يقدم لنا القرآن الكريم صرخة في وجه الملحدين المشككين في كلام الله عزّ وجل، ويضيف لنا إعجازاً علمياً جديداً يثبت فيه صدق كلام الله الخالق، وأن النبي الكريم – ﷺ – الذي تلقاه كان موصولاً بالوحي، فيحدثنا عن معجزة مبهرة في عصر لم يكن باستطاعة أحد أن يقيس أخفض منطقة على سطح اليابسة، حيث يحدثنا عن أدنى الأرض، وأن معركة وقعت فيها وكانت نتيجتها انتصار الفرس على الروم. يقول تعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: 1 ـ 7].
وقد وردت كلمة (أدنى) بمعانٍ عدة في القرآن الكريم، فقد جاءت أدنى بمعنى أصغر في قوله تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة: 21]، ويفسر المفسرون كلمة (الأدنى) هنا بمصائب الدنيا وأمراضها، والله تعالى يقارن في هذه الآية بين نوعين من أنواع العذاب؛ العذاب الأدنى والعذا الأكبر. وجاءت كلمة (أدنى) بمعنى أقلّ لأنها قد أُتبعت بكلمة (أكثر) في قوله تعالى: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة: 7]. وقد جاءت بمعنى أقرب في قوله تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: 12]. وهنا كلمة (الدنيا) جاءت بمعنى الأقرب من الأرض، ولكن تتضمن معنى آخر وهو الطبقة السفلى بين طبقات السماء السبعة. وسُمِّيت بالدنيا لدنوِّها من الأرض.
إذن من معاني كلمة (أدنى) لدينا: الأصغر والأقل والأقرب، فما هي المنطقة على سطح الأرض والتي تتصف بهذه الصفات الثلاث؟ إنها منطقة غور البحر الميت، فهي:
1- الأصغر: مساحة الغور صغيرة جداً ولا تتجاوز الكيلو مترات المعدودة، وذلك مقارنة بمساحة سطح الأرض والتي تزيد على ملايين الكيلو مترات المربعة.
2 – الأقلّ: هي المنطقة الأقل ارتفاعاً على سطح اليابسة، فهي تنخفض عن سطح البحر بمقدار 400 متراً تقريباً، ولا يوجد في العالم كله أدنى من هذه النقطة .
3- الأقرب: حيث هي أقرب أرض للروم إلى أرض العرب.
لقد حدَّدت آيات سورة الروم موقع المعركة في (أدنى الأرض)، حيث كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى الدول، ويكون بينهما من الحروب والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة، وكان أهل الفرس مشركين يعبدون النار، وبينما كان أهل الروم من أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة والإنجيل وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس، فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس، وكان المشركون لاشتراكهم والفرس في الشرك يحبون ظهور الفرس على الروم، فظهر الفرس على الروم وغلبوهم غلباً لم يُحط بملكهم بل بأدنى أرضهم “غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ”، ففرح بذلك مشركو مكة وحزن المسلمون، فأخبرهم الله ووعدهم أن الروم ستغلب الفرس ” فِيبِضْعِسِنِينَ”: تسع أو ثمان ونحو ذلك مما لا يزيد على العشر ولا ينقص على ثلاث، وأن غلبة الفرس للروم ثم غلبة الروم للفرس كل ذلك بمشيئة الله وقدره، ولهذا قال:” لِلَّهِالْأَمْرُ مِنقَبْلُوَمِنبَعْدُ“، فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود الأسباب، وإنما هي لابدَّ أن يقترن بها القضاء والقدر ” وَيَوْمَئِذٍ” أي: يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم :” يَفْرَحُالْمُؤْمِنُون* بِنَصْرِاللَّهِيَنصُرُمَنيَشَاء ” أي يفرحون بانتصارهم على الفرس، وإن كان الجميع كفاراً، ولكن بعض الشر أهون من بعض، ويحزن يومئذ المشركون ” وَهُوَالْعَزِيزُ“: الذي له العزة التي قهر بها الخلائق أجمعين، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزُ من يشاء ويذل من يشاء، ” الرَّحِيمُ “ بعباده المؤمنين، حيث قيض لهم من الأسباب التي تسعدهم وتنصرهم ما لا يدخل في الحساب.
