من القضايا المطروحة على المسلمين قضية الفهم الصحيح للدين ووجود المرجع في فقه الدين وتحديد المؤهلين لتقديم ذلك الفهم والفقه ولتعليم المسلمين دينهم.
إنّ عدم إعطاء هذه القضية ما تستحق من أهمية ترك المجال مفتوحا أمام الجهّال وأعداء هذا الدين للترويج لفهم منحرف للدين، ولذا فإنّنا بحاجة لأن نذكّر أنفسنا بما أمر الله به في خصوص فقه الدين أو فهمه، وفي خصوص تعيين المؤهلين لتعليم المسلمين دينهم. فما هي منهجية الإسلام في فقه الدين و في تعليم المسلمين دينهم؟

إنّ اﻹجابة عن ذلك جاءت في قول الله سبحانه وتعالى:

«وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» [التوبة: 122].

تشير هذه الآية إلى تكوين فرقة من المؤمنين للمهام المعينة والمتخصصة، والفرقة: الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن، وليس من المصلحة أن يتوجه كل أفرادها إلى عمل واحد ينفرون إليه جميعا وﻻ يبقى أحد للقيام بالأعمال الأخرى التي تحتاج إليها جماعة المؤمنين.

وتبين هذه الآية أنّ من بين الأعمال التي يجب أن تتفرغ لها وتتخصص فيها طائفة من كل فرقة من المؤمنين (طائفة: جماعة دون أن تتقيد بعدد فذلك منوط بمقدار الحاجة) عملا يختصّ بالتفقّه في الدين أي حصول الفهم في الدين والذي هو ليس بالأمر الهيّن بل هو: «أمر دقيق المسلك ﻻ يحصل بسهولة» (1).

كما تبين هذه الآية أنّ هذه الطائفة هي الموكّل بتعليم المسلمين دينهم ووعظهم وإنذارهم بما فقهوا من الدين: «وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ». وهذه الطائفة هي التي نسميها علماء الدين.

إنّ التفقّه في الدين ﻻ يكون إﻻّ طبق منهج حدّدته النصوص الشرعية ذاتها. وهذا المنهج متضمّن في علم أصول الفقه وقواعده التي تصل إلى خمسمائة قاعدة أصولية قطعية مستمدة من النصوص الشرعية. فمن ذلك مثلا وجوب تمكّن الفقيه تمكّنا تاما من اللغة العربية. قال الله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» [يوسف: 2]. ومن ذلك فهم النصوص الشرعية في علاقتها ببعضها وليس بشكل منفصل. قال الله تعالى: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» [البقرة: 85].

والقواعد الأصولية قسّمها العلماء إلى عدة أقسام، فمنها قواعد في الحكم الشرعي، وقواعد في الأدلة الشرعية، وقواعد في تفسير النصوص، وقواعد في اﻻجتهاد والتقليد، وقواعد في التعارض والترجيح وغيرها.

إنّ دور العلماء دور أساسي في الإسلام ﻻ يمكن اﻻستغناء عنه. وتكوين العلماء في الدين هو واجب كفائي على كل فرقة من المسلمين إذا لم تقم به فإنّ كل أفرادها يتحملون الذنب في ذلك. وإذا فُقد العلماء يحلّ محلّهم الجهّال الضالين المضلّلين. يقول رسول الله : «إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا» (أخرجه البخاري).

ومن الشروط التي يجب أن تتوفر في العلماء أن يتصفوا بصفة العدالة، وتعني استقامة العالم في سيرته وأقواله وأعماله طبق أخلاق اﻹسلام وملازمة التقوى والمروءة دون اشتراط العصمة. فالعلماء بشر مثلنا، وليسوا معصومين من الخطأ ومن ارتكاب الصغائر من الذنوب ولكن دون اﻹصرار عليها. وخطأ العالم وزﻻته يقع الردّ عليها من طرف العلماء. قال رسول الله : «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (أخرجه البيهقي).
إنّ دور العلماء يجب أن يرتكز على العمل الجماعي والتعاون فيما بينهم كما جاء في الآية 122 من سورة التوبة التي تتحدث عن طائفة يتفقهون في الدين أي يقومون بهذا العمل بشكل جماعي وليس بشكل فردي: «طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ». فأمر فقه النصوص المقدسة وإدراك مراد الله منها ليس بالأمر البسيط حتى يحيط به فرد واحد مهما كان علمه وجهده.

وقد أصبح علماء المسلمين المعاصرون يتجهون نحو العمل الجماعي مثل ما يقع في مجال الفتوى في مجمع الفقه اﻹسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي، أو في مجال التأليف الجماعي للكتب والمراجع الفقهية مثل: «الموسوعة الفقهية»، أو «معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية» واللتان شارك فيهما عشرات العلماء.

يقول الإمام العلامة محمد الطاهر ابن عاشور: «من مقاصد الإسلام بثّ علومه وآدابه بين الأمة وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها» (2).

وإذا كان تعلم العلوم الشرعية فرض كفاية على كل فرقة من المسلمين إذا قام به البعض سقط عن الكلّ، فإنّ تعلّم الضروري من الدين بالقدر الذي يحتاج إليه المسلم في إقامة دينه هو فرض عين على كل مكلّف. فيجب عليه طلب العلم بالأحكام الشرعية في باب من أبواب الفقه إذا كان يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها. قال الله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» [النحل 43]. وقال رسول الله : «اعملوا بكتاب الله وﻻ تكذبوا بشيء منه فما اشتبه منه عليكم فسلوا عنه أهل العلم يخبروكم» (أخرجه الطبراني).
وبالنظر إلى واقع المسلمين في زماننا هذا يتبين أنه ﻻ يتوفر لعدد كبير منهم سوى معرفة محدودة بأمور دينهم، هي في كثير من الأحيان معرفة منتقاة أو ناقصة أو مشوهّة أو مشوّشة أو مغلوطة، والسبب في ذلك ضعف التعليم الديني في المناهج الدراسية وتغييب دور العلماء.

يقول الدكتور فضل بن عبد الله مراد: «جعل مواد الشرع واللغة غير أساسية في المراحل اﻻبتدائية والأساسية والثانوية، تعمد في تضليل الجيل بدينه وهويته العربية واﻹسلامية التي توصله لفهم الشريعة، وهو من الصد عن سبيل الله ومحاربة الله ورسوله، لأدائه إلى الجهل بالله ورسوله ودينه، وضروريات التكليف» (3).

إنّ من واجبنا جميعا توفير الأسباب والظروف الملائمة كي نوفر لعامة المسلمين المعرفة الضرورية والصحيحة بدينهم من خلال تكوين العلماء تكوينا شاملا على أسس صحيحة، وتوجيه خيرة أبنائنا لتعلم العلوم الشرعية، ومن خلال تنظيم تعليم الدين في مختلف مراحل التعليم العام بشكل منهجي، ومضاعفة الساعات المخصصة لذلك، وتعديل محتوى البرامج لتكون شاملة وغير مخلّة.
إن توفير المعرفة الصحيحة والشاملة بالدين هي الضمانة الوحيدة للمسلمين من كل انحراف وانحلال، وبها فقط سبيل قوتهم ونهضتهم. 


(1) محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، (تونس، الدار التونسية للنشر، 1984) الجزء الحادي عشر، ص 62 .
(2) المرجع السابق، ص 59.(3) فضل بن عبد الله مراد، المقدمة في فقه العصر، الطبعة الثانية (صنعاء، الجيل الجديد ناشرون، 2016) ص 404.