للضحك والفكاهة في التراث العربي تاريخ حافل منذ ما قبل الإسلام؛ ذلك أن الضحك والبكاء صنوان قد غُرسا في أعماق الإنسان، وقد أجلى القرآن الكريم هذه الحقيقة حين بيّن أنها من دلائل عظمة الخالق جلّ وعلا؛ إذ قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}. وقد قال الجاحظ (ت 255هـ/869م) –في كتابه ‘البخلاء‘- معلّقا على هذه الآية الكريمة بذكائه المعهود: “فوضع الضحك بحذاء الحياة، ووضع البكاء بحذاء الموت”؛ فكأنما الضحك حياة، والبكاء موت.

فالضحك عنوان الحياة، وقد أشار كثير من الفلاسفة لهذه الحقيقة عندما عرّف بعضهم الإنسان بأنه “حيوان يضحكُ ويُضحِكُ معًا”؛ فكيف عبّر المسلمون عن طبائع الضحك والفكاهة لديهم حتى صارت “صنعة” مجتمعية؟ وكيف تنوّع تراثهم في المضاحك إلى الحد الذي يمكن وصفه بالمذهل؟ وكيف رأى مؤرخو الثقافة المجتمعية هذه الظاهرة فدّونوا عنها؟ ذلك ما سنقف معه في هذا المقال.

ظاهرة مخضرمة

تزخرُ المعاجم العربية بمادة غزيرة عن الفكاهة والضحك بمفردات تحيل معانيها على طيب النفس والمزاح؛ وقد نضح تراث العرب في جاهليتهم بمشاهد الفكاهة والضحك، ومن ذلك ما أورده الدميري (ت 808هـ/1406م) -في كتابه ‘حياة الحيوان الكبرى‘- من أن قبيلة مُزَينة أسرت ثابتًا والد الصحابي حسَّان بن ثابت الأنصاري (ت 54هـ/675م)، “وقالوا لا نأخذُ فداءَه إلا تيسًا! فغضب قومه، وقالوا: لا نفعل هذا؛ فأرسلَ إليهم: أعطوهم ما طلبوا. فلما جاؤوا بالتيس، قال: أعطوهم أخاهم وخذوا أخاكم؛ فسُمّوا مُزينة التيس، وصار لهم لقبا وعيبًا”.

وإذا كانت معاني الضحك والتندر والفكاهة في عصر الجاهلية قد دارت حول سياقها المعرفي والثقافي المهيمن آنذاك الذي اشتُهر بالحط من المخالف؛ فإن عصر الإسلام جاء ليصحّح تلك المفاهيم، ويضع الضحك والفكاهة والمزاح في إطار أخلاقي منضبط. وقد ثبت أن النبي كان يُمازحُ أصحابه، حتى إن بعضهم استغرب من ذلك متسائلاً: يا رسول الله، إنّكَ تُداعبنا! قال: “إنِّي لا أقولُ إلا حقّا” (سنن الترمذي).

وقد اتكأ الصحابة على هذا المثال النبوي؛ فعُرفت منهم مواقف الضحك والتضاحك والتفكّه، حتى إن البخاري (ت 256هـ/870م) -في ‘الأدب المفرد‘- يروي عن التابعي بكر بن عبد الله المزني (ت 108هـ/727م) أنه “كان أصحاب (ص) يتبادحُون (= يتقاذفون) بالبطِّيخ؛ فإذا كانت الحقائقُ (= الجِدّ والمسؤولية) كانوا هم الرِّجال.

واشتهر بعض الصحابة بالمضاحك مثل النُّعيْمان بن عمرو الأنصاري الذي ترجم له ابن حجر (ت 852هـ/1448م) -في كتابه ‘الإصابة‘- ذاكرا قصصا من فكاهته، ومنها أنه “كان لا يدخل المدينة طُرْفة إلا اشترى منها ثم جاء بها الى النبي (ص) فيقول: هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب النعيمان بثمنها أحضره إلى النبي (ص) وقال: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: أوَلمْ تهده لي؟ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك [النبي ص] ويأمر لصاحبه بثمنه”!!

