جاء في الحديث الشريف أنه مرّت برسول الله جنازة، فقال: مُستريح ومُستراح منه! قالوا: يا رسول الله! ما المُستريح والمُستراح منه؟ قال: العبدُ المؤمنُ يستريح من نصَب الدنيا. والعبد الفاجر يستريح منه العبادُ والبلادُ والشجرُ والدوابُّ! (متفق عليه)، وهل الموت راحة للمؤمن؟

مُستريح ومُستراح منه: التقدير: الموتى بين مُستريح ومُستراح منه.

أو: الموتى صنفان: مستريح ومستراح منه. وليس كما زعم ابن حجر بأن الواو هنا بمعنى: أو.

العبد المؤمن يستريح بالموت:

كان بعض الخلفاء يتمنّون الموت، كي لا يتنازلوا عن مبادئهم، ولا يخضعوا للضغوط، من قريب أو بعيد! ولهذا جاء في الحديث: اللهمّ توفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي! (متفق عليه).

نصَب الدنيا: والنصَب: التعَب.

العبد الفاجر: تزداد وطأة فجوره كلما علت مرتبته في الهرم الإداري للدولة. وتصعب محاربة هذا الفجور إذا كان رأس البلد فاجرًا.

يستريح منه العباد: لأنه كان يأتي المنكرات والكبائر، من ظلم وغصب وسرقة واختلاس ورشوة وما شاكل ذلك.

تستريح منه البلاد: لأنه كان لا يحارب الفساد، بل كان يستحلّ المنكرات بقوانينه ونظمه ولوائحه الفاسدة، أو بما ينشأ عن حكمه من فوضى وخصومات ومشاحنات وحروب أهلية!

تستريح منه الشجر: لأنه كان لا يبالي ما إذا أهلك الزروع والثمار، بما قد يستخدمه من أسلحة مدمّرة! وما ينشأ عن ذلك من فساد للبيئة، ومن هضم لحقوق الأجيال القادمة.

تستريح منه الدوابّ: لأنّ هذه الأسلحة المدمّرة يمتدّ شرّها إلى الدوابّ أيضًا!

الخلاصة: تدمير الإنسان برجل فاجر يستتبع تدمير البلاد والشجر والحجر والدوابّ جميعًا، والله أعلم.

أقوال شرّاح الحديث

النووي: معنى الحديث أن الموتى قسمان: مستريح، ومستراح منه. ونصَب الدنيا: تعبُها. وأما استراحة العباد من الفاجر معناه: اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوه، منها: ظلمُه لهم، ومنها: ارتكابه للمنكرات. فإن أنكروها قاسوا مشقّة ذلك، وربما نالهم ضررُه! وإنْ سكتوا عنه أثموا!

واستراحة الدواب منه كذلك، لأنه كان يُؤذيها ويضربها ويحمّلها ما لا تطيقه، ويُجيعها في بعض الأوقات، وغير ذلك.

واستراحة البلاد والشجر فقيل: لأنها تمنع القطْر بمصيبته! قاله الداودي. وقال الباجي: لأنه يغصبها، ويمنعها حقّها من الشرب وغيره.

أقول:

قول النووي: “وإنْ سكتوا عنه أثموا” ماذا لو اشتركوا مع الظالم في ظلمه، ومع الفاسد في فساده؟! واقتسموا معه كعكة الفساد؟! وماذا لو كان هؤلاء المشتركون والمقتسمون من مشايخ الدين؟!

ما نقله ابن حجر: قوله: مستريح ومستراح منه: الواو فيه بمعنى أو، وهي للتقسيم على ما صرّح بمقتضاه في جواب سؤالهم.

قوله: ما المستريح والمستراح منه؟ في رواية الدارقطني: وما المستراح منه بإعادة: “ما.

والنصَب هو: التعَب، بوزنه ومعناه.

والفاجر يحتمل أن يريد به الكافر، ويحتمل أن يدخل فيه العاصي.

وقال الداودي: أما استراحة العباد فلما يأتي به من المنكر، فإنْ أنكروا عليه آذاهم، وإنْ تركوه أثموا! واستراحة البلاد مما يأتي به من المعاصي، فإنّ ذلك مما يحصل به الجدْب، فيقتضي هلاك الحرث والنسل (…).

ويحتمل أن يكون المراد براحة العباد منه لما يقع لهم من ظلمه، وراحة الأرض منه لما يقع عليها من غصبها، ومنعها من حقّها، وصرفه في غير وجهه! وراحة الدوابّ مما لا يجوز من إتعابها، والله أعلم.