الثقة بالنفس من العوامل النفسية الهامة التي تلعب دورًا كبيرًا في إدارة الفرد لذاته، وتحدد شكل علاقته بالآخر، وتسهم في توظيف الفرد لطاقاته، وتحقيق أهدافه وطموحاته، وهذا على مستوى الفرد، أما على مستوى الأمة فإن تحقيق الآمال الكبيرة، والانتصار على الأعداء، وتحرير المقدسات، وإعلاء راية الإيمان لن يقوم إلا على أكتاف أناس لديهم ثقة بربهم، ثم ثقة بأنفسهم. وأيضا أناس لديهم دراية بالمنهج النبوي في تدعيم الثقة بالنفس.

أهمية الثقة بالنفس

عندما نتحدث عن المنهج النبوي في الثقة بالنفس، نقول أن الإنسان الواثق بنفسه لديه القدرة على حسن إدارة ذاته، ومواجهة المواقف الحرجة، وتجاوز العقبات، والثقة بالنفس من العوامل الهامة التي تمكن الفرد من الانفتاح على الآخرين، وحسن التواصل معهم، بالإضافة إلى أنها تساعده على توظيف إمكانياته وقدراته التوظيف الأمثل، وأيضًا تمكنه من الإنجاز في الحاضر، وتحقيق الأهداف في المستقبل؛ هذا مما يجعله يشعر بالاستقرار والطمأنينة والإحساس بالسعادة، والاستمتاع بلذة النجاح.

وفي المقابل فإن الفرد غير الواثق في نفسه يجد في نفسه ضعفًا عند مواجهة المواقف الحرجة، وربما يشعر بالإحباط والتثبيط عند مواجهة مواقف عادية، وقد يفسرها على أنها مستحيلات يصعب تجاوزها، كما أنه لا يستطيع إدارة ذاته، وقد يعاني من الانسحاب والهروب وخاصة في المواقف الحرجة، وفقد القدرة على التواصل الجيد مع الآخرين، حيث إن لديه حساسية شديدة، ويفسر كثيرًا من الأشياء العادية التي يتعرض لها على أنها محبطة أو مهينة لكرامته، والشخص غير الواثق بنفسه لا يرى قدراته الحقيقية ومواهبه، أو يراها على أنها أشياء عادية ليس لها قيمة كبيرة، وبالتالي فهو لا يتمكن من توظيف إمكانياته.

كما أن لديه شعورًا بالإحباط يجعله عاجزًا عن تحقيق كثير من الإنجازات، أو وضع أهداف ذات قيمة في حياته، فضلاً على أن يصل إليها إذا وضعها، مما يجعله في نهاية المطاف لديه شعور بالإحباط واليأس، ويفقده ذلك أن يشعر بلذة النجاح.

و حتى نتبع المنهج النبوي في الثقة بالنفس، نشير أن هناك مجموعة من العوامل التي تدعم الثقة بالنفس لدى الفرد، يمكن أن نستقيها من خلال المنهج النبوي؛ وهي كالآتي:

1 ـ تغيير الأسماء القبيحة : كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك بحكمته السامية أهمية الاسم الحسن في تدعيم الثقة بالنفس، فكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الاسم الحسن ويتفاءل به، ويكره الاسم القبيح ويغيره، وفي رواية نافع عن بن عمر في صحيح مسلم: أن ابنة لعمر كان يقال لها عاصية فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة، وفي رواية أخرى عند الإمام مسلم أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غيّر اسم عاصية فقال: “أنت جميلة.

النهي عن تحقير الذات : ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي. ومعنى لقست أي: غثت أو ضاقت؛ وفي هذا الحديث نهي عن تحقير الإنسان لنفسه.

ويكره للمسلم وصف نفسه بالصفات القبيحة حتى ولو كان صادقًا، وليس ذلك من التواضع، ويعلق على الحديث السابق ابن حجر قائلاً: (إن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن، ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما، ويدافع الشر عن نفسه ما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة).

3 ـ الرسائل الإيجابية : كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يوجه الرسائل الإيجابية إلى من حوله من الصحابة ليلفت نظرهم إلى الإيجابيات التي لديهم، والصفات الحسنة التي تميزهم؛ هذا مما يكون له أكبر الأثر في تكوين مفهوم إيجابي عن الذات، وأيضًا له فائدة عظيمة في لفت النظر إلى أهم الإيجابيات والمميزات التي يتحلى بها الشخص، ويعتبر هذا حجر الزاوية في توظيف هذه الطاقات، وحسن استثمارها.

ومن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب

قوله لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إنك غلام معلم”، وقوله لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: “لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود”. وقوله لأشج عبد القيس رضي الله عنه: “إن فيك لخصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة”.

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم توزيع الألقاب على من حوله من صحابته، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس: “لو كنت متخذًا من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً”، وفي سنن الترمذي عن عقبة بن عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو كان بعدي نبيٌ لكان عمر بن الخطاب“، وفي مسند أحمد عن عقبة بن عامر أيضًا: “لو كان من بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب”.

وهكذا يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بتوزيع الأوسمة والنياشين على صحابته عبر الألقاب المختلفة التي تعبر عن أهم ما يميزهم وما يتصفون به، وقد توارثت الأمة هذا في تاريخها، فنحن نجد في كتب التراث ألقاب مثل: “حبر الأمة – أمين الأمة – أمين السر – إمام أهل السنة، وهكذا…”.

مدح النفس بضوابطه : ومن أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: “أنا سيد ولد آدم، أنا حبيب الله ولا فخر، أنا أكثر الأنبياء تبيعًا يوم القيامة، أنا أعلمكم بالله وأتقاكم، أن أحق من وفّى بذمته”.

وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن نفسه: “والله لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله تعالى، وما أنا بخيرهم”، وقال: “والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته”.

وأما إذا كان هناك نهي عن تزكية النفس لقول الله عز وجل: ]فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى[ (النجم : 32)، وقوله تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً[ (النساء : 49)، إلا أن العلماء اعتبروا هذا النهي عن التزكية إن كان على سبيل الإعجاب أو الرياء، واستثنوا من ذلك ما كان على سبيل التحدث بنعمة الله.

ففي تفسير الألوسي: نزلت الآية في قوم من المؤمنين كانوا يعملون أعمالاً حسنة، ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا، وهذا مذموم فنهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب أو الرياء، أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به، ولا يُعَدّ فاعله من المزكين أنفسهم؛ ولذا قيل المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر، ولا فرق في التزكية من أن تكون عبارة، أو تكون إشارة.

5 ـ توظيف الطاقات : قدم سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه إلى المدينة وهو ابن إحدى عشرة سنة وما أجازه النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ولا في أحد، وأجازه النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، وكان حينئذ ابن خمس عشرة سنة، ولما رده النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد أسر سيدنا زيد لأمه أن يتقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزمه، فأخذه رجال من قومه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا له هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق يجيد الكتابة والقراءة، ويريد أن يتقرب إليك ويلزمك فاسمع منه إذا شئت، فسُرّ به النبي صلى الله عليه وسلم لحفظه وحسن تلاوته ووعيه وفهمه لآيات القرآن، فتخصص في القرآن وأصبح المرجع الأول فيه لأمة محمد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا نموذج من النماذج العديدة في السنة التي تعبر عن حسن فهم الإنسان لطاقاته وإمكانياته؛ كما حدث من سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي أسر إلى أمه بما يريد، كما يعبر عن مدى قدرة المجتمع المسلم على اكتشاف المواهب وتوظيف القدرات، فقد ذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم بتوظيف طاقاته التوظيف الأمثل، وهذا أسوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنه رد سيدنا زيد بن ثابت في أمر إلا أنه أجرى له اختبارًا ووظفه التوظيف المناسب له الذي جعل منه شخصًا متميزًا بعد ذلك في حياة الأمة.

عدم توجيه الرسائل السلبية : قال الرسول صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي ذر رضي الله عنه لما عيَّر رجلاً بأمه: “إنك امرؤ فيك جاهلية”، وقال شراح الحديث كلمة “فيك” تعني خصلة أو خلق؛ ففي فتح الباري: أي خصلة من خصال الجاهلية، وفي النووي على مسلم وعون المعبود وفيض القدير: أي خلق من أخلاقهم. وفي هذا نتعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم القاعدة التربوية التي تقول: “سفّه السلوك ولا تسفه الشخص”.

وأيضًا في إطار المنهج النبوي في الثقة بالنفس، كان من هديه صلى الله عليه وسلم (فلترة) الرسائل السلبية، أي منع وصولها إلى الصحابة حتى لا تؤذيهم، فعندما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشأن سيدنا حاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعني أضرب عنق هذا المنافق لقد خان الله ورسوله والمؤمنين، فما كان من رسول الله إلا أن قال: “مَه يا عمر.. إنه من أهل بدر، لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم قد غفرت لهم”. وفي رواية “وجبت لكم الجنة”، وهذا في خطأ كان ظاهره الخيانة العظمى، فكيف بما هو دون ذلك؟!

بين الثقة والغرور

بين الثقة بالنفس والغرور شعرة كما يقولون، فالثقة أمر فاضل يقع في الوسط بين رذيلتين؛ بين عدم الثقة من جهة والتعالي أو الغرور من جهة أخرى، فالشخص غير الواثق بنفسه يرى في نفسه عدم الكفاءة والقصور، ويقلل من شأن قدراته ومواهبه، ويقارن نفسه بالآخرين فيشعر أنه أقل منهم، أما المغرور فيرى في نفسه الكفاءة، وأن لديه مواهب وقدرات إلا أنه يراها أكبر من حجمها الحقيقي، ويقارن نفسه بمن حوله فيشعر أنه أفضل منهم، فيتعالى عليهم وربما يحتقرهم، وفي الحديث: “الكبر بطر الحق وغمط الناس”، وعادة ما يكثر المغرور من قول “أنا”؛ فهو ينسب الفضل لنفسه لا لربه.

أما الواثق بنفسه فيرى في نفسه الكفاءة، وأن لديه مواهب وقدرات، ولكنه يراها في حجمها الحقيقي، ولا يرى نفسه أنه أقل من الآخرين أو أفضل منهم، بل إن لديه إمكانيات ليس في غيره وفي الآخرين إمكانيات قد لا يتصف بها هو، كما أنه دائمًا حريص على أن ينسب الفضل لله فيما يملك وليس لنفسه، وصدق الله العظيم إذ يقول: “وأما بنعمة ربك فحدث”.

حبذا لو تعلمنا -وتعلم معنا كل المهتمين بعملية التربية- كيفية إعداد جيل واثق بنفسه متصل بربه قادر على إسعاد نفسه وتحقيق الآمال لأمته.


كتبه :الدكتور محمد سيد رمضان دكتوراة في علم النفس