عبد الله بن مسعود صحابي جليل وفقيه ومقرئ ومحدث، وأحد رواة الحديث النبوي، وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وصاحب نعلي النبي محمد وسواكه، وواحد ممن هاجروا الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، وممن أدركوا القبلتين، وهو أول من جهر بقراءة القرآن في مكة. وقد تولى قضاء الكوفة وبيت مالها في خلافة عمر وصدر من خلافة عثمان.

إنّ حبّ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من الأمور الواجب الإيمان بها في عقيدة أهل السنة والجماعة، وقال الطحاوي رحمه الله في ذلك: “ونحبُّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نفرِّط في حبّ واحدٍ منهم، ولا نتبرّأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكُرهم، ولا نذكُرهم إلّا بخير، وحبُّهم دين وإيمان وإحسان، وبُغضهم كفرٌ ونفاق وطغيان”، فالصحابة من أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام، وتجدر الإشارة إلى أنّ تعظيم مكانة الصحابة ومحبّتهم من تعظيم ومحبّة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن الفضائل التي تخصّص الصحابة بمكانةٍ رفيعةٍ خيريتهم، حيث إنّهم خير القرون، وممّا يدل على ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: “خيرُ هذه الأمةِ القرنُ الذين بعثتُ فيهم، ثمّ الذين يلونهم”، كما أنّهم نقلوا الشريعة من الرسول إلى الأمّة من بعده، ونشروا بينهم العديد من الفضائل والأخلاق الكريمة من الصدق والنصح وغيرها، وقدّموا البطولات العظيمة في الفتوحات الإسلامية.

أحد هؤلاء الصحابة، الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الفقيه المحدِّث أحد رواة الحديث، الذي كان خادما للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحب نعليه.

من هو عبد الله بن مسعود؟

هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شَمْخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة ابن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذَيل بن مدركة بن إلياس، الهُذَلي المكي، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد أفقه الصحابة رضوان الله عليهم الذين رووا علمًا كثيرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان أحد السابقين الأولين الذين أسلموا قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، إذ أخرج الطبراني والبزار وغيرهما عنه أنه قال: لقد رأيتني سادس ستة ما على وجه الأرض مسلم غيرنا. روى عنه القراءة أبو عبد الرحمن السُّلَمي وعبيد بن فُضيلة وغيرهم، واتفق البخاري ومسلم في الصحيحين على أربعة وستين حديثًا، وانفرد له البخاري بواحد وعشرين حديثًا، ومسلم بخمسة وثلاثين.

وكنيته أبو عبد الرحمن، فقد روي عن علقمة عنه أنه قال: كنّاني النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبد الرحمن قبل أن يولد لي. وكان يعرف أيضًا بأمه فيقال له: ابن أمّ عَبْد.

وكان رضي الله عنه لطيفا فطنا ومعدودا في أذكياء العلماء. ومن الصفات الخًلقية التي اتصف بها أنّه لم يكن ذا طول، وكان وزنه خفيفً جداً، فكان آدم شديد الأدمة، نحيفًا قصيرًا دقيق الساقين.

إسلامه

رُويَ أنّه كان من أوائل الذي أسلموا، وقيل إنه سادس من أسلم، وشارك في غزوة بدر، وأُحُد، والخندق، وبيعة الرضوان، وغيرها من الغزوات والمشاهد، وهاجر الهجرتين.

وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الحادثة التي جعلته مؤمناً برسالة محمد عليه السلام، حيث قال: “كنتُ غلامًا يافعًا أرعى غنمًا لعقبةَ بنِ أبي معيطٍ فجاء النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ وأبو بكرٍ رضِيَ اللهُ تعالَى عنهُ وقد فرَّا من المشركينَ فقالا: يا غلامُ هل عندَك من لبنٍ تسقيَنا ؟ قلت: إنّي مؤتَمنٌ ولستُ ساقيَكما فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: هل عندَك من جزعةٍ لم ينزِ عليها الفحلُ ؟ قلت: نعم فأتيتُهما بها فاعتقلها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ومسح الضرعَ ودعا فحفلَ الضرعُ، ثم أتاه أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ بصخرةٍ منقعرة ٍفاحتلب فيها فشرب وشرب أبو بكرٍ ثم شربتُ ثم قال للضرعِ اقلُصْ فقلص فأتيته بعد ذلك فقلت: علِّمني من هذا القولِ قال: إنك غلامٌ مُعلمٌ قال: فأخذت من فيه سبعينَ سورةً لا ينازعُني فيها أحدٌ”، وتجدر الإشارة إلى أن فرار الرسول مع أبي بكر الوارد في الرواية السابقة لم يكن فراراً من أذىً ماديٍّ أو جسديّ، وإنما من المناظرات والنقاشات التي كانت مع الكفار.

