الظاهرية مدرسة إسلامية عتيقة نشأت في القرن الثالث في أرض مدينة بغداد بيد أبي سليمان داود بن علي الأصفهاني عن طريق مؤلفاته الكثيرة وغيرها، ثم قويت شوكة المدرسة وانتشرت واشتهرت في البلدان الإسلامية كبقية المذاهب الكبرى، ثم ضعف رواجها وشهرتها وكاد يفضي أمرها إلى الاندراس والفناء؛ لكن قدر الله تعالى لها البقاء والانتشار مرة أخرى في أرض الأندلس على يد ابن حزم الظاهري، المؤسس الثاني ومجدد معالمها وأصولها وبنائها من خلال مدوناته.

علاقة الظاهرية بعلم الحديث

تزامن تشكل المذهب الظاهري مع العصر الذهبي للسنة النبوية في القرن الثالث، عصر ميلاد كتب السنة المصنفة، وعصر نضوج قواعد التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل وعلم العلل وغيرها، وقد أسهم هذا الجو العلمي الحديثي التام في انتظام وتكوين المذهب الظاهري، إذ يعد مؤسس المذهب من رواة الحديث، وقد روى عن خلق كثير، منهم: سليمان بن حرب ومسدد بن مسرهد وإسحاق بن رهويه ويحيى بن معين، وكذا روى عنه خلق كثير، منهم: ابنه أبو بكر ويحيى بن أكتم ومحمد بن جرير الطبرى.  

قال أبو عمرو المستملي: رأيت داود الظاهري يرد على إسحاق بن راهويه، وما رأيت أحدا قبله ولا بعده يرد عليه هيبة له. [1]

وأثنى عليه الذهبي فقال: الإمامُ، البحرُ، العلامة، عالمُ الوقت … رئيس أهل الظاهر … بصيرٌ بالفقه، عالمٌ بالقرآن، حافظٌ للأثر، رأسٌ في معرفة الخلاف، من أوعيةِ العلمِ، له ذكاءٌ خارقٌ، وفيه دِينٌ متينٌ. وكذلك في فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر، وذكاء قوي.[2]

وقال عنه أيضا:” صنف التصانيف، وكان بصيراً بالحديث وصحيحه وسقيمه”.[3]

وهكذا حال ابن حزم في الجملة، وإن له الميل والتعظيم للحديث وأهله، وصفه الذهبي بأنه “رأس في علوم الاسلام، متبحر في النقل”[4] أي في نقل الآثار.

ولذا كان المذهب الظاهرى من حيث المنظور العام محسوبا على أهل الحديث بسبب تقيده بالقرآن والسنة وطريقة الصحابة، وقد تأسس المذهب على أربعة أسس كما في نص ابن حزم الآتى- أثناء كلامه عن الأصول التى لا يعرف شئ من الشريعة إلا بها- ” وهي:

  1. نصُّ القُرآن.
  2. نصُّ كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذي إنَّما هُو عن الله تعالى ممَّا صحَّ عنه عليه السَّلام نقل الثِّقات أو التَّواتر.
  3. إجماع علماء الأمَّة.
  4. أو دليل منها لا يحتَمل إلاَّ وجهًا واحدًا [5]“، ويعنى بالدليل البراءة الأصلية والاستصحاب ونحوهما.

قال ابن حزم أيضا: أصحاب الظاهر من أهل الحديث رضي الله عنهم أشدُّ اتباعاً وموافقة للصحابة رضوان الله عليهم” [6]

وقال أبو الفتح الشهرستاني: ” أصحاب الحديث: وهم أهل الحجاز وأصحاب داود بن علي الأصفهاني. وإنما سموا أصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث، ونقل الأخبار، وبناء الأحكام على النصوص؛ ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبراً أو أثراً”.[7]

لكن الظاهرية جانبوا طريق أهل الحديث لإفراطهم في الاعتماد على حرفية ظواهر النصوص وعدم الإلتفات إلى المعانى والمناسبات والعلل مما أدى بهم إلى إنكار القياس والتقليد والمصادر الأصولية الأخرى، وأتوا ببعض المسائل الشاذة التي خالفوا فيها إجماع الأمة حتى نادى بعض العلماء بعدم الاعتداد بهم وإلحاقهم بالعوام.      

كما في قول الجصاص عند وصف الظاهرية: “فهم بمنزلة العامي الذي لا يعتد بخلافه، لجهله ببناء الحوادث على أصولها من النصوص “[8] والحق اعتبار قولهم فيما عدا الأقيسة.

