إن أهمية التفسير تتمثل في فهم كتاب الله جل وعلا المنزل على نبيه – صلى الله عليه وسلم – وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحِكَمِهِ، وأما غايته فهي كشف معاني القرآن وبيان المراد منه.

وقد بدأ تدوين التفسير في أواخر العصر الأمويّ وأوائل العصر العباسيّ إذ انتشر التدوين بصورة واسعة، وعني العرب بتدوين كلّ ما يتّصل بدينهم الحنيف، فقد تأسّست في كلّ بلدة إسلامية مدرسة دينية عنيت بتفسير الذّكر الحكيم، ورواية الحديث النبويّ الشريف، وتلقين الناس الفقه وشؤون التشريع، وكان كثير من المتعلّمين في هذه المدارس يحرصون على تدوين ما يسمعونه …

وقد اختلف في أوّل من ألّف تفسيرا «مكتوبا»، فبعضهم يذكر أن عبد الملك بن جريج هو أوّل من ألّف تفسيرا مكتوبا.[1]

وذكر ابن النّديم: أن «الفرّاء» هو أوّل من ألّف تفسيرا للقرآن مدوّنا.[2]

ولكن ابن حجر يذكر أن التفسير المدوّن كان قبل الفرّاء وقبل ابن جريج إذ يقول:

«وكان عبد الملك بن مروان (ت: 86 هـ) سأل سعيد بن جبير (ت: 95 هـ) أن يكتب إليه بتفسير القرآن فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن دينار في الديوان فأخذه فأرسله، عن سعيد بن جبير.

ويبدو أنه من الصّعب تحديد أوّل من فسّر القرآن تفسيرا مدوّنا على تتابع آياته وسوره كما في المصحف.[3]

وظل الخلف يحمل رسالة السّلف جيلا بعد جيل، حتّى وصلت مسيرة التفسير إلى تابعي التابعين، وهنا تعدّدت اتجاهات التفسير إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية هي:

أوّلا- الاتّجاه الأثريّ (التّفسير بالمأثور):

والمأثور: اسم مفعول من أثرت الحديث أثرا: نقلته، والأثر: اسم منه، وحديث مأثور، أي: منقول.

وعلى ذلك، فهو يشمل المنقول عن الله تبارك وتعالى- في القرآن الكريم، والمنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمنقول عن الصّحابة، والمنقول عن التّابعين.

وجلّ الذين يكتبون عن تاريخ التفسير ويتحدّثون عن الاتجاه الأثريّ يبدؤونه بالطبريّ.[4]

ثانيا- الاتّجاه اللّغويّ:

وقد بدا هذا الاتجاه واضحا في أواخر القرن الثاني الهجريّ وأوائل القرن الثّالث إذ نشأ علم النّحو، ونضجت علوم اللغة على أيدي الرّوّاد أمثال أبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، والخليل بن أحمد الفراهيديّ، وغيرهم.

وكان الغرض الأسمى من تأصيل هذه العلوم وتقعيدها خدمة القرآن الكريم صيانة له من اللّحن، ولا سيما بعد اتصال العرب بالعجم.

ثالثا – الاتّجاه البيانيّ:

وبذور هذا الاتجاه نجدها في تفسير ابن عبّاس المبثوث في ثنايا التفسير الأثريّ.

ونهج تلاميذ ابن عبّاس نهجه، وكان أكثرهم نتاجا في هذا الاتجاه «مجاهدا»، وأما تأصيل هذا الاتجاه فقد كان على يد «أبي عبيدة» صاحب «مجاز القرآن» ويعدّ صاحب الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. فوضع بذلك اللّبنة الأولى في صرح الدراسات البلاغيّة للقرآن.[5]

ويعتبر تفسير ابن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها، كما يعتبر المرجع الأول عند المفسِّرين الذين عنوا بالتفسير النقلي، وإن كان في الوقت نفسه يُعتبر مرجعاً غير قليل الأهمية من مراجع التفسير العقلي، نظراً لما فيه من الاستنباط، وتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، ترجيحاً يعتمد على النظر العقلي، والبحث الحر الدقيق.

ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءاً من الحجم الكبير.

ولو أننا تتبعنا ما قاله العلماء في تفسير ابن جرير، لوجدنا أن الباحثين في الشرق والغرب قد أجمعوا الحكم على عظيم قيمته، واتفقوا على أنه مرجع لا غِنَى عنه لطالب التفسير؛ ويظهر مما بأيدينا من المراجع، أن هذا التفسير كان أوسع مما هو عليه اليوم، اختصره مؤلفه إلى هذا القدر الذي هو عليه الآن، كما أن كتابه في التاريخ ظفر بمثل هذا البسط والاختصار، فابن السبكي يذكر في طبقاته الكبرى:

 “أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟، فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا ربما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟، قالوا: كم قدره؟، فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنَّا لله، ماتت الهمم.. فاختصره في نحو ما اختصر التفسير”.[6]

وقد اعتبر ابن جرير الاستعمالات اللغوية بجانب النقول المأثورة وجعلها مرجعاً موثوقاً به عند تفسيره للعبارات المشكوك فيها، وترجيح بعض الأقوال على بعض.[7]

فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية [40] من سورة هود: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}. الآية – نراه يعرض لذكر الروايات عن السَلَف في معنى لفظ “التنور”، فيروي لنا قول مَنْ قال: إن التنور عبارة عن وجه الأرض، وقول مَنْ قال: إنه عبارة عن تنوير الصبح.. ثم يقول بعد أن يفرغ من هذا كله: وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله: (التنور)، قول من قال: “هو التنور الذي يخبز فيه”، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم حجَّة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها.[8]


تفسير القرآن الكريم

[1] ـ تفسير الثعالبي = الجواهر الحسان في تفسير القرآن / دار 1. 1 / 1 / 82.

[2] ـ ابن النديم / الفهرست / 1 / 91.

[3] ـ ابن حجر العسقلاني / تهذيب التهذيب / / 7 / 198.

[4]  ـ تفسير الثعالبي = الجواهر الحسان في تفسير القرآن / 1 / 84.

[5]  ـ المصدر السابق = الجواهر الحسان في تفسير القرآن / 1 / 89.

[6] ـ تقي الدين السبكي / طبقات الشافعية الكبرى للسبكي / 3 / 123.

[7] ـ الدكتور محمد السيد حسين الذهبي ( المتوفى : 1398 م ) / التفسير والمفسرون  / مكتبة وهبة / القاهرة / / 1 / 156 .

[8]  ـ ابن جرير الطبري / تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر  / 15 / 321 .