لقد ثبت علمياً بقياسات عديدة أن أكثر اليابسة انخفاضاً هو غور البحر الميت ويقع البحر الميت في أكثر أجزاء الغور انخفاضاً، حيث يصل مستوى منسوب سطح الماء فيه إلى حوالي أربعمائة متر تحت مستوى سطح البحر، ويصل منسوب قاعه في أعمق أجزائه إلى قرابة ثمانمائة متر تحت مستوى سطح البحر، وهو بحيرة داخلية بمعنى أن قاعها يعتبر في الحقيقة جزءاً من اليابسة، وغور البحر الميت هو جزء من خسف أرضي عظيم يمتد من منطقة البحيرات في شرقي إفريقيا إلى بحيرة طبرية، فالحدود الجنوبية لتركيا مروراً بالبحر الأحمر، وخليج العقبة، ويرتبط بالخسف العميق في قاع كل من المحيط الهندي، وبحر العرب وخليج عدن، ويتراوح عمق الماء في الحوض الجنوبي من البحر الميت بين الستة والعشرة أمتار وهو بذلك في طريقه إلى الجفاف ويعتقد أنه كان جافاً إلى عهد غير بعيد من تاريخه، وكان عامراً بالسكان، وأن منطقة الأغوار كلها من وادي عربة في الجنوب إلى بحيرة طبرية في الشمال كانت عامرة بالسكان منذ القدم، حيث عرف البحر الميت في الكتابات التاريخية القديمة، ووصف بأسماء عديدة من مثل: “بحر سدوم” “بحيرة لوط” “بحيرة زغر” “البحر النتن” “بحر عربة” “بحر الإسفلت” ” البحر الميت” وذلك لأن المنطقة اشتهرت بخصوبة تربتها، ووفرة مياهها فعمرتها القبائل العربية منذ القدم، واندفعت إليها من كل من العراق والجزيرة العربية وبلاد الشام ومنهم: قوم لوط عليه السلام الذين عمروا خمس مدن في أرض الحوض الجنوبي من البحر الميت هي “سدوم” و”عمورة” و”أدمة” و “صوبييم” و”زغر” وقد ازدهرت فيها الحياة إلى أواخر القرن العشرين قبل الميلاد ودمرت بالكامل في عقاب إلهي أنزل بها، وجاء خبر عقابها في القرآن الكريم، يقول الحق عز وجل: ﴿ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ﴾ [هود:82].
والأرض في حوض البحر الميت ـ بصفة عامة ـ وفي الجزء الجنوبي منه بصفة خاصة تعرف باسم الأرض المقلوبة وقد أثبتت الدراسات الجيولوجية مؤخراً أن تتابعات الصخور هنا مقلوبة فعلاً كما ذكر القرآن الكريم يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ *مُّسَوَّمَةًعِندَرَبِّكَ وَمَاهِيَمِنَالظَّالِمِينَبِبَعِيدٍ﴾ [هود: 81 -82 ]. وقوله تعالى: ﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ [الحجر: 74]. وتتميز منطقة غور البحر الميت بالحرارة الشديدة، ويتفجر كل من العيون المائية، والأبخرة الكبريتية الحارة فيها، ويتناثر كتل الإسفلت التي كثيراً ما كانت تطفو على سطح مياه البحر الميت إلى عهد غير بعيد .
إن منطقة أغوار وادي عربة /البحر الميت/ الأردن، تحوي الجزء الأكثر انخفاضاً من أجزاء اليابسة على الإطلاق، والمنطقة كانت محتلة من قبل الروم البيزنطيين في عصر البعثة النبوية الخاتمة، وكانت هذه الإمبراطورية الرومانية يقابلها ويحدها من الشرق الإمبراطورية الفارسية الساسانية، وكان الصراع بين هاتين الإمبراطوريتين الكبيرتين في هذا الزمن على أشده ولابد أن كثيراً من معاركهما الحاسمة قد وقعت في أرض الأغوار وهي أخفض أجزاء اليابسة على الإطلاق، ووصف القرآن الكريم لأرض تلك المعركة الفاصلة التي تغلب فيها الفرس على الروم ـ في أول الأمر بـ ” أدنى الأرض” هو وصف معجز للغاية، لأن أحداً من الناس لم يكن يدرك تلك الحقيقة في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده ووردوها بهذا الوضوح في مطلع سورة “الروم” يضيف بعد آخر إلى الإعجاز الإنبائي في الآيات الخمسة التي استهلت بها هذه السورة المباركة ألا وهو الإعجاز العلمي فبالإضافة إلى ما جاء بتلك الآيات من إعجاز شمل الإخبار بالغيب، وحدد لوقوعه بضع سنين، فوقع كما وصفته وكما حددت له زمنه تلك الآيات فكانت من دلائل النبوة، فإن وصف أرض المعركة بالتعبير القرآني ” أدنى الأرض” يضيف إعجازاً علمياً جديداً، يؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وأن النبي الخاتم الذي تلقاه كان موصولاً بالوحي، ومعلماً من قبل خالق السماوات والأرض وكما كانت هذه الآيات الكريمة من دلائل النبوة في زمن الوحي لإخبارها بالغيب فتحقق، فهي لا تزال من دلائل النبوة في زماننا بالتأكيد أن المعركة الفاصلة قد تمت في أخفض أجزاء اليابسة على الإطلاق، وهي أغوار البحر الميت وما حولها من أغوار ويأتي العلم التجريبي ليؤكد هذه الحقيقة .
د. علي محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت، 2013م، ص 95 ــ 96.
د. زغلول النجار، من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، مكتبه الشروق الدولية، القاهرة، 2004م، ص 288 ــ ص 489.
السعدي، تفسير السعدي المسمى بــ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان»، مؤسسة الرسالة، بيروت.لبنان، 1420ه – 2000م، ص 748.
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط2، 1420ه – 1999م، 6/296.