انتساب الظاهرية إلى علم الحديث

تقدم أن داود الظاهري من أهل البصيرة بالحديث ومن تلاميذ ابن راهويه وابن معين، بيد أنه لا يعرف عنه كثير فيما يخص علم الحديث،حتى قال الخطيب الغدادي عنه: ” وفي كتبه حديث كثير، لكن الرواية عنه عَزِيزَةٌ جداً “[9].

وإنما المعول عليه الآن في الظاهرية في أعم الأغلب هو ابن حزم، خطيب القوم ومجدد المنهج، وقد أدخل النظرة الظاهرية الحرفية على بعض مسائل أصول علم الحديث، ولا ينسج على منوال أئمة الشأن في النظر إلى الملابسات والقرائن والعلل ودقائق الأمور المعتبرة قبل الحكم على الراوى أو المروي، وأشبه ما يكون علم الحديث عنده بعلم الرياضيات، وابتدع تقعيدات وأصولا مطردة لم تكن معروفة عند أهل الحديث، وفيما يلي الإشارة إلى بعضها بالإجمال.

مخالفة ابن حزم ومنازعته المحدثين في تقرير الأمور الآتية:

    1- الراوى الثقة مصيب أبدا

كاد أن يكون الراوي الثقة عند ابن حزم معصوما عن الخطأ والزلل في جميع رواياته، وإنه قال في كتابه الإحكام: ” فالفقيه – يعني الحافظ -العدل مقبول في كل شيء… من كان عدلاً في بعض نقله فهو عدل في سائره، ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره…”[10] وقال أيضا:”ولا سبيل إلى القطع بالوهم والخطأ على رواية ثقة إلا بيقين لا يحتمل غيره!”.[11]

وذكر في موضع آخر متى يمكن تصور خطأ الراوى الثقة فقال: “ولا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأحد ثلاثة أوجه:

  • إما تثبت الراوي واعترافه بأنه أخطأ فيه !
  • وإما شهادة عدل على أنه سمع الخبر مع راويه فوهم فيه فلان !
  • وإما بأن توجب المشاهدة بأنه أخطأ”[12]

 وهذا الكلام يدلك على مدى جريان المنهج الظاهري في هذا المسلك مع الراوي الثقة، حيث أبعد اعتبار النقد الداخلى تماما وحصر النقد في الظواهر نادرة الوقوع والتطبيق.  

2- عدم المفاضلة بين الثقات  

قول المحدثين: ” فلان أوثق أو أثبت أو أحفظ … من فلان” قول خطأ عند ابن حزم.

قال في الإحكام: “وقد غلط أيضاً قوم آخرون منهم فقالوا: فلان أعدل من فلان، وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة. ثم قال : وهذا خطأ شديد”[13]

وإن معرفة مراتب الرواة بجميع صورها من أهم مبائ علم الحديث عند أهل الصعنة، لكن نسفها ابن حزم بمنظاره الظاهري، وعلى إثر ذلك جنح إلى القول بــــ:

3- قبول زيادة الثقة وتفرد الثقة مطلقا

قال العلائي: “وأما أئمة الحديث فالمتقدمون يقتضي تصرفهم في الزيادة قبولاً ورداً الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث، ولا يحكمون في المسألة بحكم كلي يعم جميع الأحاديث، وهذا هو الحق الصواب”[14] وكذا منهجهم في مسألة تفرد الثقة.

وقد نازع ابن حزم الأئمة في صنعتهم وقال في الإحكام: ” وإذا روى العدل زيادة على ما روى غيره، فسواء انفرد بها، أو شاركه فيها غيره مثله، أو دونه، أو فوقه، فالأخذ بتلك الزيادة فرض.”[15] وكذا نظره في تفرد الثقة.

4- الراوي الضعيف ساقط أبدا

أدت ظاهرية ابن حزم إلى هدر جميع حديث الراوي الضعيف مطلقا، وبغض النظر عن مستوى الضعف ولو كان يسيرا،قال في الإحكام: “وكذلك نقطع ونثبت بأن كل خبر لم يأت قط إلا مرسلاً، أو لم يروه قط إلا مجهول، أو مجرح ثابت الجرحة، فإنه خبر باطل بلا شك! موضوع لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم!!.[16]  