ثم إن عصرًا جديدًا تشكل في زمن الأمويين فخفّ فيه التمسك بأهداب الدين وأخلاقه وتفشت مظاهر المدنية حتى تجلت مظاهر الفكاهة في طبقات المجتمع كافة: من الساسة ورجال الحكم إلى القبائل والأفراد؛ ففي عهدهم يُروى –فيما حكاه ابن عبد ربه (ت 328هـ/940م) في ‘العقد الفريد‘- أنه اختصم إلى والي العراق زياد بن أبيه (ت 53هـ/674م) بنو راسب وبنو طفاوة في غلام ادّعوه، “وأقاموا جميعا البيّنة عند زياد؛ فأشكل على زيادٍ أمرَه.

فقال سعد الرابية من بني عمرو بن يربوع: أصلح اللَّه الأمير، قد تبيَّن لي في هذا الغلام القضاء؛ ولقد شهدتُ البينة لبني راسب والطفاوة، فولِّني الحُكم بينهما. قال: وما عندك في ذلك؟ قال: أرى أن يُلقى في النهر، فإن رسَب فهو لبني راسب، وإن طفَا فهو لبني الطفاوة. فأخذ زياد نعليه وقام وقد غلبه الضحك، ثم أرسل إليه: إني أنهاك عن المزاح في مجلسي. قال: أصلح اللَّه الأمير، حضرني أمر خفتُ أن أنساه؛ فضحك زياد” رغم ما كان يتصف به من شدة ومهابة، فقد كان “زياد أفتك من الحجاج لمن يخالف هواه”؛ وفقا لما يرويه الحافظ الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘.

وفي كتب التراث حكايات كثيرة شعرا ونثرا تتجلى فيها مظاهر الفكاهة في المجتمع الأموي، وقد شملت كافة طبقات هذا المجتمع من القضاة والعلماء والشعراء وغيرهم، ونحن ننقل لك نموذجا منها مما رواه ابن عبد ربه في ‘العقد الفريد‘. فقد ظهر لنا في هذا العصر ظرف الإمام الفقيه المحدّث الشَّعبي (ت 109هـ/728م) الذي كان يستخدم أسلوب التغافل الفكِه، وعُرف عنه المزاح فكان كثير السخرية من الحمقى.

ودخل يوما رجل أحمق على الشعبي وهو جالس مع امرأته في بيته فقال: “أيكم الشَّعبي؟ فقال الشعبي: هذه! وأشار إلى زوجته؛ فقال: ما تقول -أصلحك الله- في رجل شتمني أول يوم في رمضان، هل يُؤجر؟ قال: إن قال لك يا أحمق، فإني أرجو له”!! وقال له رجل آخر: “كيف تُسمَّى امرأة إبليس؟ قال: ذاك نكاحٌ ما شهدناه”!

تأنق حضاري

أما أشعب بن جبير (ت 154هـ/772م) –وهو مولى عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/790م)- فقد اشتُهر بالطمع ومواقفه شديدة السخرية والضحك، وكان رجلا محسوبًا على جيل التابعين، إلا أنه عُوتب في ذلك لندرة ما أخذه من الحديث عن جيل الصحابة؛ فقال مدافعًا عن نفسه: إنه يحفظُ حديثًا واحدًا، فقالوا: حدّثنا به، فقال: “حدَّثني نافع عن ابن عمر عن رسول الله قال: مَن كان فيه خصلتان كُتب عند الله خالصًا مُخلصًا. قالوا: إنّ هذا حديث حسن، فما هاتان الخصلتان؟ قال: نسي نافع واحدة، ونسيتُ أنا الأخرى”!!

ومن مواقف طمع أشعب المضحكة أنه “وقف على امرأة تعملُ طبق خوصٍ، فقال: لَتُكبّريه، فقالت: لِـمَ؟ أتريدُ أن تشتريه! قال: لا، ولكن عسى أن يشتريه إنسانٌ فيُهدى إليَّ فيه؛ فيكون كبيرًا خيرًا من أن يكون صغيرًا. ويحكي المفضل الضبي (ت 291هـ/904م) -في كتابه ‘الفاخر في الأمثال‘- أن أشعب اجتمع به غلمان المدينة يومًا يؤذونه “فقال لهم: إن في دار بني فلان عُرْسًا فانْطَلِقوا إليه فهو أنفع لكم. فانطلق الغلمان وتركوه. فلما مَضوا، قال: لعلّ ما قلتُ لهم من ذلك حق، فمَضى في إثرهم نحو الموضع الذي وصفه للغلمان فلم يجد شيئا، وظفر به الغلمان هناك فآذوْه”!

