سؤال الغيب لا يغيب عن الإنسان، وإن غاب فإن كينونته تتحول إلى أخرى من جماد أو حيوان، فالجانب المتعالي أصيل فيه، وإذا فُقد فإن الإنسان يتيه في الكون تيها لا هداية فيه، ويعيش شقاء لا سعادة معه، فالإنسان مفطور على العبادة، وقوته الحقيقة خارج ذلك الطين الذي كان منه خلقه الأول، وإذا كانت العين على صغر حجمها ودقة خلقها مهيئة لرؤية الجبال العظيمة، والبحار الواسعة، والنجوم الساطعة، والكون الفسيح، فإن العقل والقلب على صغر حجمهما مهيئان لإدراك ما لا تدركه العين وبقية الحواس، وهو ما يُسمى في الرؤية الدينية بالغيب، وفي الفلسفة بـ”ماوراء الطبيعة” أو “الميتافيزيقيا”.
وفي كتاب “الميتافيزيقيا: أصل المفهوم وجذوره في تاريخ الفلسفة” لـ “مهدي قوام صفري” وتعريب حيدر نجف، والصادر المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية ببيروت، في طبعته الأولى عام 2019م، في (82) صفحة، ضمن سلسلة مصطلحات معاصرة، اقتراب من مفهوم “الميتافيزيقيا” في نشأته اليونانية الأولى، وتطوراته المعرفية التي سرت في فضاء الفلسفة خاصة الإسلامي، وكذلك مرتكزاته الفلسفية، وتحولاته المعرفية، خاصة في الفلسفة الحديثة.
الميتافيزيقيا .. علم الوجود
تذهب الحكمة “أن كل من يجهل بالوجود، سوف يسري جهله إلى أمهات المسائل الفلسفية”، ومن يدرك حقيقة الوجود سوف تسري معرفته إلى قضايا الفلسفة وأسئلتها الكبرى، لذا يُعرف البعض “الميتافيزيقيا” Metaphysics بأنها: “علم الوجود بما هو وجود”.
ويختلف مفهوم “الغيب” عن “الميتافيزيقيا” في أنه لا يتخذ المادة معيارا لتحديد هويته وذاته، فهو خارج النطاق المادي، فالخالق-سبحانه وتعالى- مطلق، متعالي، متسامي بعيد عن المادة، وإدراكات الحواس فهو، سبحانه، “ليس كمثله شيء”، أما الميتافيزيقيا فإنها وإن كانت تؤشر لوجود عالم آخر ليس في قدرة الحواس إدراكه بوسائلها العادية، إلأ أنها اتخذت من المادة تعريفها لها وتحديدا لهويتها.
و”الميتافيزيقيا” أو “الماورائيات” أو “ما وراء الطبيعة”، هو فرع من الفلسفة يدرس جوهر الأشياء، طارحا أسئلة الوجود والصيرورة والكينونة والواقع، وهي كلمة أصلها يوناني قديم يتكون من مقطعين، هما: “ميتا” وتعني: خلف أو ما وراء، وكلمة “فيزيكا” وتعني الفيزياء، ويعد “أرسطو” من أوائل من تناولها معلنا عن بداية التأصيل لمفهوم جديد في الدرس الفلسفي، وبرأيه أنها علم تبيين الواقع، وكان يحاول في إطارها دراسة الوجود كله دفعة واحدة، فكان ينظر للوجود من زاوية تنكشف فيها أوجه معينة للواقع غفلت عنها الدراسات الأخرى، ففي كتابه “ما وراء الطبيعة” يسمى الميتافيزيقيا بالحكمة، باعتبارها بحث عن التبيينات أو العلل.
ويرى أرسطو أن سؤال ماهية الوجود هو ثمرة حيرة الإنسان وتطلعه لأداء واجبه، فهو على خلاف سائر المخلوقات، يعيش بالفن والقدرة على الاستدلال، والفن يتعامل مع إدراكات كلية، وهذا من شأن الإنسان فقط.
أما الحكمة فهي الخوض في ماهية الأشياء والقضايا في إطارها الكلي، وهي بذلك تكشف العلل، فهي وظيفة معرفية للجنس البشري، ومن أولويات الإنسان المعرفية، ومن هنا كانت الحير والقلق الدافع للخطوات الأولى نحو أداء الوظيفة الإنسانية، فالإنسان الذي يجد نفسه حائرا تائها يستشعر أنه جاهل، وسيحركه ذلك الشعور لإزالة جهله عن طريق كسب المعرفة، فالحكمة تبدأ مع إدراك الإنسان لحيرته وتيهه حيال مسألة الوجود، وسؤال الوجود ليس سؤالا عاديا، وإنما يعرض الوجودُ نفسَه ملُغز على الإنسان، وتفرض المعرفة نفسها كطريق لإزالة الجهل.
