يعد الشيخ الإمام ابن كثير من كبار علماء التفسير في التاريخ الإسلامي، وهو العالم الحافظ المعبد المحدث المفسر الفقيه البارع في علوم الدين، وتفسيره المعروف بـ “تفسير ابن كثير” يعد من أهم أمهات كتب التفسير ومن أشهر الكتب الإسلامية المختصة بعلم تفسير القرآن الكريم، ويعد من أشهر ما دُون في موضوع التفسير بالمأثور أو تفسير القرآن بالقرآن.

تميز ابن كثير بأنه كان ذو خلق عالي وأخلاقه الحميدة التي جعلته من العلماء المعروفين في هذا العصر، وكان ذو قدرة عاليه في حفظ العلوم وفهمها، والتي جعلته يحفظ القرآن الكريم في سن الحادية عشرة.

كان يتميز في الفهم الجيد وتحضير الدروس والوصول إلى الاستنتاجات الدقيقة و المقبولة، ويقال عنه انه كان مجتهدا في دروسه وسريع الفهم، وكان يهتم بطلابه وكان يخفف عليهم الضغط.

وكان يدعي الناس إلى اتباع السلف وكان من الأشخاص الملتزمين بالحديث والسنة، وكان يحارب الباطل والفاسد، ومن صفاته أنه كان له سعة صدر كبيرة. وكان يدعو الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يعدل بين الناس وينصر الضعيف وكان يصلح بين الأخصام، وكان يحاول في تزويد الإصلاح الديني، وكان يعتبره الناس مرشدا لهم ولا يخشى في الله لومة لائم.

ولعل أكثر ما اشتهر به الإمام ابن كثير، هو تفسيره للقرآن الكريم، حيث يُعَد “تفسير ابن كثير” من أشهر الكتب بعلم التفسير، وخاصةً التفسير بالمأثور أو تفسير القرآن بالقرآن، ويضعه البعض بعد تفسير الطبري في المنزلة، ويفضله آخرون عليه، وشهرته تعقب شهرة تفسير الطبري عند المتأخرين.

من هو ابن كثير؟

هو الإمام عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضَوْ بن درع القرشي الحَصْلي البُصروي الشافعي الدمشقي. ولد في سوريا سنة 700 هـ كما ذكر أكثر من مترجم له أو بعدها بقليل كما قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة.

كان مولده بقرية “مجدل” من أعمال بصرى من منطقة سهل حوران (درعا حاليا) في جنوب دمشق في سوريا، وكان أبوه من أهل بصرى وأمه من قرية مجدل.والاصح انه من قرية مندثرة تسمى الشريك تقع بين قريتي الجيزة وغصم ويمر من جانبها وادي مشهور اسمه وادي الزيدي وهي في منطقة حوران أو درعا حاليا.

اشتهر عن ابن كثير في التفسير انه قد كان عالما كبيرا وسابقا لعصره، وكان من بيت معروف عنه الأدب والعلم، وتعلم الكثير من علماء دمشق وأخذ منهم الكثير من العلوم. وقد عرف عنه أنه لديه معرفة واسعة في العلوم وكان مطلع جيد في الحديث والتفسير والتاريخ، وكتب الكثير من المؤلفات منها البداية والنهاية في التاريخ، وكتاب التفسير للقرآن العظيم الذي يعتبر من أفضل كتب التفسير في القرآن.

وكان يبتعد عن الأقوال الباطلة والفاسدة وكان يبتعد أيضا عن الروايات الغير حقيقية، وكان يحب الحق ويتجه نحو الأقوال الصحيحة، لذلك نستطيع القول أن ما قدمه ابن كثير للإسلام لا يمكننا حصره فهو كان شخصية صعب تكرارها.

