شهد تاريخ الأوبئة فيروسات شديدة الخطورة فتكَتْ بملايين الأشخاص، كان على رأسها الطاعون الذي تعرّضت له كتب التراث العربي الإسلامي، ولتسليط الضوء على جوانب من تاريخ الأوبئة في الإسلام سنقوم بجولة في كتاب (بذل الماعون في فضل الطاعون) للعلامة بن حجر العسقلاني (773-852 هـ)، الذي يُعدّ من أشهر وأقدم الكتب العربية التي وصلت إلينا بخصوص تاريخ الأوبئة، والظاهر أنه انتهى من تأليفه (سنة 833 هـ).
في أوائل ديسمبر 2019، تفاجأ العالم بظهور فيروس كورونا “كوفيد – 19″، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وأصابهم بالهلع، وفتك بأرواح الآلاف في وقت وجيز، فصار البعض ينظر إليه وكأنه أول فيروس يشكّل حدثاً فارقاً في التاريخ، لكن كتب تاريخ الأوبئة في التراث تقول إن هذه ليست المرة الأولى التي يَضرِب فيها فيروس فتّاك البشرية فتصاب بالهلع الشديد، كما أنها ليست المرة الأولى التي يُنظَرُ فيها إلى الصين بصفتها مصدراً لفيروس قاتل.
وقبل الانتقال إلى فحوى الكتاب، من المهم أن نقول إن ابن حجر قسّم كتابه هذا إلى خمسة أبواب، وقد استطاع أن يكشف لنا عن جوانب عديدة مشابهة لما نعيشه اليوم من هلع عالمي، وحصد للأرواح، وإجراءات احترازية، كالحجر الصحي، والتباعد الاجتماعي، وتقييد حركة السفر والتنقّل، وسنّ القوانين والتشريعات الوقائية، وبناء المستشفيات ومعالجة المصابين بالفيروس، والفرار من مناطق الوباء من أجل النجاة.
متى ظهر الطاعون؟
الواضح أن هذا السؤال لا يزال يحتاج إلى إجابة شافية ودراسات مستفيضة عن تاريخ الأوبئة ، حيث يبدو أن هناك خلافاً تاريخياً حول عدد الطواعين وأول طاعون ظهر في تاريخ الإسلام، فقد ذهب محمد بن رسول البرزنجي (ت: 1103 هـ) إلى أنه لم يكن هناك طاعون أشد من ثلاثة طواعين: طاعون ازدجرد، و طاعون عمواس ، وطاعون الجارف[1].
أما ابن حجر فنقل عن المؤرّخ أبو الحسن المدائني (ت: 225 هـ) قوله إن الطواعين العظام المشهورة في الإسلام خمسة، هي: طاعون شيرويه بالمدائن في عهد رسول الله ﷺ، وطاعون عمواس في عهد عمر رضي الله عنه، وطاعون الجارف، وطاعون الفتيات، وطاعون الأشراف، ثم استعرض عدداً كبيراً من الطواعين في مناطق مختلفة من العالم، منها: الشام ومصر وبغداد والهند وأذربيجان[2]، كما تحدث الفيومي (ت: 1427 هـ) عن الطاعون الذي عصف بصفوف الرومان (سنة 270م)، وراح ضحيته الزعيم أوريليانوس[3].
ومن هنا يتضح أن الطاعون لم يقتصر على القرون الأولى ولا على العالم الإسلامي فقط، وإنما شمل أماكن وفترات تاريخية مختلفة، فطاعون القرن التاسع الهجري أصاب أوروبا بالهلع حتى أُطلِق عليه الموت الأسود، أما في القرن التاسع عشر الميلادي فعمّ الطاعون جميع أنحاء العالم، منطلقاً من موائي الصين الجنوبية، وأسفرت النتائج عن وفاة ما يزيد عن عشرة ملايين شخص[4].