لزم ابن مسعود النبي محمد في مكة، وكان جريئًا في الدين، فكان أول من جهر بالقرآن في مكة بعد النبي محمد، فقاسى ابن مسعود ما قاساه المسلمون الأوائل من اضطهاد قريش، مما اضطره إلى الهجرة إلى الحبشة تحت وطأة هذا الاضطهاد لينجو بنفسه وبدينه. ثم عاد ابن مسعود بعد سنوات إلى مكة، قبل أن يغادرها مجددًا مهاجرًا إلى يثرب بعد أن أذن النبي محمد لأصحابه بالهجرة إليها.

 حياته

لازم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه النبي عليه الصلاة والسلام، وروى عنه الكثير من الأحاديث، وآخر الرسول بينه وبين سعد بن معاذ رضي الله عنه بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وتجدر الإشارة إلى أن عبد الله بن مسعود كان شديد وغزير العلم، وقال عن نفسه: “والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلّا أنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لأتيته”، وأضاف قائلاً: (والله لقد أخذت مِنْ فِيْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أني مِنْ أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم)، فكان من فقهاء الأمة وعلمائهم، ووردت العديد من الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام التي تبيّن مكانته ومنزلته وفضله.

كانت غزوة الخندق من الغزوات التي شارك فيها ابن مسعود رضي الله عنه، وثبت مع الرسول عليه الصلاة والسلام مع ثمانين آخرين من الصحابة مهاجرين وأنصاراً، وكان ذلك من الأسباب التي أدّت إلى تولّي المشركين على أعقابهم، كما كان لابن مسعود العديد من المواقف مع الصحابة رضي الله عنهم، ومن ذلك ما كان من ثناء عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليه عندما أرسله إلى الكوفة مُعلّماً ووزيراً، وكتب إلى أهل الكوفة مخاطباً لهم: (إنّي قد بعثت عمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله من أهل بدر؛ فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي)، وروي عن ابن مسعود العديدُ من الأقوال الغنيّة بالحكم والمواعظ، منها قوله: (اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا، وَلاَ تَكُنِ الرَّابِعَ فَتَهْلِكَ)، كما قال: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرَمَ دِينُهُ فَلاَ يَدْخُلْ عَلَى السُّلْطَانِ، وَلاَ يَخْلُوَنَّ بِالنِّسْوَانِ، وَلاَ يُخَاصِمَنَّ أَصْحَابَ الأَهْوَاءِ)، وكانت وفاته في السنة الثانية والثلاثين من الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، بعد أن أتمّ من عمره بضعاً وستين سنةً، وتمّ دفنه في البقيع بعد أن صلّى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه.

مناقبه

هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذي كان أحد أعلم الصحابة الكرام، فقد ألهمه الله حب العلم وطلبه منذ نعومة أظفاره، فقد روى الإمام ابن الجوزي في “صفة الصفوة” عنه أنه قال: كنتُ غلامًا يافعًا أرعى غنمًا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقالا: يا غلام هل عندك لبن تسقينا فقلت: إني مؤتمن على الغنم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من جذعة لم يَنْزُ عليها الفحل قلت: نعم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرعها ودعا فامتلأ الضرع، فاحتلب، فشرب أبو بكر وشربت، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص. ثم قلت له: عَلّمني من هذا القول، فقال: إنك غلام مُعَلَّم، فأخذت من فمه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد.

كان ابن مسعود رضي الله عنه أحد أفقه الصحابة وأعلمهم بالقرآن، فقد تكلم الصحابة الأجلاء ومن جاء بعدهم فذكروا سعة علمه، ففي “صفة الصفوة” عن زيد بن وهب أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أقبل ذات يوم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس فقال: كنيف مُلئ علمًا. وسئل الإمام علي رضي الله عنه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عن أيهم تسألون قالوا: أخبرنا عن عبد الله بن مسعود، فقال: عُلّمَ القرءان والسُّنَّة ثم انتهى.

وروى الذهبي في “سير أعلام النبلاء” أن أبا موسى الأشعري قال: لا تسألوني عن شىء ما دام هذا الحَبْرُ فيكم، يعني بـذلك ابـن مسعود رضي الله عنه. وعن مسروق أنه قال: قال ابن مسعود: والذي لا إله غيره ما نزلت ءاية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وأعلم فيما نزلت، ولو أعلم أن أحدًا أعلم بكتاب الله مني تناله المطيُّ لأتيته.

وعن مسروق أيضًا أنه قال: شاممتُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة نفر منهم: عمر وعلي وعبد الله وأبيّ بن كعب وأبو الدرداء وزيد ابن ثابت، ثم شاممتُ هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى رجلين: علي وعبد الله بن مسعود.