نشأته وحياته

تربّى الإمام ابن كثير على يد شقيقه الأكبر، حيث توفّى الله تعالى والده الخطيب شهاب الدينِ، وقد قال عن شقيقه الذي تربّى في كنفهِ: (كان لنا شقيقا، وبنا رفيقا شفوقا). وشهِد العديد من أحداث القرن الثامن الهجريّ، حيث كان الحكم في تلك الفترة لدولة المماليك، ومن الأحداث التي حصلت في القرن الثامن هجوم التتار على الدولة الإسلاميّة، وانتشار المجاعات وتواليها على الدولة الإسلاميّة، وانتشار الأوبئة والأمراض، وقد حصدت هذه الأحداث ملايين النّاس، كما حصلَت في القرنِ نفسه عدّة حروب، أبرزها حرب المسلمين مع الصليبيّين، وانتشرت المؤامرات والفِتن على الدولة بين الأمراء والوزراء، ومع كل ما اكتنفه هذا العصر من الحروبِ، والفتن، والأمراض، والأسقام، إلا أنّه كان عصر النشاط العلميّ المتمثِل بانتشار المدارس، وازدهارِ التأليفِ.

كان البيت الذي نشأ وتربّى فيه ابن كثير بيت دين، حيث كان والده -رحمه الله- خطيبا، وقد كان لهذا الأمر أثر ظاهر في تميُزه -رحمه الله- ونبوغهِ، وقيل إنّ وفاة والده كانت في الرابعة من عمره، وفي رواية أخرى في السابعة من عمره، وبعد وفاته انتقلت أسرته إلى مدينة دمشق، فاستقرت أُسرته بجوار المدرسةِ النوريةِ.

ألَّف الإمام في صغره كتابا اسمه: أحكام التنبيه، وقد أُعجِب شيخه البرهان بالكتاب، وأثنى عليه. يقول ابن العمادِ – رحمه الله- في وصفِ ابن كثير: “وكان كثير الاستحضارِ، قليل النسيان، جيّد الفهمِ، حَفِظَ كتاب التنبيه، ومختصر ابن الحاجب، ثمَّ أقبل على الحديث، فاشتغل بمطالعة متونه ورجاله، فسمع الموطّأ للإمام مالك، والجامع الصحيح للإمام البخاري، والجامع الصحيح للإمام مسلم، وسُنن الدارقطني، وشيئاً من السُّنن الكبرى للبيهقي، وسمع مسند الشافعي، وغير ذلك من المصنّفات الحديثيّة، وهو لا يزال في مقتبل العمر”، وقد برع في شتّى أصناف العلوم الشرعية، كالفقه، والتفسير، والنحو، والحديث وغيرِ ذلك

عقيدته وطلبه للعلم

انتقل إلى دمشق سنة 706 هـ في الخامسة من عمره وتفقه بالشيخ إبراهيم الفزازى الشهير بابن الفركاح وسمع بدمشق من عيسى بن المطعم ومن أحمد بن أبى طالب وبالحجار ومن القاسم بن عساكر وابن الشيرازى واسحاق بن الامدى ومحمد بن زراد ولازم الشيخ جمال يوسف بن الزكى المزى صاحب تهذيب الكمال وأطراف الكتب الستة وبه انتفع وتخرج وتزوج بابنته.

قرأ على شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرا ولازمه وأحبه وانتفع بعلومه وعلى الشيخ الحافظ بن قايماز وأجاز له من مصر أبو موسى القرافى والحسينى وأبو الفتح الدبوسى وعلى بن عمر الوانى ويوسف الختى وغير واحد.

أما ما يتصل بعقيدته فقد تنازع الأشاعرة والسلفية في أمر معتقده.

فأما الأشاعرة فزعموا أنه أشعري العقيدة حيث ذكر الحافظ بن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ص17 ج1 باب الهمزة (وهو حرف الألف) قصة حدثت بين ابن القيم وابن كثير عندما قال ابن كثير لإبن القيم “أنت تكرهني لأنني أشعري” فقال له لو كان من رأسك إلى قدمك شعر ما صدقك الناس في قولك إنك أشعري وشيخك ابن تيمية”, كما أن ابن كثير تولى مشيخة دار الحديث الأشرفية، وشرط واقفها أن يكون أشعري العقيدة.

و رأى السلفية أنه كان واضحا وجليا أنه سلفي الأعتقاد في غالب بل كل مؤلفاته، فكان يصرح بها، ولعل المتتبع البسيط لتفسيره (تفسير القرآن العظيم) يرى بوضح وبدون أدنى لبس أنه على عقيدة شيخه أبن تيمية. وكذلك ما كتبه في أول كتابه الجليل “البداية والنهاية” عن علو الله على عرشه وإثبات صفة العلو والفوقية لله العلي القدير.