التأليف عن الطاعون
بعد انتشار الطاعون، بدأت تظهر كتب حول خطورته وكيفية علاجه، ويبدو أن ابن أبي الدنيا (ت: 281 هـ) كان أول من أفرد كتاباً عربياً عن الطاعون بعنوان: (كتاب الطاعون)، ثم ظهرت كتب أخرى، مثل: (الطب المسنون في دفع الطاعون) لابن أبي حجلة (ت: 776 هـ)، و(تسلية الواجم من الطاعون الهاجم) لابن داود (ت: 856 هـ)، و(ما رواه الواعون في أخبار الطاعون) للسيوطي (ت: 911 هـ).
ولعل من أحدث الكتب التي صدرت حول الطاعون كتاب (الموت الأسود: جائحة طبيعية وبشرية في عالم العصور الوسطى) لروبرت جوتفريد (2017)، و(عودة الموت الأسود: أخطر قاتل في العصور الوسطى) لسوزان سكوت وكريستوفر دنكان (2017)، و(الموت الأسود) لجوزيف بيرن (2017)، وكتاب (الطاعون في العصر الأموي) لأحمد العدوي (2018).
وفي سياق الحديث عن التأليف حول الطاعون، يمكن أن نذكّر بأن هناك مصادر تشير إلى أن الطاعون قتل عدداً من المؤلفين والمؤرخين واللغويين والشعراء، مثل: أبو الأسود الدؤلي (ت: 69 هـ)، والمؤرخ ابن الوردي (ت: 749 هـ)، وعبد الوهاب السبكي (ت: 771 هـ)، واللغوي محمد مرتضى الزبيدي (ت: 1205 هـ)، والكثير من الرواد المسلمين على رأسهم أبو عبيدة بن الجراح، كما قتل الطاعون أيضاً خمسة من أولاد الشاعر الجاهلي أبي ذؤيب الهذلي، وثلاثاً من بنات ابن حجر، فكتب كتابه (بذل الماعون في فضل الطاعون) الذي هو عمدة هذه المقالة.
ركّز ابن حجر في الباب الأول “في مبدأ الطاعون” على الإجابة على سؤال: هل كان الطاعون رجزاً (عذاباً) على من مضى؟ وتمثل الجواب الذي قدمه في أن الطاعون كان رجزاً وعذاباً على من مضى، لكنه فصَّل ذلك فأشار في بعض فصول هذا الباب إلى أن هذا الرجز أو العذاب وقع على الكفرة وبني إسرائيل، وأورد جملة من الأحاديث، منها حديث: “الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سَمعتُم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه”[5].
ويبدو أن كبار المفسرين توقّفوا مع الطاعون ومعنى كلمة (الرجز) الواردة في القرآن والحديث، فهذا ابن كثير (ت: 774 هـ) يحدثنا عن الطاعون فيقول إن عامر بن الطفيل أرسل الله عليه الطاعون فخرجت فيه غُدَّةٌ عظيمة، فجعل يقول: يا آل عامر غُدَّة كغُدَّة البِكر، وموتٌ في بيت سَلولِيَّة. وشرحاً لغريب الفقرة السابقة، جاء في هامش الصفحة: “والبكر: ولد الناقة، والغدة: طاعون الإبل، وقلّما تسلم منه”[6].
وفي تفسيره لمعنى (الرجز) في قول الله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ}، قال الثعالبي (ت: 875 هـ): والظاهر من الآية أنَّ المراد بالرجْزِ هنا العذابُ المتقدِّم الذكْر من الطُّوفان والجراد وغيره، وقال قوم: إن الرجْزَ هنا طاعون أنزله اللَّه بهم[7].
بين الطاعون والوباء
أما في الباب الثاني “في التعريف بالطاعون“، فتوقف ابن حجر مع معنى الطاعون واشتقاقه والفرق بينه وبين الوباء، واستعرض الأحاديث الواردة في أن الطاعون وخز من الجن، ومجموعة من التعريفات التي يحاول أصحابها توضيح العلاقة بين الطاعون والوباء، ثم أورد حديثَيْن، الأول: “على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال”، والثاني: “اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء”، ثم علّق ابن حجر قائلاً: “فلو كان الطاعون هو الوباء لتعارض الحديثان، لكن لا تعارض بينهما لأن الطاعون أخصّ من الوباء”[8].