وتكثر أخبار الأعراب القادمين من عُمق الصحراء بمواقف غير مصطنعة تنبئنا أن الفكاهة كانت متأصلة في النفوس والمجتمعات العربية قريبة العهد بالإسلام آنذاك؛ فهذا أعرابي مَنَّ الله عليه بحفظ القرآن، بيد أنه استطاع أن يوظفه لغرض آخر، فقد أقبل على رجلٍ “وبين يديْ الرجل طبقٌ فيه تينٌ، فلما أبصرَ الأعرابيَّ غطّى التينَ بكساء كان عليه، والأعرابي يُلاحظه.. فجلس بين يديه، فقال له الرجل: هل تُحسن من القرآن شيئًا؟ قال: نعم؛ قال: فاقرأ؛ فقرأ الأعرابي: {والزيتون وطُورِ سِينين}، قال الرجل: فأين التين؟! قال: تحت كسائك”!!

ويروي أبو سعد الآبي الرازي (ت 421هـ/1031م) -في ‘نثر الدر‘- أنه قُدّم طعام رديء اسمه “الكامَخ” (= إدامُ الخبز) لأعرابي فلم يستطبه، وقال ما هذا؟! قالوا: كامَخ. قال: ومن أي شيء صُنع؟ قالوا: من الحنطة واللبن؛ قال: أبوان كريمان فانظر ماذا أنجبا! ودخل أعرابي آخر المسجد والإمام في الصلاة يقرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}، فقال الأعرابي: والكامَخ، لا تنسه أصلحك الله!!

ويُحكى أن أعرابياً ولي البحرين –وهي آنذاك تعني معظم الساحل الشرقي لجزيرة العرب- فجمع يهودها وقال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ قالوا: نحنُ قتلناه وصلبناه. قال: فوالله لا تخرجون حتى تُؤدّوا ديته، فأخذها منهم. ويحكي التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) -في ‘الإمتاع والمؤانسة‘- أن بعض العُقلاء سأل أعرابيا: “أتُريد أن تُصلَبَ في مصلحة الأمّة؟ فقال: لا، ولكني أُحبّ أن تُصلَبَ الأمّة في مصلحتي”!

ومع مجيء عصر العباسيين (132–656هـ/750-1258م)؛ تعمق الاندماج بين المسلمين بأعراقهم المختلفة، وبرزت ظواهر اجتماعية ودينية وأخلاقية جديدة، واختلفت أساليب الحياة الاقتصادية، انتشر الترف ورغد العيش والتنعّم لدى الأمراء والوزراء ومن هم في طبقتهم، وكثرت مجالس اللهو والغناء والتأنق في المُلهِيات؛ مما أدى إلى جرأة الأدباء والشعراء وعامة الناس على الولوج إلى ميدان الفكاهة والضحك، فأصبحت الفكاهة “صناعة ترفيه” قائمة على أصول وأدبيات، حتى ذكر قاضي القضاة الحنبلي نجم الدين المقدسي (ت 689هـ/1290م) -في ‘مختصر منهاج القاصدين‘- مسألة “اللعب والهزل.. بما يضحك الناس به”، وقال “إن بعض الناس يكون كسبه من هذا”.

رصد مبكر

ويبدو أن المجتمع العباسي قد تقبّل هذه النكات بصدر رحب، حتى إن التوحيدي يدعو إليه قائلاً في ‘البصائر والذخائر‘: “إياك أن تعافَ سماع هذه الأشياء المضروبة بالهزل، الجارية على السَّخف، فإنّك لو أضربتَ عنها جُملة لنَقَص فهمُك، وتبلّد طبعُك..؛ فإنك ما لم تُذِق نفسَك فرحَ الهزل كربَها غمُّ الجِدّ، وقد طُبعت في أصل تركيبها على الترجيح بين الأمور المتفاوتة”. ثم إنه يقدم لنا وجهة نظر فلسفية تندرج فيما يسمى اليوم علم الاجتماع السياسي؛ فيقول إن الناس “لا بد لهم -في الدهر الصالح، والزمان المعتدل..، والخير المتصل- من فكاهة وطيب..، فإن أغضى الملكُ بصرَه على هذا القسم عاش محبوبا، وإن تنكّر لهم فقد جعلهم أعداء”.

