يقول عالم النفس الكندي “جابور ماتيه” Gabor Maté :“جوهر كل إدمان هو الفراغ” والإدمان مفهوم متسع، فهو يرمز إلى الخضوع والقهر النفسي والانقياد، وتأتي “الموضة” بكل تجلياتها في الأزياء وقصات الشعر، وحتى الكلمات، لتشكل نوعا من الإدمان الذي يجعل الإنسان يذهب مع كل ريح، أما الفراغ فهو جاذب، والكثير من الآثام ما هي إلا محاولات لملء فراغ الروح، فيسعى الشخص لحشو باطنه بأي شيء، ومن بينها الموضات التي تتجاز فكرة الحاجة والتجمل إلى مساحات أخرى من إثبات الذات من خلال اللجوء إلى الغرابة، أو الاحتماء من النقد من خلال مسايرة المجموع.

الفراع الروحي هو منبت غالبية الرذائل، خاصة إذا جاء ملئه بالأشياء المادية، وربما هذا ما تنبه إليه المصلح والفيلسوف الايطالي “توما الإكويني” من أن الإنسان عندما يشعر بفراغ روحي يسعى لمئه من خلال أربعة أشياء: الثروة ، والسرور ، والقوة ، والكرامة، لكن مع فقدان الكثير من المجتمعات لمفهوم الإيمان في ظل الحداثة، التي أنشأت هياكلها ولم تضع للإيمان بالخالق سبحانه وتعالى، مكانا داخلها، وهو ما أسمه المفكر المسلم “محمد أسد” :”وثنية التقدم”، تقلص دور الدين إلى نغمة خافتة لا تكاد تُسمع، ومن ثم ظهرت الموضة مع الحداثة كتعبير عن الذات القلقة الفارغة المتعطشة للطمأنينة.

هناك قاعدة تقول: أن “كل خسارة تخلق فراغا” والإنسان في ظل الحداثة فقد الإيمان بخالقه سبحانه وتعالى، ومع توالي الأجيال إزداد ابتعاد إنسان الحداثة والمادية عن السماء، لتسعى الموضة بماديتها وزينتها لمعالجة أزمة ذلك الإنسان، الذي أصبح أكثر اشتهاء للتحصل على الإعجاب، فأطعم روحه بكل ما هو ضار وغير نافع، فلم يعد يبحث عن المرآة التي تُظهر له أزمته الروحية ولكن بات يقاوم كل المنبهات التي توقظه من غفلته.

تكلفة الموضة

الموضة لفظ مُعرب عن الكلمة الفرنسية la mode وهي تعني الشائع أو الدارج، أي أن يُساير الشخص الآخرين في لباسهم وطعامهم ونمط حياتهم، والموضة من ثمار الرأسمالية والحداثة الغربية، وهي مفهوم معقد، يتداخل فيه عوامل نفسية واجتماعية واقتصادية وفلسفية، لذا لا يجب النظر إليها على أنها مظهر اجتماعي يظهر ويختفي، ولكن يجب فهمها من خلال أطر أوسع، إذ تقف وراء الموضة رؤوس الأموال والأرباح التي تعمل على استدامة الهوس بالموضات، والانتقال السريع من موضة إلى أخرى، كذلك يجب النظر إلى الموضة من منظور نفسي إذ تكشف عن أزمة عميقة تُمسك بالإنسان المعاصر، لتعمق فيه المادية والهوس بكل ما يحقق اللذة والمتعة حتى ولو كان تافها.

الأزياء ربما تكون من أكثر الأشكال تعبيرا عن الموضة، لأنها أكثر الأشياء المرئية من الإنسان، وأكثر الأشياء إفصاحا وتعبيرا عن المكانة الاجتماعية، فالملابس تبعث برسائل واضحة، يمكن تفسيرها واستكشاف المكانة الاجتماعية، والتعليم، والانتماء الديني والطائفي والسياسي والجغرافي، وربما الجانب الأخلاقي في الإنسان، كل تلك الرسائل يمكن للشخص فك شفرتها في جزء من الثانية من خلال رؤيته لملابس الآخرين.

ولكن لماذا يعاني البعض من الهوس بالموضة؟

الهوس بالموضة يكشف عن جوانب نفسية متعددة منها الرغبة في التفرد، واستقطاب الأعين، ولا يكون ذلك إلا بالخروج عن المألوف والإتيان بالجديد والغريب، وربما هذا ما تتيحه الموضة، والمتابع لعروض الأزياء العالمية يجد بعض موضاتها الفجة تسللت للشباب لغرابتها؛ رغم أنها لا تفصح عن جانب جمالي أو ذوق رفيع  مقارنة بالموضات التي كانت في بداية القرن الماضي، ففي الفترة السابقة كانت الموضة خاضعة لبيوت أزياء راقية، وموجهة في الغالب إلى الطبقات الراقية باعتبارها القادرة على تسويق الموضة من خلال استخدامها، وكانت تلك الطبقات تتمتع بذوق معتبر واختيارات ربما تكون صارمة في اختيار ما يروقها من الأزياء، أما حاليا، ومع تحكم الشركات العملاقة في الموضة، وخضوعها للمنطق الحداثي “استخدمه..وارميه” أصبحت الموضة أكثر شعبوية وذات معدل عال في  التغيُر، ويتجلى ذلك في صيحات “التي شيرت” والبنطلون الممزق أو المبلل أو الساقط.

