من الإشكاليات المطروحة في الوطن العربي ضعف الإقبال على المطالعة ورواج الكتاب ، ولئن أرجع بعض الباحثين أسباب ذلك إلى عدم تجذّر عادات القراءة والمطالعة في الممارسة الاجتماعية ومزاحمة وسائل الإعلام الحديثة، فإن هناك أسبابا أخرى لم تلق التحليل الكافي تتعلق بالسياسات المتّبعة من طرف الأفراد والمؤسسات في إنتاج الكتب وتداولها.

في بحث جامعي قام به الدكتور محمد صالح القادري عن الكتاب والمطالعة في تونس أرجع أفراد العينة التي اعتمدها الباحث ظاهرة العزوف عن المطالعة إلى: «ضيق سوق الكتاب الثقافي التونسي الذي يوفر عناوين ﻻ تستجيب لمقاييس الجودة وﻻ تشدّ القارئ». [1]

وفي دراسة ميدانية شملت عينة عشوائية من جمهور معرض تونس الدولي للكتاب سنة 1996 تضمّ 4655 زائرا صرّح أكثر من 80 % منهم أنهم لا يجدون الكتب التي يأتون من أجلها إلى المعرض. [2]

ومن وجهة نظر الدكتور محمّد صالح القادري فإنّ قضيّة الكتاب والمطالعة يجب تنزيلها في أرضيّة معالجة اجتماعية، والبحث في تفسير ظاهرة العزوف عن المطالعة بطريقة موضوعيّة ترتبط بواقع المطالع الاجتماعي وباستعداداته النفسيّة والذهنيّة، وبظروف إنتاج الكتاب واقتصادياته ووضعيّة الكاتب وفضاءات المطالعة. [3]

الكتاب في غياب مواصفات للجودة

لا توجد حاليا في الوطن العربي سياسات معتمدة بشكل شامل في إنتاج الكتب طبق مواصفات للجودة يلتزم بها الأفراد والمؤسسات، ولا نجد هذه السياسات سوى في بعض مؤسسات التعليم والجامعات وتتعلّق أساسا بإنتاج الكتاب المدرسي والجامعي.

إنّ عدم العمل بمواصفات للجودة في إنتاج الكتب في الوطن العربي جعل إنتاج الكتب يتّصف بالوفرة في العناوين الصادرة دون مواكبتها للحاجات الحقيقيّة. وكثير من هذه الكتب يتميّز بضعف المحتوى وطريقة العرض والأسلوب. ولا شكّ أنّ لذلك تأثيرا مباشرا على ضعف رواج الكتب ومطالعتها.

إنّ وفرة الكتب الصادرة ليس في حدّ ذاته معطى يعتدّ به. فلا عبرة بكثرة الكتب، وإنما العبرة بقيمتها وما تحقّقه من استفادة وأثر في الواقع. إن ازدحام السوق بالمؤلفات يجعل المرء في حيرة من أمره حول ما يقرأ وما يترك منها خاصة إذا كانت تطرق نفس الموضوع وتكرر نفس المعلومات. فتوفّر المعلومات بشكل مكثّف ومتشظّّ قلّما يستجيب للحاجة المعرفيّة الحقيقيّة، بل إنّ المعلومات المكثّفة والمكرّرة أو الموزّعة على عدّة كتب حول أي شيء قد تقف حائلا دون فهمه على الوجه الصحيح، تماما مثل ما تقف المعلومات القليلة حائلا دون فهمه.

وقد نبّه ابن خلدون إلى أن كثرة التآليف في العلوم بشكل غير منهجي وغير منضبط هي عائقة عن التحصيل، وخصّص لذلك فصلا كاملا في مقدّمته قال فيه: «إعلم أنّه مما أضرّ بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف». [4]

وإلى جانب وفرة الكتب يوجد عدم توازن واختلال كبير في اهتماماتها بمختلف المجالات المعرفيّة والأدبيّة. ولا يدلّ ذلك على تجاوب حقيقي مع حاجات القارئ العربي وما يتطلّبه بناء كيانه الثقافي بشكل منسجم مع الواقع والعصر.