يأتي الجاحظ ذروة للأدب والأديب الساخر في عصر العباسيين، ويلاحظ الباحث أحمد عبد الغفار عبيد -في ‘أدب الفكاهة عند الجاحظ‘- أنه “كان يستخدم الإطار الفكاهي ليوجّه نقداته الهادفة، وسُخرياته المرّة إلى الأدواء الاجتماعية، والنقائص الأخلاقية التي يراها فاشية في الناس من حوله”.

وقد انتقد الجاحظ -بأسلوبه الممزوج بالسخرية ولغته الجزلة العذبة- أدواءً اجتماعية مثل الكذب والبخل وعجائب الظواهر الاجتماعية التي رآها في الشعوب؛ فتناول مثلا ظاهرة القُصَّاص والوعّاظ ممن لم يحصّلوا علمًا حقيقيًا وأوهموا العامة في زمنه بأنهم علماء لا يُشق لهم غبار، وكانت تصدر منهم أفعال وأقوال على قدر كبير من الغرابة والفكاهة.

ومن هؤلاء أبو كعب القاصّ الذي كان يحكي ما في جُعبته بمسجد عتّاب ببغداد القديمة كل أربعاء، “فاحتبس عليهم في بعض الأيام وطال انتظارهم له. فبينما هم كذلك إذ جاء رسوله فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا فإني قد أصبحتُ اليوم مخمورًا”! ويروي ابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) -في ‘أخبار الحمقى والمغفلين‘- أن أبا كعب هذا قال مرة في قصصه: “كان اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا وكذا؛ فقالوا له: إن يوسف لم يأكله الذئب! قال: فهو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف!”.

ويكشف لنا الجاحظُ –في كتابه ‘الحيوان‘- أن إيراده الضحك والفكاهة أمر مقصود في مؤلفاته لتنشيط القارئ وإبهاجه، “فربّ شِعر يبلغُ -بفرط غباوة صاحبه- من السرور والضحك والاستطراف ما لا يبلغه حشدُ أحرّ النوادر وأجمع المعاني”! وجعل الجاحظ ‘رسالة التربيع والتدوير‘ نموذجًا فذّا في الفكاهة القائمة على التهكم والسخرية؛ حين ألقى بسهام نقده نحو رجل كان معاصرًا له ويُدعى أحمد بن عبد الوهاب؛ فسخر فيها من شكله وخِلقته، ومن ثقافته الضحلة وجهله.

ثم هو يسخرُ من جهل بعض أعراب زمنه بالنحو؛ فقد نقل –في ‘البيان والتبيين‘- أن الربيع بن عبد الرحمن السّلمي –لعله الواعظ المعتزلي تلميذ الحسن البصري (ت 110هـ/729م)- سأل أعرابيًا: “أتـَـهْمِزُ إسرائيلَ؟ قال: إنّي إذا لرجل سوء؟ قلت: أتـَـجُرُّ فلسطينَ؟ قال: إنّي إذا لقويّ”!!

قوالب جديدة

كما يقفُ الجاحظ -بذكائه وألمعيته- مع مضاحك طائفة البخلاء في المجتمع العباسي، ويبدأ بأكثر الناس بخلاً في زمنه -كما رآهم الناس- وهم أهل مدينة مرو خاصة ومنطقة خراسان عامة؛ فيقول في كتابه ‘البخلاء‘: “قال أصحابنا: يقول المروزي للزائر إذا أتاه وللجليس إذا طال جلوسه: تغدّيت اليوم؟ فإن قال نعم، قال: لولا أنك تغدّيتَ لغدّيتُك بغداءٍ طيبٍ؛ وإن قال: لا، قال: لو كنتَ تغديتَ لسقيتُك خمسةَ أقداح؛ فلا يصيرُ في يده على الوجهين قليل ولا كثير”!!

ولئن أوتي هؤلاء الأدباء وبعض الفقهاء والمؤرخين قدرة على التدوين وجمع أخبار الضحك والفكاهة، فإن غيرهم أوتوا ملكة رسم مشاهد كوميدية بصورة تشخيصية فذّة، جمعت عددًا من الأبطال في موقف واحد، مثل أولئك الذين نراهم في مسارح وأفلام هذه الأيام.

فإذا كان الأديب الفارسي عبد الله بن المقفّع (ت 142هـ/760م) أول رائد -في لغة الضاد- لهذا اللون الأدبي بترجمته لكتاب ‘كليلة ودمنة‘، الذي أورد جامعه على لسان أبطال قصصه من الحيوانات صنوفًا من الحكمة والأدب؛ فإن ذروة الكوميديا التشخيصية وُلدت مع ميلاد فن المقامات على يد بديع الزمان الهمذاني (ت 398هـ/1009م)، ثم من بعده الحريري البصْريّ (ت 516هـ/1122م).

تمتاز أغلبية هذه المقامات بالفكاهة والطرافة، مثل ‘المقامة الحمدانية‘ التي يصور فيها الهمذاني مساجلة عقدها سيفُ الدولة الحمداني (ت 356هـ/967م) لوصف فرس؛ وكذا ‘المقامة المارستانية‘ التي صوّر فيها رجلاً مجنونًا يُنزل غضبه على فرقة المعتزلة؛ و‘المقامة الحلوانية‘ التي قصد فيها بطل مقاماته المتخيَّل عيسى بن هشام حمّامًا للاغتسال والاحتجام، فإذا هو يواجه مواقف شديدة الطرافة بين رجلين تنافسا عليه أو على غسل رأسه وقفاه بالأحرى، ويسرد البطل حكايته مختتما باحتكام الرجلين إلى صاحب الحمام، في مشهد شديد الضحك والسخرية!

وعلى صعيد “ناس الهامش”؛ نرى مواقف لا تحصى من الفكاهة التي شاعت في أرجاء ذلك العصر، وهي فكاهة مرحة كانت بنتَ بيئتها ووقتها وثقافتها الغالبة. فقد روى ابن الجوزي -في ‘أخبار الظراف والمتماجنين‘- أن رجلاً قصد سوق الكوفة ليشتري حمارًا؛ فقال لبائع الحمير: “اطلب لي حماراً لا بالصغير المحتقَر ولا بالكبير المشتهر، إن أقللتُ علفَه صبر، وإن أكثرتُ علفه شكر..، إذا خلا في الطريق تدفَّق، وإذا أكثر الزحام ترفَّق؛ فقال له النخَّاس بعد أن نظر إليه ساعة: دعني، إذا مسخ الله القاضي حماراً اشتريتُه لك”!

واتسعت الدائرة حتى بلغت معلّم الصبيان في الكُتّاب؛ فقد “قال أبو العنبس (الصَّيْمَري المتوفى 275هـ/888م): كان ببغداد معلم يشتم الصبيان، فدخلتُ عليه وشيخ معي، فقلنا: لا يحل لك. فقال: ما أشتمُ إلا من يستحقُّ الشتمَ، فاحضروا حتى تسمعوا ما أنا فيه، فحضرنا يوماً فقرأ صبي: عليها ملائكة غلاظ شداد يعصون الله ما أمرهم ولا يفعلون ما يؤمرون؛ فقالَ: ليس هؤلاء ملائكة ولا أعرابا ولا أكرادا؛ فضحكنا حتى بالَ أحدُنا في سراويله”!!

شخصيات كوميدية

وقد اشتُهرت شخصيات كوميدية في ذلك العصر مثل أبي العيناء وجحا والجمّاز وغيرهم. فقد عاش جُحا –أو “جِحَى: نوح أبو الغصن” حسب الصفدي (ت 764هـ/1363م) في ‘الوافي بالوفيات‘ الذي نسب إلى الجاحظ قوله إن عُمْر جحى “أربى على المئة”- بين القرن الأول والثاني الهجريين، وكان من أشهر أصحاب النوادر والفكاهة الشعبية في ذلك العصر وما تلاه.