ومن ثم لم تعد الموضة تسعى للحصول على القبول الاجتماعي من خلال تقبل الطبقات الراقية لها، ولكن أصبحت تُفرض من خلال الانتاج الكثيف، في كتابها “علم نفس الموضة” The Psychology of Fashion تؤكد  كارولين ماير Carolyn Mair  أن الموضة ترتبط بعقلنا وسلوكنا، باعتبارها طريقة يقدم بها الشخص نفسه للآخرين، لذا لا تنظر “ماير” للموضة كشيء هامشي أو تافهة، ولكن تضعها تحت منظار علم النفس، لأنها تكشف عن تحولات اجتماعية وسلوكية وتغيرات في منظومة القيم، فهي تعبر عن الذات والهوية الاجتماعية، لكن الشيء المهم الذي تحدثت عنه “ماير” هو  وجود اضطربات نفسية ناتجة عن الهوس بالموضة، منها: اضطراب الشراء القهري (CBD) Compulsive buying disorderوهو حالة اضطراب عقلي ونفسي يعاني منه بعض مستهلكي الموضة، فيؤدي إلى فقدان السيطرة على الإرادة، وهو ما يمهد لظهور نمط المجتمع الاستهلاكي الشره، فلا يشعر الشخص بالراحة إلا مع الشراء، وفي هذه الحالة تحقق الموضة مكاسب نفسية للأفراد .

ولكن ما هي الآثاء البيئية للموضة؟

يتطلب انتاج الملابس كميات ضخمة من الماء سواء في عمليات الزراعة أو تصنيع الملابس، وهو ما ينتج عنه استنزاف للموارد الطبيعية وتلويث للبيئة، تشير تقديرات أن انتاج زوجين من بنطلون الجينز يتطلب ما بين أربعة آلاف إلى عشرة آلاف لتر من المياه، وهذا يمثل كمية الماء التي يشربها الشخص على مدار خمس سنوات، ناهيك عما تسببه الصناعة من تلوث بيئي، وتبلغ تكلفة معالجة هذا الضرر البيئي مائتي يورو لكل زوج من الجينز.

وهناك إحصاءات تؤكد أنه يتم التخلص من الملابس بمقدار ضعف المعدل مقارنة بالمعدل الذي كانت عليه قبل عشرين عاما، وهناك تحضر الموضة في تلك الزيادة المفرطة في التخلص من الملابس، وتشير إحصاءات أخرى أن ما يقرب من 40% من جميع مواد النسيج المنتجة للملابس لا تصل أبدا إلى المستهلك النهائي، نظرا لأن الموضة الشعبية دفعت إلى إنتاج الملابس منخفضة الجودة والتكاليف، ومع سرعة التغير في الموضة، فإن التخلص من الملابس أصبح سريعا، حتى وإن كانت صالحة للاستخدام.

وهنا ظهرت الموضة السريعة fast fashion كتعبير عن عصر كل شيء فيه سريع، طعامه وملابسه، وهذه السرعة فرضت أن تكون الملابس رخيصة وسريعة التخلص منها، لذا رفع شعار take-make-dispose  “خذ-صنع-تخلص”، لهذا جاءت صناعة الملابس كثاني أكبر ملوث للبيئة في العالم، حيث تنتج 1.2 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا، وإذا أدركنا أن أكثر من 60% من صناعة المسنوجات تأتي من الصين والهند، حيث يكثر استخدام الفحم في الطاقة، فلك أن تدرك حجم التلوث البيئي بسبب صناعة المنسوجات التي أججها هوس الموضة، وحسب تقرير بريطاني سينتقل الاستهلاك العالمي من 62 مليون طن حاليًا إلى 102 مليون طن عام 2030،  وهو ما يعادل أكثر من 500 مليار تي شيرت.

الإسلام والزينة

الإسلام في عمقه عقيدة تهدف إلى تحرير الإنسان من القيود، ولعل أكثر القيود إرهاقا للروح هي القابعة في داخل الإنسان ذاته، فالذات الإنسانية تعاني التذويب مع تمسكها بالتقليد، لذا كره الإسلام أن يكون المسلم “إمعة” فاقدا للإرادة، يسير وفق عقل جمعي، ولعل خضوع النفس لهوس الزينة واللباس من مسببات ضعف الذات والإرادة، لذا نجد غالبية كتب الحديث والفقه الإسلامي أوردت بابا تحت مسمى “اللباس والزينة” باعتباره قضية خطيرة تحتاج إلى ضبط ، حتى لا يكون الإنسان عبدا لملابسه وزينته، وفي الحديث الشريف: ” تعس عبدُ الخميصةِ (1)، تعس عبدُ الخميلةِ (2)، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ”(3)، وفي حديث البخاري ومسلم:” بيْنما رجلٌ يمشِي في حُلَّةٍ تُعجِبُهُ نفسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إذْ خسَفَ اللهُ بهِ الأرْضَ، فهو يتجلْجَلُ فيها إلى يومِ القيامَةِ”، وفي كتابه “صيد الخاطر” وصف “ابن الجوزي” ذلك الشخص الذي استحوذ عليه حب الزينة بأنه يعاني من “مرض العقل والطبع”،  وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أُهدي إليه “خميصة” ملونة مزركشة، خلعها وقال: ” ألهتني هذه عن صلاتي”، فإذا كانت المباحات ذُمت إذا ألهت عن الفضائل، فما ظننا بالموضة التي تكشف العورات وتثير الشهوات.


1- الخميصة ثوب من الصوف أو الحرير

2- الخميلة: هي القطيفة، وهي نسيج له وَبَر.

3- أخرجه البخاري