اقرأ أيضا:
إن هذا الاختراق والتوسع الذي أتحدث عنه، هو بدقة ما يمثله الموقف النبوي في صلح الحديبية، لم يتمترس النبي خلف المؤمنين في المدينة، بل حقق السلام المبدئي في المنطقة، وأنهى فكرة الحرب والاستنزاف، وتوجه إلى البناء والدعوة وتقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام في باقي بلدان الجزيرة العربية، مخترقاً امتدادات أعدائه القرشين، ومكتسباً حلفاء جدد لم يكونوا قد قرروا الميل لأحد الطرفين مكة أو المدينة، ورضي في سبيل ذلك ببعض ما قد يُعدُّ جوراً ضمن شروط الصلح، لأن الهدف الاستراتيجي الكبير للدولة كان أبعد وأوسع من الجمود عند التفاصيل المعقدة.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد كسب بذلك تعاطف القبائل الساكتة والمراقبة، وأكد بالبرهان القاطع أنه نبي السلام والمرحمة لا نبي القتال والملحمة، وأنه تماماً كما وصفه الله تعالى “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، على أن عنصر الرحمة الغالبة لا يعني أنه كان لا يغضب ويُقاتل، كلاَّ؛ فإن أحوال الدنيا وأغلاط الناس توجِب على الإنسان أن يقفَ أحيانًا مواقفَ لا بدَّ منها؛ لحماية مُثُله وفضائله. “ذكره الشيخ الغزالي”. وهو بذلك أنهى جميع حجج القرشيين في محاربته والعدوان عليه، بل إنه جهز العرب بعامتهم نفسياً ومعنوياً ومادياً إلى يوم الفتح العظيم، على أنه المصير المحتم لدعوة تتسع قاعدتها الشعبية، وتمتلك الإجابة الصحيحة والأخلاقية لكل التشويشات والقلاقل التي تثيرها قريش حوله.
وهو لم يلمهم مرةً على موقفهم ذلك، لأن هذا هو المتوقع ممن يصطف في خانة الأعداء والخصوم، فلا غرابة في ذلك، ولكنه في الواقع اعتنى كثيراً بقضية الانتشار والتحالفات والتوسع، وضمن لدعوته صلى الله عليه سلم الاستمرار والبقاء، وهو بذلك أيضاً خرج من عقدة الاضطهاد التي تلازم شعور من يلاحظون انحسار دوائرهم وانكماشها، فلئن وُجدت مؤامرة الخصوم عليهم -وهي موجودة بل هي عنصر ثابت في أي معادلة تنافسية في الدنيا-، فلقد سبقتها مؤامرتهم الذاتية على مشروعهم، وكان الواجب أن يكونوا لها ولأخطائهم وانحرافاتهم بالمرصاد.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين