لما أردت كتابة مقالات في بعض أنواع المعاملات المالية ولا سيما المعاصرة منها خطر ببالي أنه يجدر بي قبل ذلك أن أقف مع مفهوم المعاملات المالية أولا، لكي يكون التصور لدى القارئ تاما، والمعلومة مكتملة.

ولذا خصصت المقالات الأولى لمفهوم المعاملات المالية وتقسيماتها وبعض القواعد الناظمة لها وغير ذلك مما يكون كالتوطئة والتمهيد للحديث عن بعض أنواع تلك المعاملات.

إن المعاملة من صيغتها التفاعلية تقتضي المشاركة والتفاعل بين طرفين فأكثر غالبا*. والطرفان، هما العاقدان، ويسميان: البائع والمشتري في باب المعاوضات، والمحيل والمحال عليه في باب الحوالة، والواهب والموهوب له في باب الهبة، والراهن والمرتهن في باب الرهن، والمقرض والمقترض في باب القرض، والمضارِب والمضارَب في باب المضاربة، وهكذا، فالعاقدان هما طرفا المعاملة، والمعاملة هي عين العقد الذي يتم بينهما من بيع أو شراء أو هبة أو وقف وهكذا .

و المالية: نسبة إلى المال، وهو في اللغة ما يقتنى ويملك من جميع الأشياء: قال في لسان العرب: ( المال معروف ما ملكته من جميع الأشياء، ومال الرجل يمول مولا ومؤولا إذا صار ذا مال، وتصغيره مويل)([1]).

واشتقاقه من الميل لأن طباع الناس تميل إليه ويميلها، ولهذا سمي مالا([2]).

أما المال اصطلاحا: فقد اختلفت تعريفات الفقهاء والباحثين فيه؛ نظرا لاختلاف وجهات نظرهم في المعاني الاصطلاحية المرادة منه، واختلاف المأخذ والوجهة التي عرفوه منها، فمنهم من عرفه بصفته، ومنهم من عرفه بوظيفته، ومنهم من عرفه بحكمه . .  إلا أن المؤثر الرئيس في اختلافهم والذي كان له أثر حقيقي على الفروع، هو اختلاف الأعراف فيما يعد مالا وما لا يعد، وذلك أنه ليس له حد في اللغة ولا في الشرع، فحكم فيه العرف([3])  وهذه أهم تعريفاتهم له :

أولا: تعريف الحنفية: وقد قالوا: (هو اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به، ولكن باعتبار وصف التمول، والتمول صيانة الشيء وادخاره لوقت الحاجة، أو ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة )([4]).

ثانيا: تعريف المالكية: قال الشاطبي رحمه الله: ( المال ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه )([5]).

وبعض المالكية يضيف الأيلولة وهي اعتبار ما يؤول إلى المالية فيعد مالا من حيث أحكامه، جاء في حاشية الصاوي على الشرح الصغير بتصرف: ( وَلِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا آيِلٍ لَهُ – أي للمال -كالشفعة وجرح الخطأ والكتابة وادعاء النكاح بعد الموت ونحوه فكله يؤال إلى المالية فيثبت بشاهد وامرأتين)([6]).

والشاهد إلحاق ما يؤول إلى المالية بالمال في أحكامه ولذا لابد من مراعاة ذلك عند تعريف المال.

ثالثا: تعريف الشافعية: نقل السيوطي رحمه الله عن الإمام الشافعي أنه قال: (لا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه وإن قلت، وما لا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك)([7]).

رابعا: تعريف الحنابلة للمال: جاء في الإقناع من كتب الحنابلة: (هو ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة)([8]).

والمتأمل في هذه التعريفات يجد أنها تتمايز إلى مسالك ثلاثة هي:

مسلك الحنفية: ويقتضي عدم اعتبار المنافع مالاً لأنها لا تدخر.

مسلك الشافعية والحنابلة: ويشمل مصطلح المال عندهم الأعيان والمنافع.

مسلك المالكية: ويشمل مصطلح المالية عندهم بالإضافة إلى الأعيان والمنافع (الأيلولة أي اعتبار مالية ما يؤول إلى المال في جواز الاعتياض عنه، ولقد أشار إليها المالكية في باب الشهادات باعتبار أنما يؤول إلى المال بوجه من الوجوه كالمال في نصاب الشهود ومثلوا لذلك بجرح الخطإ والشفعة والجراح التي لا قصاص فيها “ولما ليس بمال ولا آئل له” كما قال خليل..ولكنهم كانوا أصرح في اعتبار بعض الحقوق قابلة للعوض كتنازل الضرة عن نوبتها بعوض …

ولهذا فإنَّ مجال المالية يمكن أن يوسع بنظرة مقاصدية تعتمد مذهب مالك، ويمكن أن تحل الإشكالات في العقود الحديثة؛ لتجيز الاعتياض عن فعل، أو امتناع عن فعل لصالح جهة ما وبخاصة في الخيارات)([9]).

ولعل تعريف المالكية هو الأقرب؛ لتناوله الأعيان والمنافع والحقوق وما يؤول إلى المالية ولو لم يكن مالا بذاته، ولنظرته المقاصدية التي قد تسهم في علاج كثير من المشاكل الشائكة في العقود الحديثة لتجيز الاعتياض عن فعل أو امتناع عن فعل لصالح جهة ما وبخاصة في مجال الخيارات في البورصة الدولية، كما يحفظ الحقوق المعنوية التي لها قيمة مادية كحقوق الابتكار والحقوق الذهنية مثل برامج الكمبيوتر والكتب وغير ذلك.

ويمكن صياغة تعريف جامع لما ذهب إليه أصحاب المسلكين الثاني والثالث فنقول:

(المال هو ما كانت له قيمة عرفا حالا أو مآلا وجاز الانتفاع به اختيارا لا اضطرارا. ) وهذا التعريف قريب مما جاء في معجم لغة الفقهاء من تعريف المال بأنه: ( كل ما يمكن الانتفاع به مما أباح الشرع الانتفاع به في غير حالات الضرورة) ([10]) لكن فيه زيادة الأيلولة التي أضافها المالكية.

وبعد أن عرفنا مفهوم المعاملات والمال باعتبار الإفراد، لا بد أن نعرف مصطلح المعاملات المالية باعتباره علما:

ومن خلال ما ذكر في معنى مفردتي هذا المصطلح يمكن تعريفه باعتباره علما لباب من أبواب الفقه بأنه :علم ينظم تبادل الأموال والمنافع بين الناس بواسطة العقود والالتزامات.

لكن يلاحظ على هذا التعريف تناوله للأحكام فقط بينما يطلق مصطلح المعاملات المالية أحيانا على ذات الفعل الذي يقع فيه التعامل بين الناس كما يطلق على الأحكام المتعلقة بتلك الأفعال المشتركة ([11])من عقود وشروط وخيارات وغيرها.

ولذا لو قلنا في تعريف هذا المصطلح بأنه: الأحكام والأفعال المتعلقة بتصرفات الناس في شؤونهم المالية.. لكان أجمع لشموله للمعنين اللذين يأتي لهما ويطلق عليهما


* قيد يخرج نحو سافر فهي على صيغة :فاعل ومسافر: مفاعل لكنها لا تدل على المشاركة.

([1]) لسان العرب لابن منظور مادة: (مول)، ج2ص887.

 ([2]) انظر قواطع الأدلة للسمعاني بتحقيق: محمد حسن محمد حسن اسماعيل الشافعي ، ج2ص404.

([3]) معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء للدكتور نزيه حماد، ص 293، 294.

([4]) البحر الرائق لابن نجيم  ج5ص277.

([5]) الموافقات ج2 ص17.

([6]) الصاوي على الشرح الصغير، ج9 ص436، ونقلته بتصرف.

([7]) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص:327.

([8]) الإقناع للحجاوي، ج2/ص156.

([9]) المعاملات والمقاصد للدكتور عبد الله بن بيه، ص2. بحث مقدم للدورة الثامنة عشرة للمجلس الأوربي للإفتاء- باريس -يوليو 2008 م.

([10]) معجم لغة الفقهاء لمحمد رواس قلعجي، ص: 366، 367.

([11]) انظر المعاملات في الإسلام للدكتور عبد الستار فتح الله سعيد ص11.