شيوخه

  • ابن غيلان البعلبكي الحنبلي المتوفى سنة 730هـ.(في القرآن)
  • محمد بن جعفر اللباد المتوفى سنة 724هـ. (في القراءات)
  • ضياء الدين الزربندي المتوفى سنة 723هـ.( في النحو)
  • الحافظ ابن عساكر المتوفى سنة 723هـ.
  • المؤرخ البرزالي المتوفى سنة 739هـ.
  • ابن الزملكاني المتوفى سنة 727هـ.
  • ابن قاضي شهبة المتوفى سنة 726هـ.
  • ابن تيمية المتوفى سنة 727هـ.
  • الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي،
  • الشيخ أبو إسحاق إبراهيم الفزاري،
  • الإمام علم الدين محمد القاسم البرزالي،
  • الشيخ شمس الدين أبو نصر محمد الشيرازي،
  • الشيخ شمس الدين محمود الأصبهاني،

ومن تلاميذه

  • الحافظ علاء الدين بن حجي الشافعي.
  • محمد بن محمد بن خضر القرشي.
  • شرف الدين مسعود الأنطاكي النحوي.
  • محمد بن أبي محمد بن الجزري، شيخ علم القراءات.
  • ابنه محمد بن إسماعيل بن كثير.
  • ابن أبي العز الحنفي.
  • الحافظ أبو المحاسن الحسيني.
  • الحافظ زين الدين العراقي.
  • الإمام الزيلعي، صاحب نصب الراية.

جهوده العلمية ومؤلفاته

  • تفسير القرآن العظيم، المعروف بـ”تفسير ابن كثير” وهو أجل مؤلفاته فقد تلقته الأمة بالقبول ويعتبر أصح تفسير للقرآن.
  • البداية والنهاية، وهي موسوعة ضخمة تضم التاريخ منذ بدأ الخلق إلى القرن الثامن الهجري حيث جزء النهاية مفقود.
  • التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقاة والضعفاء والمجاهيل.
  • الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث وهو اختصار لمقدمة ابن صلاح.
  • شرح البخاري، وهو مفقود.
  • التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، المعروف بجامع المسانيد، جمع فيه كتابي شيخه المزي والذهبي : (تهذيب الكمال، وميزان الاعتدال، وكتاب رد الهدى والسنن في أحاديث المسانيد والسنن).
  • السيرة النبوية لابن كثير.
  • جامع السنن والمسانيد لابن كثير.
  • كتاب طبقات الشافعية.
  • خرج أحاديث أدلة التنبيه في فقه الشافعية.
  • خرج أحاديث في مختصر ابن الحاجب.
  • كتاب “مسند الشيخين” يعني أبا بكر، وعمر.
  • له رسالة في الجهاد، وهي مطبوعة.
  • شرع في كتاب كبير للأحكام، ولم يكمله، وصل فيه إلى كتاب الحج.

 منهجه في التفسير (تفسير ابن كثير)

يتبع ابن كثير في تفسيره مذهب السلف في إثبات الصفات وإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل.

ويقوم منهجه في التفسير على الأمور التالية:

توضيح المعنى: تفسير الآية بعبارة سهلة، وبأسلوب مختصر، يوضِّح المعنى العام.

تفسير القرآن بالقرآن: تفسير الآية بآية أخرى إن وجدت؛ حتى يتبين المعنى، ويظهر المراد، وقد يذكر عدة آيات في تفسير الآية الأولى، وكأنه يجمع بين الآيات المتشابهة والمتماثلة في المعنى، والمتحدة في الموضوع، فتأتي الآيات المتناسبة في مكان واحد.

رواية الأحاديث: إن لم يجد ما يفسره بالقرآن فسره بالأحاديث النبوية، فيروي الأحاديث بأسانيدها غالبًا، وبغير إسناد أحيانًا.

التفسير بأقوال الصحابة: يُردِف ابن كثير في تفسير الآية ما وصله من أقوال الصحابة في تفسير هذه الآية، حسب المؤهلات التي يمتلكونها.

ذكر أقوال التابعين وتابعي التابعين: يذكر أقوال التابعين، وتابعي التابعين، ومَن يليهم من علماء السلف، وخاصةً أهل القرون الأولى.

