ثقافات الأمم السابقة والحالية.
كُتب الكثير عن دور مترجم النص ترجمة أمينة أو غير أمينة، ولكن إذا كانت الترجمة في الماضي تعني، بحسب تعبير الفيلسوف والكاتب الفرنسي دنيس ديدرو (1713-1784)Denis Diderot ، نقل مفهوم من لغة إلى أخرى، فإننا اليوم مقتنعون تمامًا بأن الترجمة ليست مسألةً لغوية فحسب، بل هي مسألة ثقافية أيضًا، أي إنها نقل المفاهيم والأفكار من ثقافة إلى ثقافة أخرى، ما يعني أن المترجم يجب أن يمتلك المهارة اللغوية، والأهم من ذلك أن يدرك البُعد الثقافي للعمل الذي يترجمه.
وعند الحديث عن الترجمة، لا بد من أن نتحدث عن الاستشراق والأدب المقارن ودور المستشرقين والرحالة وغيرهم، في تلاقي الثقافات والأمم والأديان والعلوم كافة؛ فالترجمة حقلٌ معرفي مشترك، يؤدي دور الوسيط بين النص الأصلي (لغة المصدر)، واللغة التي ينتقل إليها النص (لغة الهدف)، وهي أيضًا فعلٌ إبداعي، ونشاط لغوي، وضرورة حضارية، وموقف أيديولوجي، تؤطرها كلها طبيعة العلاقات المتبادلة بين مجتمعَي النص: المترجم منه والمترجَم إليه في لحظة تاريخية معينة.
والحديث عن الترجمة حديثٌ قديم جديد، فكل عصر يضفي على المترجم التطورات التي تصيب الأمم، فيطاول مجالاتها المعرفية المختلفة، وهذا يعني أن تواكب الترجمة هذه التطورات من دون أن تغفل عنها.
وكما هو معروف، فإن الترجمات الأولى لنصوص علم الكلام الإسلامي إلى اللغات الغربية قام بها الأكاديميون، ونُشرت في إطار دراسات الاستشراق التخصصية، أي إن الترجمة من العربية – ضمن هذا المجال – كانت مقصورةً على الأساتذة الجامعيين، لا على المترجمين أو الأدباء كما هي الحال في الفروع الأخرى. وبالفعل، تبدو الترجمات القليلة الأولى لمخطوطات علم الكلام الإسلامي ونصوصه التي قام بها المستشرقون الأوروبيون كأنها بحوثٌ علمية أكثر منها أعمال أدبية بكل معنى الكلمة. وهناك من يقول إن الهم الأساسي لهؤلاء المترجمين – أو بالأحرى المستشرقين الأوائل – كان إظهار معارفهم الرفيعة المستوى، من خلال الحواشي والشروح في أسفل الصفحات المترجمة عوضًا عن الاهتمام بكيفية ترجمة النص وإيصاله إلى القارئ العادي بسلاسة. ومع بداية عصر النهضة، ازداد الاهتمام بالشرق عمومًا، وساهمت مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية في دفع الدراسات الاستشراقية في الدول الأوروبية، كي تنمو لتشكّل منظومةً معرفية تسعى إلى خدمة الغرب في سعيه الدؤوب إلى تحقيق أهدافه التي تنوعت وتعددت تجاه بلدان المشرق.
ومن خلال هذا الموضوع، يسلط الكتاب الضوء على دور المستشرقين في نقل الثقافة العربية إلى الغرب، ممثلةً في مصادر علم الكلام والعقيدة الإسلامية، من دون الوقوف على تحليل الجوانب السلبية، أو التطرق إلى نظرة المستشرقين إلى الشرق بطرفيها السلبي والإيجابي؛ فهو دراسة مسحية تلقي الضوء على المساحة التي أفردها المستشرقون للتخصص والمجال المعرفي المهم من الثقافة العربية – الإسلامية.
وبعد الخاتمة، وضع المؤلف ملحقًا فيه صور ولوحات لنماذج مما ورد ذكره في فصول الكتاب من مخطوطات ومؤلفات استشراقية.