ويبدو أن الطاعون له تعريفات عديدة، فقد عرّفه يوسف خياط بأنه “مرض وبائي بسبب باسيل الطاعون، يصيب الفئران، وتنقله البراغيث إلى فئران أخرى، وإلى الإنسان”[9]، فيما عرّفته الموسوعة البريطانية بأنه “مرض واسع الانتشار، مسبب للموت الجماعي”، أما الغزالي فعرّفه بأنه “انتفاخ جميع البدن من الدم مع الحمّى”[10].
وينقسم الطاعون إلى ثلاثة أشكال سريرية: الطاعون اللمفاوي الورمي، والطاعون الرئوي، وطاعون تعفّن الدم، وفترة حضانة الطاعون مضطربة، فتارة تمتد من ثلاثة أيام إلى ستة، وأحياناً عشرة أيام، وغالباً ما تكون البداية مفاجئة[11]، وللمناخ دور في الحد من تفشي الطاعون، حيث “كانت الطواعين الماضية تقع في فصل الربيع بعد انقضاء الشتاء، وترتفع أول الصيف”[12].
الطاعون رحمة للمسلم
كيف يكون الطاعون رحمة وشهادة؟ قد يكون هذا هو أول سؤال يتبادر إلى ذهن من يقرأ عنوان كتاب ابن حجر (بذل الماعون في فضل الطاعون)، إذ كيف يكون للطاعون “فضل” وما المقصود بذلك؟ هذا ما يجيبنا عليه ابن حجر من خلال الباب الثالث “في بيان كون الطاعون شهادة للمسلمين ورحمة“، معتمداً على مجموعة من الأحاديث، مثل: “الطاعون شهادة لكل مسلم”، و”الطاعون شهادة لأمتي ورحمة ورجز على الكافر”، و”الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله.
ومن هنا يبدو جلياً أن من أبرز فضائل الطاعون في الإسلام أنه سبب في الابتعاد عن المعاصي، والخروج من دائرة الغفلة، والوعي بقصر الأمل، والاستعداد للرحيل إلى دار الخلود، وشهادة للمسلمين ورحمة، لذلك نجد ابن حجر يحدثنا في هذا الباب عن ما يُشتَرَطُ لتحصيل الشهادة بالطاعون، وعن معنى الشهيد وخصائص الشهادة، وأن شهيد الطاعون ملتحق بشهيد المعركة، ثم يقسّم الشهداء إلى ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة، وشهيد في الدنيا فقط، وشهيد في الآخرة فقط[13]، ثم يقول “إن أجر الشهيد إنما يكتب لمن لم يخرج من البلد الذي يقع به الطاعون، وأن يكون في حال إقامته قاصداً بذلك ثواب الله، راجياً صدق موعوده”[14].
الفرار من الطاعون
في الباب الرابع، يحدثنا ابن حجر عن “حكم الخروج من البلد الذي فيه الطاعون والدخول إليه“، فيُذكّر في البداية بالزجر عن الخروج من البلد الذي وقع فيه الطاعون فراراً منه، ثم يعرض الآية القرآنية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ..}، لينقل عن عبد الرزاق في تفسيره عن الحسن قال: “فَرّوا من الطاعون، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم”[15].
والحقيقة أننا عندما نودّ أن نحصل على أحكام شرعية بخصوص التباعد الاجتماعي ستتحفنا مصادر التراث بالأدلة الشرعية المختلفة، فقد كان النبي محمد ﷺ أول مؤسس لفكرة الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي حين دعا إلى الابتعاد عن الشخص المصاب بالطاعون أو الجذام، فقال عن الجذام: “فُرَّ من المجذوم فرارك من الأسد”[16]، فيما قال عن الطاعون: “إذا سَمعتُم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه”، – وكانت لحظة تأسيسية في تاريخ الأوبئة، فقد ذهب سعيد حوّى (ت: 1409 هـ) إلى أن هذا النص يُعدّ “أول تأسيس لفكرة الحجر الصحي في تاريخ العالم”[17].