الإسرائيليات: كان ينبِّه على الإسرائيليات في التفسير، تارةً يذكرها ويعقِّب عليها بأنها دخيلة على الرواية الإسلامية، ويبين أنها من الإسرائيليات الباطلة المكذوبة، وتارةً لا يذكرها بل يشير إليها، ويبيِّن رأيه فيها، وقد نوَّه على وجود هذه الإسرائيليات في مقدمة تفسيره، فقال: «تُذكر للاستشهاد لا للاعتضاد».

الأحكام الفقهية: يتعرض ابن كثير عند تفسير آيات الأحكام إلى بيان الأحكام الشرعية، ويستطرد في ذكر أقوال العلماء وأدلتهم، ويخوض في المذاهب ويعرض أدلتهم.

الشواهد اللغوية والشعرية: اعتمد على اللغة العربية في فهم القرآن، وفيأخذ في الاعتبار مقتضى الألفاظ، وأساليب اللغة، ودلالات الألفاظ، وشواهد الشعر التي تدل على المعنى، وتوضِّح المراد.

الأعلام والرجال: حرص على ذكر الأعلام الذين نُقِلت عنهم الآراء، فذكر العديد من أسماء العلماء وأعلام الرجال.

الاقتباس: اعتمد على من سبقه من المفسرين، وينقل عنهم، ويُصرح بذلك؛ ومنهم ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن عطية، وأقوال ابن تيمية.

العناية بالأحاديث: الحديث النبوي من أهم مصادر ابن كثير في التفسير، حيثاعتني بالأحاديث، فكان يستعين بها في تفسير بها القرآن، فكان:

  • يذكر الحديث بسنده.
  • يذكر حكمه على الحديث في الغالب.
  • ترجيح ما يرى أنه الحق، دون التعصب لرأي أو تقليد بغير دليل.
  • يحشد الأحاديث الكثيرة في تفسير الآية الواحدة، حيث تُقدر الأحاديث المذكورة في تفسيره بآلاف الأحاديث.

المناقشات الفقهية:يلاحظ على ابن كثير أنه يدخل في المناقشات الفقهية ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم عندما يشرح آية من آيات الأحكام، فيُبِيّن على موقفه من آيات الأحكام، وينقل أقوال أهل العلم، مشفوعة بأدلة كل منهم، ثم يُرجِّح من أقوالهم ما يرى أن الدليل يدعمه، أو أن السياق يؤيده.

مكانة تفسير ابن كثير

يُعَد تفسير ابن كثير من أشهر الكتب الإسلامية المختصة بعلم تفسير القرآن الكريم، وخاصةً التفسير بالمأثور أو تفسير القرآن بالقرآن، ويضعه البعض بعد تفسير الطبري في المنزلة، ويفضله آخرون عليه، وشهرته تعقب شهرة تفسير الطبري عند المتأخرين.

قال السيوطي: “وله (أي ابن كثير) التفسير الذي لم يؤلف على نمطه مثله.” وقال الشوكاني: “وله التفسير المشهور وهو في مجلدات وقد جمع في فأوعى ونقل المذاهب والأخبار والآثار، وتكلم بأحسن الكلام وأنفسه، وهو من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها.” و قال أحمد محمد شاكر: “وبعد فإن تفسير الحافظ ابن كثير أحسن التفاسير التي رأينا، وأجودها وأدقها بعد تفسير إمام المفسرين أبي جعفر الطبري.” وقال محمد بن جعفر الكتاني: “إنه مشحون بالأحاديث والآثار بأسانيد مخرجيها مع الكلام عليها صحةً وضعفًا.” وقال عبد العزيز بن باز: “تفسير ابن كثير تفسير عظيم، تفسير سلفي على طريقة أهل السنة والجماعة، وإن كان العناية بالأحاديث وطريقها، وعزوها إلى مخرجيها، فلا أعلم له نظيرًا”.

وفاته

توفي اسماعيل بن كثير في يوم الخميس 26 شعبان سنة 774 هـ في دمشق عن أربع وسبعين سنة وكان قد فقد بصره في آخر حياته، وقد ذكر ابن ناصر الدين أنه “كانت له جنازة حافلة مشهودة، ودفن بوصية منه في تربة شيخ الإسلام ابن تيمية بمقبرة الصوفية.