وقد روى الدميري في ‘حياة الحيوان‘ أن والي الكوفة موسى بن عيسى الهاشمي (ت 168هـ/784م) مرّ على جحا يومًا وهو يحفر في منطقة صحراوية، فقال له: “ما بالك يا أبا الغصن لأي شيء تحفر؟ فقال: إني دفنتُ في هذه الصحراء دراهم ولستُ أهتدي إلى مكانها. فقال له موسى: كان ينبغي أن تجعلَ عليها علامة، قال: لقد فعلتُ، قال: ماذا؟ قال: سحابةٌ في السماء كانت تُظلّها، ولستُ أدري موضع العلامة الآن”!

لم تقف روح الفكاهة والتدوين الفكاهي الساخر عند حدود العراق، بل تعدتها إلى الأمم والأقوام والبلدان الأخرى؛ ففي دمشق دوّنَ رجالاتها كثيرا من هذه المواقف الساخرة، فيُحكى أن فخر القضاة ابن بُصاقة الغِفَاري (ت 650هـ/1252م) طلب منه التاج عثمان الدمشقي حمارة فاشتراها له، فكتب إليه يشكره على هذا الصنيع قائلا:

اشترى لي فخرُ القُضاة حمارة ** ذاتَ حُسن وبهجةٍ ونضاره

صانَ عِرضي بها وعمَّر داري ** عمّـرَ اللهُ بالحمـــيرِ ديارَه

وفي مصر اشتُهر رجل يُسمى أبو هريرة المصري بسرعة البديهة، وكان يعمل ناسخًا للكتب محبًا للشراب والخمر. ويروي لنا المؤرخ الرقيق القيرواني (ت 417هـ/1027م) -في كتابه ‘قطب السرور في أوصاف الخمور‘- أنه بينما هو عائد يوما إلى بيته من نزهة قُرب “بِرْكَة الحَبَش” -خارج مدينة الفسطاط آنذاك- إذ لقيه فارس على حصانه “لا يُتبيَّن منه غير عينيه، فسلَّم وقال: مِن أين أقبل الشيوخ؟ فقلتُ في نفسي: أَجُنَّ الرجل! ومن الذي يَرى معي؟ والتفتُّ فإذا ذَودٌ (= قطيع) من تيوس يسوقها راعٍ، فقلتُ: حضرنا نكاح الوالدة حفظها الله! فضحك حتى كاد يسقط مِن سرجه، فلما كان بعد أيام يسيرة لقيني الأمير بُكير في موكبه، فقال لبعض غلمانه: ألِحقني بالرجل، فارتعتُ لذلك روعاً شديداً، فلما دخلتُ عليه إذا بين يديه كيس فيه ثلاثة آلاف درهم (= اليوم 4000 دولار أميركي تقريبا)، فقال لي: هذا حقُّ حضور ذاك النكاح. فعلمتُ أنه هو الذي لقيني”.

واللافت أننا نرى بعض الشخصيات في كتب التراث قد وُصفت بـ”المضحك”، وهم فئة من الناس يبدو أنهم اتخذوا الإضحاك صنعة لهم، منهم في العراق أبو علقمة النُّميري الذي كان مضحكًا للناس بمواقفه وكلامه الذي كان يجنح لغريب اللغة غير المستعمل، فقد حكى عنه الحافظ ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) –في ‘تارخ دمشق‘- أنه سأل غُلامه يومًا في البكور: “يا غلام أصقَعت العتاريفُ؟! فقال له الغلام: زقفَيلم! قال أبو علقَمة: وما زقفيلم؟! قال [الغلام]: وما العتاريف؟! قال: الديوك. قال ما صاح منها شيء”!

وللعلماء نصيب

وعرفنا أن ثمة مضحكين آخرين لعموم الناس في بقاع أخرى، كان يتجمع عليهم الناس في الطرقات كما حكى الأُبْشِيهي (ت 852هـ/1448م) في ‘المستطرف في كل فن مستظرف‘- نقلا عن أحد حاشية هارون الرشيد أنه قال: “جئت إلى جانب دجلة فوجدت الناس مجتمعين، فوقفت فرأيت رجلا واقفا يُضحك الناس يقال له ابن المغازلي.