والحكمة تُطلب من أجل المعرفة والعلم فقط، وليس لأي هدف أو مصلحة أخرى، ومن ثم فالإنسان يبحث عن الحكمة كعلم حر، فهي موجودة من أجل نفسها، لذا يجب النظر للحكمة باعتبارها علم فوق قدرة الإنسان، فطبيعة الإنسان مقيدة بقيود شتى ولأسباب عديدة، كذلك فالحكمة علم بالأمور الإلهية، فالخالق موجود بين علل الأشياء كلها، ومن ثم سيكون الخالق هو موضوع دراسة هذا العلم، لذا يمكن تسمية الحكمة بـ”علم الإلهيات”.
ويمكن القول أن “الميتافيزيقيا” هي: علم التبيينات الأولى أو النهائية، فهي علم تبييني لكل شيء، فهو يبين جانبا من صفات كل الأشياء الموجودة في آن واحد، كما أنه علم كُلي، وبناء علي ذلك فمتى خضنا في “الميتافيزيقيا” فإننا ندرس أصول الأشياء وعللها باعتبارها وجودا، وليس الأشياء باعتبارها أشياء.
العداء للميتافيزيقيا
حيرة الإنسان حول سؤال الوجود ..حبرها لا يجف..وقلمها لا يكف عن الكتابة، ورغم ذلك شاعت موجة من العداء للميتافيزيقيا في عصر النهضة الأوروبية أو ما يسمى بـ”عصر التنوير” وأصبح المفهوم الأرسطي حول الميتافيزيقيا يجد معاندة كبيرة، وتهوين من الحيرة الإنسانية حيال الأسئلة الوجودية المؤرقة، وقدم الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” تصورا واهيا عن المفهوم مختصرا إياه في ثلاث قضايا كحد أقصى، هي: الله، والنفس، والعالم، وانتشرت رؤيته في الفلسفة الحديثة، التي تقدم الذهن على الواقع، وتجعل الذهن هو المُقنن للواقع، فقد كان “كانط” فيلسوفا يؤمن بالعقل، ويرى أن الميتافيزيقيا غير ممكنة، وأن المجالات الثلاث (الخالق، والنفس، والعالم) تقع خارج نطاق المحسوسات، وعليه ليس من الجائز أن يَستخدم العقلُ مفاهيمه بشأن هذه الموضوعات، وبهذا تكون الميتافيزيقيا ممتنعة متعذرة بوصفها العلم بالموجودات، لم يقترب “كانط من إدراك المفهوم بوصفه علم بالوجود بما هو وجود، لذا راح يحارب شبحا صنعته سوابقه الثقافية.
ويلاحظ أن تقليص “كانط” لحدود الميتافيزيقيا وتأكيده على تعذرها كعلم، ومحاولته إقحامه الإيمان بوجود الله ضمن نطاق غامض، كان منشأ اللادينية الحديثة أو الإلحاد، إذ أنتجت تلك الرؤية أنماطا من التشكيك والنسبية في مختلف المجالات المعرفية، وكان هدفه المُعلن “استبعاد العلم من أجل إفساح المجال للإيمان”، وأفضت تلك الرؤية إلى النظرية الإلحادية المعاصرة.
ورغم ذلك فقد حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين عودة سريعة وقوية إلى الميتافيزيقيا، وأصبحت من بين أكثر المجالات الفلسفية نشاطا وإنتاجا، وهو ما يؤكد أن حاجتنا للميتافيزيقيا حاجة أصيلة بمقدار حاجتنا للفلسفة نفسها، لذا لم يعد الفلاسفة يتحرجون من الكتابة عن الميتافيزيقيا بمنحاها الأرسطي، أو توجيه سهام النقد للمفهوم الكانطي للميتافيزيقيا، بل يضعون المفهوم الأرسطي كأساس للكتابة عن الميتافيزيقيا.
ويدل تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر على أن أية محاولة لإقصاء الميتافيزيقيا لا يعدو إلا أن يكون تجاهلا للأسئلة التي لا يستطيع العلم التجريبي الإجابة عنها ويتركها دون إجابات، إذ لا يوجد أي فكر فسلفي حقيقي قادر على تجاهل تراكم مثل هذه الأسئلة المتعلقة بالبنية الكلية والنهائية للواقع، أو تقديم إجابات سريعة وغامضة، فالميتافيزيقيا تمتلك وجهة نظر غير مادية حتى بخصوص الأمور والأشياء المادية، إذ لا يوجد شيء في الوجود لا تملك الميتافيزيقيا رأيا حوله ، فهي من العلوم التي لا ينقضي زمانها، كما أنها جزء من حياتنا اليومية، فالمجرد لازم لفهم المجسد، كما أن المطلق ضروري لفهم النسبي.