ومن الأسباب التي قد تصرف المرء عن المطالعة تضخّم حجم بعض الكتب وارتفاع عدد أوراقها إلى مئات الصفحات. وهذا الحجم المرتفع ليس في كثير من الحالات لضرورة المادة المعرفية أو الأدبية للكتاب، ولكنه ناتج عن كثرة الحشو والتكرار واستعمال الجمل الطويلة. وكان بإمكان مؤلفي هذه الكتب إبلاغ مقصودهم بنصف ما حبّروا من مداد دون إخلال، لو توخوا الإيجاز والقصد والتسديد.

مواصفاتلجودةالكتاب

الكتاب هو رسالة يبعث بها مؤلفه إلى جماعة من الناس يستهدفهم. ولكي تصل رسالة الكاتب إلى القرّاء وتحقّق الاستفادة المرجوّة منها فلا بد أن تكون ملبّية لحاجات القرّاء المستهدفين وطبق مواصفات محدّدة وذلك هو مفهوم الجودة. فالجودة تعني المطابقة للمواصفات. وتشير كلمة «المطابقة» إلى مقابلة المنتوج أو الخدمة لمواصفات معيّنة محدّدة بوضوح. [5]

إنّ المؤلّف والقرّاء المستهدفين ومحتوى الكتاب وطريقة تنظيمه وأسلوبه وشكله الخارجي كلّّها عناصر يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عندما نريد تحقيق الجودة في عملية إنتاج الكتب. فالكتاب هو سلعة ذات وجهين: اقتصادي ورمزي، ولكنّه ليس سلعة عادية نتعامل معها كما نتعامل مع باقي السلع.

إنّ وضع مواصفات لضمان جودة الكتاب والعمل بها يساهم في المحافظة على قيمته الرمزية وعدم تدنّيها، كما يساهم في زيادة رواج الكتب ومطالعتها، ويرفع من مردوديّتها في نشر العلم والثقافة.

وبالنسبة للكتب المعرفية هناك مواصفات يرى كثير من العاملين في حقل إنتاج الكتب أنها ضروريّة لضمان الجودة المطلوبة. فبالنسبة لمؤلف الكتاب يجب أن تتوفر فيه الكفاية اللازمة وأن يكون مختصا في المجال الذي يريد الكتابة فيه. ويجب أن يتصف بالدقة والأمانة العلمية وأن يراعي واقع قرّائه المستهدفين وخلفيتهم الثقافيّة، كما يطوّع في أسلوب كتابته ولغته بما يناسبهم مع التزام الوضوح وتجنّب التعقيد.

وتأليف الكتب لا يكون لمجرد الرغبة في التأليف والنشر كما لا يكون في مواضيع لا تفيد ولا تنفع. ولكن يجب أن يكون مرتبطا بالحاجات الحقيقيّة في المجتمع والتي يوجّه الكتاب لإشباعها. وقد ذكر ابن حزم أن الأغراض التي يؤلف فيها هي سبعة  وهي: «إما شيء لم نسبق إلى استخراجه فنستخرجه، وإما شيء ناقص فنتممه، وإما شيء مخطأ فنصححه، وإما شيء مستغلق فنشرحه، وإما شيء طويل فنختصره دون أن نحذف منه شيئا يخلّ حذفه إياه بعرضه، وإما شيء متفرق فنجمعه، وإما شيء منثور فنرتبه».[6]

ويُرتّب المحتوى ترتيبا منطقيّا متدرّجا متوازنا بشكل مترابط، مع الجمع بين الأمور النظرية والتطبيقية والحرص على الدقّة والشمول والعمق وحداثة المعلومات وتجنّب التكرار. وينظّم محتوى الكتاب من خلال أبوابه وفصوله وفقراته ومن خلال وضع عناوين أساسية وفرعية لكلّ موضوعاته واعتماد التقديم والتلخيص لكل باب ولكل فصل وتلخيص كل محتوى هام يتميّز بوحدة معرفية مع إبراز الجمل الهامة والأساسية بالخطّ العريض. فتنظيم المحتوى بهذه الطريقة ييسّر قراءة الكتاب ويسمح للقارئ بعدة مستويات من القراءة: قراءة سريعة استكشافية أو قراءة انتقائية أو قراءة شاملة وذلك حسب حاجة القارئ.

