بعد أن منّ الله تعالى على خليله إبراهيم – عليه السّلام – بمعجزة النجاة من النار التي صنعها له أهل العراق، هاجر – عليه السّلام – إلى أرض الشام بحثاً عن وطن يجد فيه الأمن الذي لم يجده في العراق، ويعبد الله سبحانه وتعالى على ما يُحبّ ولا يُحارب من أجل معتقده، ولا يُجبر على عبادة ما لا يريد ولا يحبّ، ولا يُفتن في دينه، وينشر ما آمن به من التوحيد والدين، ويدعو الناس ويعلمهم كل ذلك. (ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص80)>>
وكان لوط – عليه السّلام – قد آمن بنبوّة إبراهيم – عليه السّلام – بعد أن رأى معجزة النار التي لم تحرق خليل الله إبراهيم – عليه السّلام -، فتيقّن أنه نبي مرسل من الله سبحانه، وأن الذي حصل لم يكن حدثاً عابراً، وإنما كانت معجزة صنعتها يد الخالق العظيم، وفي هذا إشارة للناس عامة وللمؤمنين خاصة في أن الله عزّ وجل يُنبت الفرج من بين أنياب الضيق، فأهل العراق أرادوا حرق النبي الخليل إبراهيم – عليه السّلام -، فجعل قصة الحرق سبيلاً لإيمان لوط – عليه السّلام – وإن إبراهيم – عليه السّلام – قد كسب دعماً جديداً من مؤمن جديد بعد سارة زوجته، قال الإمام القرطبي: في قوله تعالى: {فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ}، إنَّ لوط أول من صدق إبراهيم حين رأى النار عليه برداً وسلاماً. (تفسير القرطبي “الجامع لأحكام القرآن”، القرطبي، 13/339)
قال تعالى: {فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].
قال الشعراوي: في قوله تعالى: {فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ}؛ جاءت جملة اعتراضية في قصة إبراهيم – عليه السّلام -؛ لأنَّ المحصلة النهائية لدعوة إبراهيم في قومه، ولذلك يعود السياق مرة أخرى إلى إبراهيم – عليه السّلام -. (تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، 18/11132)
قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}:
أي: إني مهاجر إلى حيث أعبد ربي بحريّة، وأستأنس بطاعته، فلا أستوحش برؤية أصنامكم وأوثانكم، ولا أعاني من أذاكم. (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، 6/383).
و{إِلَى رَبِّي} لا إلى غيره، بل إلى عبادته، وإقامة شعائر دينه والقيام بدعوة الخلق إلى الحق من شرعه وتوحيده. (محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، 13/147)
إنّما هاجر إلى ربّه ليكون متقرباً له ملتجئاً إلى حماه، هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه، هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره، بعيداً عن موطن الكفر والضلال بعد أن لم يبقَ رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال. (في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/2732)
إنَّ هجرة الداعية إلى الله تعالى من بلد لا يتمكن فيه من عبادة الله عزّ وجل إلى بلد يتمكن فيه من ذلك، من أعظم أسباب نجاح دعوته، فإن إبراهيم – عليه السّلام – أبا الأنبياء وأعظم الدعاة بعد نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم هو أول من اتّخذ هذه الوسيلة لنجاح دعوته، فقد هاجر من بلاده وترك وطنه وترغب عنه، كل ذلك في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، فقد خرج من أرض العراق مهاجراً إلى بلاد الشام، هو وابن أخيه لوط وامرأته سارة – عليهم السلام – ليتمكن من عبادة ربه ودعوة الخلق إليه، وخرج من الشام إلى مصر ثم رجع إلى الشام، ثم خرج إلى مكة المكرمة حيث ترك فيها ابنه إسماعيل وأمه هاجر كما هو مشهور معلوم، وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله تعالى، ولما هاجر هذه الهجرة رزقه الله أولاداً صالحين وجعل في ذريته النبوّة والكتاب. (الدعوة إلى الله في سورة إبراهيم، محمد بن سيدي بن الحبيب، ص465)
وقد وضع إبراهيم – عليه السّلام – بهجرته لبنة أخرى من لبنات ملة إبراهيم الحنيفية السمحة، فهجرته تقول لنا إنّ المسلم لا ينبغي أن يبقى بأرض لا يستطيع أن يعبد الله سبحانه وتعالى حق عبادته، ويعجز فيها أن يعلن عن عقيدته ودينه، ويُمنع أن يقول له مقالة الصدق والحقّ ولا يسعه أن يفعل الخيرات ويرفض المنكرات، وإن هؤلاء الذين يبقون في أرض يشاركون الكفار حياتهم خوفاً وطمعاً، ولا يضعون اعتباراً لعقيدتهم ولدينهم، سيحاسبهم الله سبحانه على ذلك؛ لأنّهم لم يخرجوا لأرض يحققون فيها ما يحبون أو على الأقل ما أُمروا به مما جاءهم من ربّهم من الحقّ.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ]النساء:97]، وظالمي أنفسهم هنا في هذه الآية: أي الذين لا يهاجرون إلى حيث أمرهم الله تعالى عن طريق نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ولكن هذا الحُكم ليس عامّاً؛ لأنّ فيه استثناء للضعفاء الذين فقدوا الحيل وانقطعت بهم الأسباب وإن كانوا رجالاً، فحسبهم العذر من الهجرة، وكذلك فيه رخصة للنساء والأطفال؛ لأنّهم بحكم المستضعفين، فقد قال تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} ]النساء:98-99]، وأما الرجال والشباب القادرين على الهجرة فلا استثناء لهم(ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص81)
كما ينبغي أن تكون الهجرة لوجه الله عزّ وجل وفي سبيله، لا من أجل مصالح دنيوية أو مآرب شخصية، يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: ” إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ “.
إنَّ الله عزّ وجل قد وعد من يخرج مهاجراً في سبيل الله سبحانه وتعالى أن يفتح له المغاليق وييسر له أمره، ويوسع له في رزقه ويفرج عنه ما كان ضيقاً، هذا ما دام على قيد الحياة، وأما إن مات فسينال ثواباً خاصاً به،قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ]النساء:100].
وفي قوله تعالى: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} إشارة إلى ما يقتضيه الإيمان بالله من ابتلاء بضروب من الشدائد والمحن، والهجرة إلى الله هي الاتجاه إليه سبحانه والانخلاع عن كل ما يعوق مسيرة المؤمن عن طريق الإيمان، حيث يتخطى المؤمن المهاجر إلى الله كل ما يعترض طريقه من أهل ومال ووطن، وحيث لا يلتفت إلى ما يصيبه في نفسه من ضرّ وأذى ولو كان الموت راصداً له.
وفي هذا إشارة للمؤمنين الذين كانوا تحت يد قريش، يسامون الخسف، ويتجرعون كؤوس البلاء مترسة، إنهم في هجرة إلى الله وإن لم يهاجروا من بلدهم، ولم يخرجوا من ديارهم، وإنهم لفي هجرة إلى الله، إن هم خرجوا من ديارهم وهاجروا من بلدهم، فالمؤمن بالله إيماناً حقّاً في هجرة إلى الله دائماً، ما دام قائماً على طريق الحقّ والخير، يهجر كل منكر ويجتنب كل فاحشة، وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ” الْمُسْلِمُ مَنْ سَلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مِنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ “، وقد كانت هجرة لوط مع عمه إبراهيم – عليهما السلام – هجرة مباركة إذ التقى على طريقه إلى الله بالنبوّة، فكان من المصطفين الأخيار من عباد الله المكرمين. (التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب، 10/426)