5- جعل قول الصحابي:” أمرنا أو نهينا ” موقوفا حصرا

نقل الحاكم في المستدرك إجماع المحدثين على جعل قول الصحابي: “من السنة كذا أو أمرنا أو نهينا ” مرفوعا، حيث قال: “أجمعوا على أن قول الصحابي: سنة، حديث مسند.”[17] ونقل عنه السخاوى قوله في موضع آخر: إذا قال الصحابي أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو كنا نفعل كذا، أو كنا نتحدث، فإني لا أعلم بين أهل النقل خلافا فيه أنه مسند”[18]

لكن ابن حزم خالف هذا الإجماع قائلا: “وإذا قال الصحابي: السنة كذا، وأمرنا بكذا، فليس هذا إسناداً، ولا يقطع على أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينسب إلى أحد قول لم يرو أنه قاله ولم يقم برهان على أنه قاله. ثم استدل على ذلك بما لا ينهض دليلا لابطال الإجماع المنقول أو قول اتفاق أكثر أهل العلم على الأقل.

وهناك أمور أخرى جانب الظاهري فيها الصواب[19]، كرد الرواية بالإجازة وجسارة قوله وجرأته في بعض قضايا الجرح والتعديل، وغير ذلك مما لا يتوافق مع طريق أئمة الحديث.

مآلات منهج الظاهرية في الحديث

قد حفت التقعيدات الحديثية الظاهرية بالمزالق الكثيرة في علم الحديث، ومن أهمها في هذا المطلب:

عدم تقوية الحديث بمتابعات وشواهد مهما كثرت طرقه، لأن حديث الثقة يساوي حديث صحيح أبدا كخبر اليقين، وحديث الضعيف يساوى حديث ضعيف أبدا كحديث الموضوع، والحديث يعنى عند ابن حزم: إما صحيح وإما ضعيف ولا محل لقسم ثالث تقريبا، ومن ثم أغلق باب النظر في دقائق علل الحديث والقرائن الموصلة إلى حقيقة حال الخبر، فأوقعه هذا النظر الظاهري في تضعيف كثير من الأحاديث الصحيحة، وتصحيح ما أعله أئمة الحديث.

يقول ابن القيم:” وأما تصحيح أبي محمد بن حزم له فما أجدره بظاهريته وعدم التفاته إلى العلل والقرائن التي تمنع ثبوت الحديث بتصحيح مثل هذا الحديث، وما هو دونه في الشذوذ والنكارة. فتصحيحه للأحاديث المعلولة وإنكاره لنقلتها نظير إنكاره للمعاني والمناسبات والأقيسة التي يستوي فيها الأصل والفرع من كل وجه، والرجل يصحح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه، وهذا بين في كتبه لمن تأمله.[20]

كتضعيفه لحديث في صحيح مسلم “البر حسن الخلق” وحديث ” هو الطهور ماؤه..” وتصحيحه لحديث “امرأتين صائمتين تغتابان الناس” وهلم جرا.

ولا شك أن النهج الظاهري الحديثي ينتهى إلى الانعكاس على فقه الأحكام كما لا يخفى.

إلا أن الإنصاف يقودنا إلى عدم هدر منزلة الرجل وحسناته العلمية بالكلية، اقتداءا بمقولة الإمام الذهبي في السير:”ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل.[21]


[1] تهذيب الأسماء واللغات 1/184

[2] سير أعلام النبلاء 10/275

[3] تذكرة الحفاظ 2/572

[4] سير أعلام النبلاء 13/374

[5] الإحكام في أصول الأحكام 1/71

[6] النبذة الكافية في أحكام أصول الدين. ص:37

[7] المحل والنحل 1/206

[8] الفصل في الفصول 3/296

[9] تاريخ بغداد 9/342

[10] الإحكام في أصول الأحكام 1/143

[11] المحلى مسألة (1573)

[12] الإحكام في أصول الأحكام 1/137

[13] المصدر السابق 1/143

[14] نظم الفرائد (209)

[15] الإحكام 2/ 216

[16]  المصدر السابق 1/127

[17] المستدرك (1323)

[18] فتح المغيث 1/142 وانتقد السخاوى نقل الإجماع في المسألة، ولكن ربما عنى الحاكم بالإجماع إجماع المحدثين المتقدمين.

[19] كما تراها في الدراسات الموسعة حول الموضوع، مثل “كتاب الجرح والتعديل عند ابن حزم الظاهري” وكتاب “المنهج الحديثي عند الإمام ابن حزم الأندلسي” لطه بن علي بوسريح . وكتاب “ألفاظ الجرح والتعديل عند الإمام ” لنورة بنت فهد

[20] الفروسية: (246)

[21] سير أعلام النبلاء 18/ 201_202