في أوائل صفر عام 13 هـ / 634 م أرسل الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثلاثة جيوش نحو الشام لا يزيد مجموعها عن 24 ألف مجاهد يقودها ثلاثة شباب من المسلمين ، هم عمرو بن العاص ، ويزيد بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، وأمدهم أبو بكر بنفر بعد نفر من المسلمين وكان أبو عبيدة بن الجراح على رأس بعض هذه الإمدادات ، وسرعان ما التحق خالد بن الوليد بالقوات الإسلامية في الشام وفي غضون سبع سنوات 13- 19 هـ / 634- 639 م تمكنوا من فتح الشام كله ومصر.

والمتأمل في فتوح الشام يرى رجالاً من بني أمية وأحلافهم في القيادات من أول الأمر، بل تبين لأبي بكر أن غيرهم لا يصلح لقيادة الحروب في الشام لجهلهم بنواحيه ، وأن بني أمية به أعرف ، فبعث يزيد بن أبي سفيان ، ثم أردفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأخيه معاوية ، ثم إن المتتبع لسير القتال في الشام ، واتجاهات المسلمين ، والمراكز التي وجهوا إليها همهم والمواقع التي اختاروها للقاء البيزنطيين يتبين أن القادة المسلمين كانوا يعرفون الشام جيداً ، وأنهم كانوا يسيرون عن معرفة وخبرة. فإذا علمنا أن معظم التوجيه فيما خلا مسير خالد بن الوليد إلى بصرى كان بيد يزيد بن أبي سفيان وأخيه معاوية وعمرو بن العاص تبينا صدق الحقيقة التي ذكرناها من أن بني أمية وأحلافهم هم الذين قادوا الجيوش ويسروا لها فتحه ، وللمقريزي رواية تؤيد ما ذكرناه فقال: ” ما فتحت بالشام كورة إلا وجد عندها رجل من بني سعيد بن العاص ميتاً” .

وهذه الرواية تدل على أن بني أمية وأحلافهم – بنو سهم لهم الذين منهم بني سعيد بن العاص – خبرات بالشام ومعرفة بأموره ، ويتجلى ذلك بوضوح عندما نجد يزيد بن أبي سفيان عاملاً لعمر بن الخطاب على دمشق وقنسرين ، ثم يخلف معاوية أخاه يزيد بعد وفاته على دمشق والأردن ، ثم يجمع له عثمان بن عفان الشام كله بعد أن تولى الخلافة ، وفي نفس الوقت يتجه عمرو بن العاص وأحلاف بني عبد شمس – قبيلة معاوية بن أبي سفيان – لفتح مصر ، فاجتذبوا بذلك المسلمين خطوة أخرى للسيطرة على البحر المتوسط ، واقتطاع جزء آخر من أملاك الإمبراطورية البيزنطية ، وعلق على ذلك المقريزي بقوله :”فانظر كيف لم يكن في عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عمال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أحد من بني هاشم فهذا وشبهه هو الذي حدد أنياب بني أمية ، وفتح أبوابهم ، وأترع كأسهم ، وفتل أمراسهم”.

ويبدو أن الدولة الإسلامية  قد أبقت على بعض النظم الإدارية التي وجدها المسلمون في الشام ومصر من تقسيمات إدارية لأقاليم كل قطر ، وكذلك أبقت على نظام الدواوين ، كما أبقت في المراحل الأولى من الفتوح على هيئة العمال التي خدمت في العهد الروماني ، وذلك لكي يقوموا بمصالح المسلمين ، كما قاموا بمصالح الرومانيين من قبل .وإلى جانب ذلك كانت هناك عوامل أخري كانت سببا في إبقاء المسلمين على النظم والتقسيمات الإدارية الرومانية ، منها أن متولي أمور الدولة الإسلامية هم بنو أمية الذين اتصلوا كما مر بنا بروم العرب والرومانيين بعلاقات مختلفة ما بين تجارة وصداقة وحلف ، وقد حرصوا هم منذ أيام الخليفة أبي بكر الصديق على توجيه نظر الدولة الإسلامية نحو الشام ، وكانوا به أعرف. وعندما نتتبع أعمال معاوية منذ أصبح والياً على الشام ندهش من اهتمامه بأمر السواحل والثغور البحرية كأنما تسيره في نشاطه هذا فكرة معينة ، فبينما نجد ثغور الشام البرية ، أي المفضية إلى آسيا الصغرى من فتوح رجال كأبي عبيدة بن الجراح ، وميسرة بن مسروق العبسي ، وعياض بن غنم ، وغيرهم من الفاتحيننجد سواحل الشام كلها عدا أنطاكية من فتوح معاوية بل يبلغ اهتمامه بأمر البحر مبلغ المخاطرة بغزو جزره .

وإصرار معاوية على فتح جزيرة قبرص وإلحاحه على الخليفة عمر ثم الخليفة عثمان حتى وفق إليه لا يخلو من الدلالة على اهتمامه بالبحر وشئونه ، ونضيف إلى ذلك أن المسلمين ” لم يركبوا بحر الروم قبلها” وأن معاوية بن أبي سفيان أرسل معاوية بن حديج الكندي فقام بأول محاولة لفتح صقلية ، وأرسل جنادة بن أبي أميه الأزدي إلى رودس ففتحها سنة 52هـ / 672م ، وفتح جنادة أرواد سنة 54هـ/ 673م ، وفتح جنادة إقريطش .

والحق أقول: أن بني أمية ارتبطوا بعلاقات صداقة مع  “روم العرب ” البيزنطيين في الشام ، وبفضل خبرتهم بهذا البلد وملكاتهم الحربية والسياسية ثم فتح هذا القطر في سرعة لم يكن يتوقعها أحد ، وعندما انفرد معاوية بن أبي سفيان بحكم الشام كله وصل الاتجاه الشامي للبيت الأموي ذروته وفي أعماله تتجلى كل الخصائص السياسية العملية التجارية التي امتاز بها رجال هذا البيت ، فعمل من أول الأمر علي أن يصبح الشام قطراً أموياً ، ثم اجتهد في أن يجعل الدولة الإسلامية كلها دولة أموية ، ولم يكن ذلك ميسورًا إلا بنقلها إلى الشام وجعلها دولة شامية بحرية.

 


المصادر:

  • ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 12 جزءًا، دار صادر، بيروت، 1402هـ/1982م.

  • البلاذري : فتوح البلدان، مراجعة وتعليق رضوان محمد رضوان،دار الكتب العلمية، بيروت 1403 هـ/1983م.

  • الطبري : تاريخ الرسل والملوك، 10 أجزاء، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، سلسلة ذخائر العرب، العدد (30)، الطبعة الرابعة، دار المعارف، القاهرة، 1979م.

  • ابن عبد الحكم : فتوح مصر وأخبارها، جزآن في مجلد واحد، نشر هندري ماسيه، مطبعة مجلس المعارف الفرنساوي الخاص بالعادات الشرقية 1914م.

  • ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق، المجلد الأول، تحقيق صلاح الدين المنجد، 1951.

  • ابن كثير : البداية والنهاية 14 جزءا، الطبعة السادسة، مكتبة المعارف، بيروت، 1405هـ/1985م.

  • المقريزي :النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم، ليدن، 1880م.