وفي هذا السياق، لم يغفل ابن حجر قصة رجوع عمر من طريق الشام عندما بلغه أن الطاعون بها، بل توقف معها وأكد أن رجوع الفاروق “ليس فراراً من الطاعون، ولا مخالفاً لما دلّت عليه الأخبار الواردة في ذلك”[18]، ثم قام بتبيان الحكمة من النهي عن الخروج من البلد الذي وقع فيه الطاعون فراراً منه، ومن أبرز تلك الحِكم أن الفرار لا يُنجي صاحبه من الموت، ولتأكيد ذلك نقل ابن حجر عن المدائني أن مصر ضربها طاعون شديد، ففرّ عبد العزيز بن مروان -أمير مصر آنذاك (ت: 86 هـ)- إلى قرية له، فلحقه الطاعون فمات بتلك القرية[19].
آداب مكافحة الطاعون
خصص ابن حجر الباب الخامس والأخير للحديث عن “ما يُشرع فعله في الطاعون بعد وقوعه“، فتوقف مع عدة مسائل منها سؤال: هل يُشرع الدعاء برفع الطاعون أم لا؟ وأجاب بأن الدعاء برفع الطاعون عن المسلمين مشروع اجتماعاً وانفراداً في القُنُوت، إلا أنه استعرض أيضاً خلافاً حول مشروعية القُنُوت، وتطرق إلى بعض الشبهات التي أثارها العلماء في هذا السياق، حيث كان بعضهم يتساءل: ما دام الطاعون رحمة فكيف يُطلب رفعه؟[20].
ثم توقف ابن حجر مع الآداب المتعلقة بمن أصابه الطاعون أو غيره من الأمراض، فذكر أربعة آداب، هي: سؤال الله العافية والاستعاذة من السقم، والصبر على قضاء الله تعالى والرضا بما يقدره، والترغيب في حسن الظن بالله تعالى، والعيادة وفضلها، ثم قدم جملة من الأدلة القرآنية والحديثية تؤكد قيمة وضرورة هذه الآداب، وختم ابن حجر كتابه بخاتمة استعرض فيها بعض إحصائيات وأماكن وقتلى الطاعون في الإسلام، ثم جاء بفصل يتضمن بعض الأشعار التي يصف أصحابها حال الطاعون في تاريخ الإسلام.
كانت هذه لمحة في أحد أهم كتب تاريخ الأوبئة، أعاذنا الله وإياكم من كل الأوبئة والأمراض.
[1] محمد بن رسول البرزنجي، الإشاعة لأشراط الساعة، 120.
[2] انظر: ابن حجر، بذل الماعون في فضل الطاعون، 361-370.
[3] محمد إبراهيم الفيومي، تاريخ الفكر الديني الجاهلي، 141.
[4] انظر: ابن حجر، بذل الماعون في فضل الطاعون، 25.
[5] محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري، صحيح البخاري، ج4، 175.
[6] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 381.
[7] الثعالبي، الجواهر الحسان في تفسير القرآن، 70.
[8] انظر: ابن حجر، بذل الماعون في فضل الطاعون، 102-103.
[9] يوسف خياط، المصطلحات العلمية والفنية، 415.
[10] ابن حجر، بذل الماعون في فضل الطاعون، 98.
[11] انظر: ابن حجر، المصدر نفسه، 23-24.
[12] ابن حجر، المصدر نفسه، 369.
[13] انظر: ابن حجر، المصدر نفسه، 189.
[14] ابن حجر، المصدر نفسه، 200.
[15] ابن حجر، المصدر نفسه، 229.
[16] البخاري، صحيح البخاري، ج7، 126.
[17] سعيد حوّى، الأساس في التفسير، ج1، 571.
[18] ابن حجر، بذل الماعون في فضل الطاعون، 241.
[19] انظر: ابن حجر، المصدر نفسه، 362.
[20] انظر: ابن حجر، المصدر نفسه، 316-319.