اقرأ أيضا:
النبوة والاستقراء: كيف أصبحت يا حارثة؟
إن تفقُدات النبوة للرعية وأحوالها العامة والخاصة وما بعدها من الخلفاء الراشدين، وهي شواهد ومشاهدات كثيفة في السيرتين (النبوية والراشدة)، تحتاج إلى توقفات من السادة الباحثين، تأملًا لها ومضمونها وغايتها وآثارها في حركة المجتمع المسلم، ومن هذه التفقدات، تفقد النبي لحارثة –رضي الله عنه- “… بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شاب من الأنصار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ” كيف أصبحت يا حارثة ؟ ” ، قال : أصبحت مؤمنًا حقًا ، قال : ” انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة . قال : يا رسول الله ، عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ، وكأني بعرش ربي عز وجل بارزًا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها . قال : ” أبصرت فالزم ، عبد نور الله الإيمان في قلبه ” ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله لي بالشهادة ، قال : فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنودي يومًا في الخيل ، فكان أول فارس ركب ، وأول فارس استشهد ، قال : فبلغ ذلك أمه ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن يكن في الجنة لم أبك ولم أحزن ، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في دار الدنيا ، فقال : ” يا أم حارثة ، إنها ليست بجنة ولكنها جنان ، والحارث في الفردوس الأعلى ” ، فرجعت وهي تضحك وتقول : بخ بخ لك يا حارث”.
هذا الحديث يزخر بتوقفات عديدة ولكنه أحد المؤشرات التي نشير إليها في ممارسة النبوة لاستقراء أحوال الأمة للكشف عن مستوى إيمانهم واستعدادهم القلبي لتأدية نشاط الرسالة في الدعوة والتبليغ والشهود على الناس، وهي عينة عشوائية، أخضعتها النبوة لهذا الاستقراء الواقعي والمباشر من خلال دراسة حالة كاملة، كانت تلك الحالة نموذجًا حقيقًا لحالة الأمة ومعبرة تعبيرًا صادقًا عن المجتمع الأصلي الذي نبتت فيه وتعيش بينه. وتابعت النبوة مصداقية الحالة ويقين إيمانها، وكذلك الكشف عن أحوال أسرته أي ما حوله من بيئة كانت تتطلع لذلك الإيمان وتتشوق إليه.
إن تفقدات النبوة الاستقرائية وكذلك الخلافة الراشد، يمكنها أن تكون نقاط انطلاق لبحوثنا الاستقرائية مع مسلمي اليوم، بيان الحالة الإيمانية والمعرفية والتصورية للإنسان المسلم، بيان العوائق التي تحول دون الإيمان والعمل به، تاريخ الانحطاط الفردي وأسابه الأولى في حياة الأفراد، وأبرز المشتركات في تدني الأفراد الأخلاقي وانفصال واقعهم عن الإسلام، ثم مسببات انفصال الواقع الإسلامي كله عن الإسلام.
تغير التوجهات الشعبية الإسلامية وحتمية الاستقراء
إن موجات التغير البشري السريع خلال القرنين الماضيين عصفت بالعالم الإسلامي، وكان أبرز نتائجها تغيير اتجاهات الأفراد والطبقات الاجتماعية نحو قضايا متعددة أهمها قضايا الثقافة والتربية والتقدم والحداثة والتشبه والتقليد الأعمى للحضارة المعاصرة، وهذا التغيير المفاجئ أو السريع بالأحرى يكمن وراءه تغير قيمي بالأساس بل سابق عليه، فالاتجاهات تتغير نتيجة تغير القيم التي تقع في قمة الهرم الوجداني للفرد. وهذه القيم وما صحابها من تغيير شديد في حاجة إلى قراءة استقرائية وتتبع ميداني ذاتي، أي من داخل المجتمعات الإسلامية نفسها وبأدواتها التي تلائم غاية القراءة وهدفيتها. وهو ما ينبغي أن يشمل قطاعات متعددة من النساء والرجال، من الفقراء والأغنياء، من المتعلمين وغير المتعلمين.
إن قضايا الأسرة، والعلاقات الاجتماعية – على سبيل المثال- في كافة أشكالها وأنماطها في المجتمعات الإسلامية شهدت تغيرات واسعة، وكذلك تمكن نزعات المادية المفرطة من أجيال الأمة لا سيما شبابها ، وتمكن نزعة الاستهلاك من الجماهير المسلمة وتراجع قيمة العمل وهيمنة نموذج “المال الوالد” للمال، وانتشار البطالة الكثيف.. كل ذلك سبقه تضحيات قيمية كبيرة من مجمعاتنا الإسلامية أُسدلت عليها الستائر وتضاءلت فرص العثور عليها.
كيف أصبحنا مسلمين؟
إن مفردة (الإسلام) من المركزية بمكان أن نجعلها مدارًا للتساؤلات الرئيسة في استقرائنا لحالات الأفراد في مجتمعاتنا الإسلامية، في محاولة للإجابة عن تساؤلات: ما الذي حدث بين الإسلام والمسلمين؟ ولماذا تراجعت تلك العلاقة الحميمية التي كانت عند (حارثة) ولماذا فرَّطُوا في فاعلية عقيدتهم؟ وما شعورهم في ظل ممارساتهم اليومية والتاريخية المختلفة أو المتناقضة مع الإسلام؟ من الضروري أن يدخل الباحثون المسلمين إلى تفاصيل الحياة الإسلامية من أجل توليد معرفة جديدة نتغلب بها على مشكلات الحياة الاجتماعية الإسلامية، بالتوصل إلى الحقائق أقصد حقائق الإجابات على هذه الأسئلة.
ومن هذه التساؤلات: ما معنى كلمة (إسلام) عند المسلمين؟ ما مكانة (الإسلام) في برامج التنشئة الأولية والمدرسية (مساحة وقيمة وفكرة)؟ ما مكانة (الإسلام) في التكوين الثقافي والفكري للمسلمين المعاصرين؟ ما نسب تقاطع (الإسلام) في سلوك المسلم اليومي: في تصوراته ونزوعاته الوجدانية وانفعالاته؟ ما مصادر تعرف المسلمين على (الإسلام)؟ أولية أم ثانوية، موثوقة أم غير موثوقة؟ سلطوية أم مستقلة؟ وراثية أم مكتسبة؟
إن الدعوة إلى استقراء (الإسلام) في حياة المسلمين هي دعوة لتوليد معرفة إصلاحية إنسانية جديدة في الواقع الإسلامي، نتعرف بها على الحالة الإسلامية وإشكالاتها من خلال عيوننا الإسلامية، وفحصنا لذاتنا فحصًا أمينًا يلازمه الصدق بجوانبه الموضوعي والمحتوى والتنبؤي والظاهري. وهو من مسؤوليات الجيل الراهن للإصلاح في الأمة.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين