تدرج تدوين السنة في الصعود بجوار الحفظ بدءا من عهد النبوة والخلافة الراشدة حتى تولت الدولة تدوينها بالصفة الرسمية بعد أن أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله مع بداية المائة الثانية الهجرية بعد زوال المانع ووجود الحاجة إلى التدوين، ولعله قد تبنى فكرة تدوين السنة من جهود والده الأمير عبد العزيز بن مروان، الذي  كتب إلى كثير بن مرة الحضرمي رحمه الله حين كان أميرا على مصر، وكان كثير بن مرة أدرك سبعين بدريا من الصحابة، فقال له الأمير:” اكتب إلينا بما سمعت من الصحابة إلا حديث أبو هريرة فإنه عندنا”[1]، وكان الأمير من تلاميذ أبي هريرة سمع جميع حديثه وقيده عنده، ثم رواه عنه ابنه عمر الخليفة.

إذا ثبتت استجابة كثير بن مرة لطلب أمير مصر فيعني هذا أن بعض الحديث النبوي قد دون رسميا قبل انقضاء القرن الأول[2]، وإن كانت رسميّته قاصرة عن رسميّة عامة بالنسبة للدولة بكاملها.

وفي عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز أحس بضرورة جمع كنوز السنة في ديوان واحد لتكون مرجعا أساسا يرجع إليه الناس في جميع الأمور، ثم شد العزم منه على هذا المشروع العلمي العظيم لما رآى جمهور العلماء التابعين على جواز كتابة السنة حيث لم ينقل عن أحد منهم – مع كثرتهم وقربهم منه- أنكر عليه هذا العمل، ولذا رآى الأمير أن تلك الفترة فترة السماحة والزمن المستحب لقيام بهذه المهمة بناءً على وجوب حفظ السنة من الضياع.

دور الدولة في تدوين السنة

هي عبارة عن جمع مكتوبات فردية متفرقة مسبقة وتقييد ما في صدور الحُفَّاظ الأثبات، ويكون دور الدولة هنا بسلطتها دورا تكميليا للمرحلة الأولى في ضبط السنة النبوية وصيانتها من الضياع، وهو نظير جمع القرآن تقريبا ولم يبتدأ التدوين الرسمي للسنة النبوية آنذاك من الفراغ، بل قام على الأساس المكتوب والمحفوظ الثابت.

ومما فعلته الدولة لانجاز هذا المشروع أمرين مهمين:

الأمر الأول: تعيين رواتب للعلماء في مقابل انقطاعهم لخدمة السنة النبوية

قد تكفلت الدولة للعلماء الراحة المادية ومنحت لهم المُرتّبات الشهرية، كي يصرفوا أذهانهم عن التفكير في الأمور المعيشية إلى التفكير في واجبات نشر العلم.

ويظهر ذلك جليا في كتابة عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله في حمص: «مر لأهل الصلاح من بيت المال بما يغنيهم لئلا يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن وما حملوا من الأحاديث»[3]

ويعد هذا العمل بادرة للدولة الإسلامية حيث خصصت بندا لرعاية العلم وأهله من بنود الميزانية لإعانتهم على التفرغ التام في المشاريع العلمية.

الأمر الثاني: إصدار الأوامر الرسمية بجمع السنة على النحو الآتي:

أولا: أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز جميع الأمصار الإسلامية بجمع السنة النبوية.

العلماء هم عمدة الدولة في خلافة عمر بن عبد العزيز وهم بطانته الصالحة التي تأمره بالخير وتحضه عليه، وهم حواشيه الذين بهم صارت للإسلام قوته وعزته ومجده إلى الحد أن يلحق عهده بالعهد الراشدي.

ومن هنا تظهر سهولة ما أراده أمير المؤمنين من خدمة الحديث النبوي في أمان كامل من أيِّ شائبة أو عائق في تحقيق الرغبة، وهذا الذي حفزه إلى أن أصدر أمره الرسمي إلى عماله في الأقاليم وإلى جميع أهل العلم في أركان الولايات الإسلامية.

يقول عبد الله بن دينار: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق، انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه واحفظوه، فإني أخاف دروس العلم وذهاب العلماء.[4]

ويغلب على الظن أن هؤلاء المكلفين بمهمة جمع السنن لا يترددون في استنفار الخليفة لهم ولا يقصرون في النهوض إلى المهمة، وإن كانت المساهمة على حسب ما لدى كل واحد منهم من العلم بالحديث، إذ هم درجات فيما وعوا وحفظوا وقيدوا.

ثانيا: أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز أهل المدينة بجمع السنة.

روى الإمام الدارمي رحمه الله بسند آخر إلى عبد الله بن ديناررحمه الله أنهقال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإنّي قد خفت دروس العلم وذهاب أهله”[5]

ولم يخص أمير المؤمنين عمر أهل بلدة أخرى بالذكر غير أهل المدينة، ويكون تخصيصه لهم من عموم رسالته إلى الآفاق شبيه ذكر الخاص بعد العامللتنبيه على مزيد فضل المدينة وإثبات شرفها على بقية البلدان وبيان ما تفضل به أهلها، ولاختصاص المدينة بمزيَّة وأمور لا تشاركها فيها غيرها، حيث كانت – ولم تزل – منبع السنة النبوية منذ البداية حتى عصر خلافة عمر بن عبد العزيز وبعدها، إضافة إلى أنها لم تجد البدع فيها مأوى ولا منزلا طوال القرون المفضلة، بل لم تكن فيها البدع بادية حتى حدود القرن السادس؛ إذ كانت البدعة أكبر مفاتيح للكذب والتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت المدينة النبوية أسلم البلاد من البدعة على الإطلاق ومن ثم كان حديثهم أصح الأحاديث من حيث العموم بلا خلاف.

يقول الإمام ابن تيمة رحمه الله: فأما الأعصار الثلاثة المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة ألبتة ولا خرج منها بدعة في أصول الدين ألبتة كما خرج من سائر الأمصار.”[6]

وقد كان أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يراسل الأمصار ليعلّم أهلها، وعندما يراسل أهل المدينة فإنه يطلب منهم السنة النبوية حتى يبعث بها إلى بقية البلدان الإسلامية.

يقول مالك: “كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى”[7].” كما كان خلفاء بني أمية يرجحون أهل الحجاز على علماء أهل الشام”[8]

ولذا كان من الطبيعي والحكمة أن يعدّهم عمر بن عبد العزيز في الدرجة الأولى ويقدمهم على غيرهم في جمع السنن وحفظها؛ لأنهم أهل ذلك وأحق بها من غيرهم، فإصدار أمر الخليفة إليهم على وجه الخصوص من باب إسناد الأمر إلى أهله.

ثالثا: أمرُ الخليفة أبا بكر بن حزم بجمع السنة.    

قال الإمام البخاري:” وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم ما لم يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً.[9]

وقال الإمام مالك:”لم يكن عندنا أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان ولاه عمر بن عبد العزيز وكتب إليه أن يكتب له من العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد فكتبه…”[10]

لم يعيّن عمر  بن عبد العزيز القاضي أبا بكر لقيام بجمع السنة إلا لاعتبارات تمس جوهر العمل، فأهمها فيما يظهر والعلم عند الله تعالى: كونه ثقة ثبت، كما شهد بذلك أئمة النقاد. وكونه وارث صحيفة جده عمرو بن حزم التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم له في الحقوق المالية والجرائم.

ولعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله قد اعتبر هذه الصحيفة من منطلقات مشروع جمع السنة النبوية، وانضاف إلى ذلك أنهمرجع حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والتي تعد من مكثري الصحابة في الرواية، وقد ظفر أبو بكر بحديثها بواسطة خالتها عمرة بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد المتخصصين في حديث عائشة رضي الله عنها.

يقول الحافظ ابن حجر:” وإنما خص- أمير المؤمنين عمر – عمرة دون غيرها بالذكر لأنها خالة أبي بكر بن حزم “[11] ولو لم يكن في أبي بكر خصلة أخرى سوى أنه ثقة لكفى، وكيف وقد انضاف إليه هذه الاعتبارات.

رابعا:أمرُ الخليفة الإمامَ الزهري بجمع السنة.

عن ابن شهاب رحمه الله قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز، بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً.[12]

لقد كاد الإمام الزهري رحمه الله شيخ الصنعة أن يحوي جميع السنة النبوية ويحيط بها علما لما أوتي من الحفظ العجيب بشكل منقطع النظير في زمانه، وهو الذى يقول:” مكثت خمسا وأربعين سنة أختلف من الحجاز إلى الشام ومن الشام إلى الحجاز فما كنت أسمع حديثا أستطرفه.” يعني أن ذاكرته ضابطة جميع أحاديث الحجاز الذي هو منبع الحديث ومرجعه، وكان عمر رحمه الله معجبا به أشد الإعجاب، إلى حد أن كتب إلى الافاق:” عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه”[13] بل كان يقول لجلسائه:” هل تأتون ابن شهاب؟ قالوا: إنا لنفعل. قال: فأتوه فإنه لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية منه. قال معمر:” وإن الحسن وضرباءه يومئذ لأحياء”[14]

وكان تدوين الزهري أكبر حجما وأبعد تأثيرا في عهد عمر وأكثر شهرة في التاريخ، لذا يقول الحافظ ابن حجر: وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز”[15]. ولما تم انجازه بعث به عمر إلى كل أرض دفترا من دفاتره قصدا للنشر والعمل، وعلى إثره يقول ابن شهان:”لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني”[16].

ثم أكثر ابن شهاب رحمه الله من الكتابة بعد وفاة عمر بأمر أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، وجمع آثار الصحابة إلى جانب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في ذلك موفقا وأول بواكر التسامح التصنيفي في الآثار.

يقول أبو الزناد رحمه الله: ما كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب الزهرى يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمنا أنه أعلم الناس.[17]


[1] سير أعلام النبلاء. 4/47

[2] ينظر السنة قبل التدوين. ص: 373- 375

[3] – شرف أصحاب الحديث رقم (133)

[4] تغليق التعليق على صحيح البخاري، 2/89

[5] سنن الدارمي. 1/137 وصححه المعلق على الكتاب حسين سليم أسد

[6] مجموع الفتاوى. 20/300

[7] فوائد ابن منده برقم (67)

[8] مجموع الفتاوى. 20/319

[9] رواه البخاري في كتاب العلم – باب كيف يقبض العلم. 1/49

[10] تهذيب التهذيب. 12/34

[11] تغليق التعليق على صحيح البخاري. 2/90

[12] جامع بيان العلم وفضله. 1/155

[13] البداية والنهاية. 9/375

[14] الجرح والتعديل. 8/72

[15] فتح الباري . 1/208

[16] الرسالة المستطرفة 1/3

[17] الجامع لأخلاق الراوي. 2/188