وقال علقمة: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بعرفة فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة وتركت بها رجلًا يملي المصاحف عن ظهر قلبه، فغضب وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتَي الرحل، فقال: من هو ويحك فقال الرجل: عبد الله بن مسعود.

وفي سير الذهبي عن أبي الأحوص أنه قال: أتيت أبا موسى الأشعري وعنده ابن مسعود وأبو مسعود الأنصاري وهم ينظرون إلى مصحف، ثم خرج ابن مسعود فقال أبو مسعود: والله ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم ترك أحدًا أعلم بكتاب الله من هذا القائم، يعني بذلك عبد الله بن مسعود.

ثناء رسول الله عليه

مما مدح به الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود ما رواه أبو نعيم في “حلية الأولياء” وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يصعد ويجتني سواكًا من الأراك وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه وتميله، فضحك القوم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما يضحككم” قالوا: من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحُد”. وفي سير الذهبي عن زهير بن معاوية عن منصور عن أبي إسحق عن الحارث عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لو كنت مؤمرًا أحدًا عن غير مشورة لأمَّرتُ عليهم ابن أُم عبد” يعني ابن مسعود.

كما أخــرج الحاكم والذهبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قد رضيتُ لكم ما رضي لكم ابن أم عبد”.

حظي ابن مسعود بمنزلة عالية عند النبي محمد الذي أولاه ثقته، فقال يومًا: “لو كنت مؤمّرًا أحدًا عن غير مشورة، لأمرت عليهم ابن أم عبد”، كما عاتب النبي محمد أصحابه في حادثة صعود الشجرة.

كما شهد بعض الصحابة على منزلة ابن مسعود من النبي محمد، فقد روى حذيفة بن اليمان قول النبي: “اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد”، كما قيل عمرو بن العاص في مرض موته، وقد أصابه الهمّ: “قد كان رسول الله يُدنيك ويُستعملك”، فقال: “والله ما أدري ما كان ذاك منه، أحُب أو كان يتألفني، ولكن أشهد على رجلين أنه مات وهو يحبهما ابن أم عبد وابن سمية”.

روايته للحديثوعلمه بالفتيا

أما ما يتعلق بروايته للحديث النبوي، فقد روى عن: النبي محمد عليه الصلاة والسلام، عمر بن الخطاب، سعد بن معاذ، صفوان بن عسال المرادي.

كما روى عنه: عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو موسى الأشعري، عمران بن حصين، عبد الله بن الزبير، جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، أنس بن مالك، أبو سعيد الخدري أبو هريرة، أبو رافع الأنصاري، أبو أمامة الباهلي، علقمة بن قيس النخعي، الأسود بن يزيد النخعي، مسروق بن الأجدع، عبيدة بن عمرو السلماني، أبو وائل شقيق بن سلمة، قيس بن أبي حازم، زر بن حبيش، الربيع بن خثيم، طارق بن شهاب، زيد بن وهب، ابنه أبو عبيدة، ابنه عبد الرحمن، زوجته زينب بنت عبد الله الثقفية..وغيرهم كثيرون.

وقد اتفقا له البخاري ومسلم في صحيحيهما على 64 حديثًا، وانفرد له البخاري بإخراج 21 حديثًا، ومسلم بإخراج 35 حديثًا، وأحصى له بقي بن مخلد في مسنده بالمكرر 840 حديثًا، وله 848 حديثًا بإحصاء النووي، وقد عدّ يحيى بن معين أصح الأسانيد عن ابن مسعود ما رواه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، كما روى له الجماعة.

وأثنى عدد من صحابة النبي محمد على فقه عبد الله بن مسعود وعلمه بالفتيا، فقال علي بن أبي طالب عنه: “عَلَمُ القرآن والسنة”، وأوصى معاذ بن جبل أصحابه في مرض موته، فقال: “التمسوا العلم عند أربعة عند عويمر أبي الدرداء وعند سلمان الفارسي وعند عبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام”، وقد استُفتي أبي موسى الأشعري يومًا في شيء من الفرائض، فغلط، وخالفه ابن مسعود، فقال أبو موسى: “لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم”، كما ذكر علقمة بن قيس النخعي أنه قدم الشام، فلقي أبا الدرداء، فسأله فقال: “تسألوني وفيكم عبد الله بن مسعود؟”، وقد عدّ ابن قيم الجوزية عبد الله بن مسعود واحدًا من المُكثرين من الصحابة في الفُتيا، وقد أخذ عن عبد الله علمه بالفقه والفتيا من التابعين علقمة بن قيس النخعي والأسود بن يزيد النخعي وشريح بن الحارث القاضي وعبيدة بن عمرو السلماني والحارث بن عبد الله الأعور، ونشروا فتواه وآرائه، حتى قال الشعبي: “ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفقه صاحاً من عبد الله بن مسعود”.