وللشكل الخارجي للكتاب دور لا يجب إهماله حيث أنه يساهم في جذب القارئ . فيتحتّم أن يكون الكتاب ملائم الحجم، أنيق المظهر، جميل الغلاف، جيّد الورق، متين التجليد. وأن يكون إلى جانب ذلك خاليا من الأخطاء اللغويّة والمطبعيّة موفّقا في اختيار عنوانه.

ومن المهم أن يشتمل الغلاف الخارجي للكتاب على معلومات كافية للتعريف به، تتضمّن مجاله المعرفي أو الأدبي ونوعه، والفئات المستهدفة وخلفيتها، ومختصرا لمحتواه وأهدافه، وسيرة كاتبه. ويمكن لهاته المعلومات أن ترد ضمن مطويّة صغيرة توضع داخل الكتاب.

تنميةمجتمعالمطالعين

تعدّ المطالعة فعلا حضاريا وثقافيا هاما يؤثر على مدى تطوّر المجتمعات. ولا شك أن الرفع من جودة الكتب الصادرة سيكون له تأثير مباشر على زيادة رواجها ومطالعتها. فالكتب تصدر لتقرأ، ولا قيمة لكتاب يقبع على رفّ مكتبة أو خزانة. ومردوديّة كل نسخة من كتاب تقاس بعدد الذين طالعوها واستفادوا منها وكان لهذه الاستفادة أثر في حياتهم.

ولا يكفي تحسين جودة الكتاب وحدها لتنمية مجتمع المطالعين، بل لا بدّ من العمل على إنجاز برامج أخرى تتعلّق بتنشئة الفرد القارئ، وتطوير مساهمة المجتمع المدني في نشاطات المطالعة، وتطوير سياسات المؤسّسات التي لها علاقة بالكتاب والمطالعة كالمؤسّسات التربويّة والمكتبات ودور النشر.

ففيما يخصّ القارئ لا بدّ من تعليمه كيف يقرأ. وتوجد عدّة طرق حديثة في التعامل مع الكتب وقراءتها. وهذه الطرق يجب أن نعلّمها لأبنائنا وندرّبهم عليها منذ مرحلة الدراسة حتى يكتسبوا مهارات القراءة التي تمكنهم من اختيار الكتب المناسبة لهم والاستفادة منها بأفضل ما يمكن مع اختصار الوقت والجهد.

وفيما يتعلق بتطوير مساهمة المجتمع المدني في نشاطات المطالعة يمكن أن نقترح إلى جانب نوادي الكتاب وجمعيات أحباء الكتاب إنشاء ما يمكن تسميته: «مكتبات الأحياء». وهي مكتبات يبعثها القاطنون في حيّ أو قرية صغيرة، ويتكوّن مخزونها من الكتب من تبّرع كل من يريد اﻻشتراك فيها بعدد محدّد من كتبه التي لم يعد في حاجة إليها، ويصبح بذلك التبرّع مشتركا في مكتبة الحيّ، ويحقّ له استعارة الكتب منها لمطالعتها. ويمكن أن تخصّص لهذه المكتبات فضاءات عموميّة ويسيّرها موظّفون عموميون أو أن يتمّ ذلك من طرف المشتركين في مكتبة الحيّ وبإمكانياتهم الذاتيّة.

أمّا المؤسسات التي لها علاقة بالكتب والمطالعة فإنّها مطالبة بتطوير سياساتها بما يتماشى مع واقع القارئ  وفهم رغباته والاستجابة لحاجاته الثقافية المتطورة. وهذه الاستجابة تكون بعدّة طرق وأشكال كمراجعة سياسات نشر الكتب ومواصفاتها والتنسيق بين كافة المتدخلين في هذا الميدان وتشجيع التأليف الجماعي.

إنّ تحسين سياسات إنتاج الكتاب باعتماد مواصفات الجودة، وتطوير نشاطات المطالعة من طرف المجتمع المدني ومن طرف المؤسسات المعنيّة بالكتاب والمطالعة بما يتناسب مع الواقع والحاجيات، كلّ ذلك بإمكانه أن يساهم بشكل فعّال في تغيير وضع الكتاب والمطالعة الحالي وفي تطور المجتمع.