أما مذهب عبد الله بن مسعود الفقهي، فقد كان ينحى منحى عمر بن الخطاب في الفقه بالإفتاء بالرأي حيث لا نص، وقد سار على هذا النهج في فترة قضائه بالكوفة، فلا يكاد يخالف عمر في شيء من آرائه، وهو ما يأيده قول الشعبي: “ثلاثة يستفتي بعضهم من بعض، فكان عمر وعبد الله وزيد بن ثابت يستفتي بعضهم من بعض، وكان علي وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري يستفتي بعضهم من بعض.

من كلامه ومواعظه

لقد كان ابن مسعود رضي الله عنه كثير الحكم والمواعظ شديد التأثير في سامعيه، فمن شهير مواعظه قوله: إنكم في ممر من الليل والنهار في ءاجال منقوصة وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيرًا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرًا فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارعٍ مثل ما زرع. لا يَسْبق بطىء بحظه، ولا يُدرك حريصٌ ما لم يُقَدَّرْ له، فإن أُعطي خيرًا فالله أعطاه، ومن وُقِيَ شرًا فالله وقاه. المتقون سادة والفقهاء قادة، ومجالسهم زيادة.

ومن حكمه: ما قَلَّ وكفى خير مما كَثُرَ وألهى، ونفسٌ تُنْجيها خير من إمارة لا تحصيها، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة ندامة يوم القيامة، وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى.

ومن بليغ كلامه ما رواه الطبراني أنه ارتقى الصفا يومًا وأخذ لسانه وخاطبه قائلاً: يا لسان، قُلْ خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “أكثر خطايا ابن ءادم من لسانه”.

ومن مواعظه ما رواه ابنه عبد الرحمن، وهو أنه أتاه رجل فقال: يا أبـا عبد الرحمن عَلّمني كلمات جوامع نوافع، فقال له: لا تشرك بالله شيئًا، وزُلْ مع القرءان حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن جاءك بالباطل فاردُدْه عليه وإن كان حبيبًا قريبًا. وعن أبي الأحوص أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مع كل فَرْحة تَرْحة، وما مُلِئ بيت حَبْرة (سعة عيش) إلا مُلِئ عِبرة.

ومن حكمه في بيان حال الدنيا وساكنيها: ما منكم إلا ضيف وماله عاريَّة، فالضيف مرتحل، والعاريَّة مؤداة إلى أهلها.

وفي “صفة الصفوة” لابن الجوزي عن سليمان بن مهران قال: بينما ابن مسعود يومًا معه نفر من أصحابه، إذ مر أعرابي فقال: علام اجتمع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: على ميراث محمد يقتسمونه. يعني بذلك علم الدين؛ وذلك مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “العلماء ورثة الأنبياء. أي أنهم ورثوا عنهم العلم يتعلمونه ويعلمونه الناس.

في عصر الفتح الإسلامي

بعد وفاة النبي محمد، شارك ابن مسعود في الفتح الإسلامي للشام، وشهد فيها معركة اليرموك، وتولى يومها قسمة الغنائم. اختار عبد الله بن مسعود بعد انتهاء الفتح الإقامة في حمص، إلى أن جاءه أمر من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بالانتقال إلى الكوفة، ليعلّم أهلها أمور دينهم، وليعاون أميرها الجديد عمار بن ياسر، وكتب عمر إلى أهل الكوفة، فقال: “إني قد بعثت عمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلمًا، ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله من أهل بدر، فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي”.

وقد بقي عبد الله بن مسعود بالكوفة مدة خلافة عمر، وبداية خلافة عثمان بن عفان، إلى أن عزله عثمان، وبعث إليه يأمره بالعودة إلى المدينة. اجتمع أهل الكوفة، وقالوا لعبد الله: “أقم، ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه”، فقال عبد الله: “إن له علي حق الطاعة، وإِنها ستكون أمور وفتن، فلا أحب أن أكون أول من فتحها”، وردّ الناس، وخرج إلى المدينة.

وفاته

ذكر الذهبي عن عُبَيد الله بن عبد الله بن مسعود أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين للهجرة وكذا قال ابن الجوزي، وعن ابن أبي عُتبة وابن بكير أنه مات سنة ثلاث وثلاثين، وقال الذهبي: قلتُ لعله مات في أولها.

وكانت وفاته في المدينة المنورة ودفن في البقيع.

وفي سير الذهبي أن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه زاره في مرض وفاته فقال له: ما تشتكي قال: ذُنوبي، فقال: فما تشتهي قال: رحمة ربي. رحم الله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.