كما كان المضحكون يغشون مجالس كبار القوم فيجتمعون بهم “في حجرة.. مرسومة بالندماء”؛ كما يقول التنوخي (ت 384هـ/973م) في ‘نشوار المحاضرة‘. بل إنهم يرتادون حتى بيوت المغمورين؛ مثل مُضحك المدينة المنورة الذي ضنّت المصادر علينا بذكر اسمه، وكان قد استدعاه رجل هاشمي ليوقعه في فخّه ويضحك عليه في ليله؛ فسقاه شرابًا هيّج عليه أمعاءه، وظل الهاشمي يضحك على صاحبه المُضحِك الذي اضطر إلى قضاء حاجته أمامه؛ كما يروي صاحب ‘العقد الفريد‘.

أما “أدهم المُضحك” فكان رجلاً أسود سريع البديهة متفكّهًا، ويروى لنا الآبي الرازي -في كتابه ‘نثر الدر‘- أن أدهم هذا أُخبِر يومًا أن والي المدينة العباسي أمر بعدم مجيء الناس إلى المساجد والمصليات إلا بملابس سود، وكان لونُ السواد شعارا للعباسيين؛ فقال ببديهته: “أنا أخرج عُريان”! يشير إلى سواد بشرته.

بل إن ظاهرة المفاكهة بالنوادر والمُلح اشتهرت بين عموم الفقهاء والمحدّثين ورجال العلم، وسمّوا ذلك “الإحماض”؛ فقد كان الفقيه أو المحدث يخرج عن نطاق درسه المتسم بالرصانة ليذكر نوادر وفكاهات دفعًا لملل طلبته، وفي ذلك يروي الإمام السخاوي (ت 902هـ/1498م) -في ‘فتح المغيث بشرح ألفية الحديث‘- عن “ابن عباس أنه كان إذا أفاض في القرآن والسُّنن قال لمن عنده: أحمضوا بنا، أي خوضوا في الشعر والأخبار”.

ومن العلماء من كان فكِهًا بطبعه، مثل سُليمان بن مهران المعروف بـ”الأعمش” (ت 148هـ/766م) الذي وصفه الذهبي في ‘السِّير‘ بأنه “شيخ الإسلام شيخ المقرئين والمحدثين”؛ فقد قال –وفقا للذهبي- لطلبته يومًا: “بلغني أن الرجلَ إذا نام حتى يُصبحَ -يعني لم يُصلِّ [الصبح]- تورَّكَه الشيطانُ فبالَ في أُذنه، وأنا أرى أنه قد سلحَ في حلقي الليلة! وذلك أنه كان يسعل”.

بل يُحكى أنه جاء إلى حلْقة درسِه وطلابه ينتظرونه على شغف؛ فقال لهم على البديهة: “لولا أن في منزلي من هو أبغضُ إليَّ منكم ما خرجتُ إليكم”، يقصد زوجته! وجاءه بعض الأضياف يومًا “فأخرجَ إليهم رغيفين فأكلوهما، فدخل فأخرج لهم نصف حبلِ قَتٍّ (= نوع من العُشب)، فوضعه على الخِوان (= سفرة الطعام)، وقال: أكلتُم قُوتَ عيالي، فهذا قوتُ شاتِي فكُلُوه”!! وذكر الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أن شيخ الإسلام المحدّث يزيد بن هارون السُّلَمي (ت 206هـ/821م) “كان صاحب مزاح”، رغم أنه هو الذي كان الخليفة المأمون يخشى جماهيريته حتى إنه لم يجرؤ على إعلان القول بخلق القرآن حتى مات يزيد!!

مهرّجون وخلفاء

لم تخلُ مجالس الخلفاء والسلاطين من الشخصيات الفكِهة المضحكة، حتى إن كثيرًا من الخلفاء والسلاطين والملوك اتخذوا “المُضحك” من جملة مقرّبيهم؛ فمع هؤلاء المضحكين كان الخليفة أو السلطان ينسى هموم السياسة وأثقال الرعية. ويبدو أن مضحكي الخلفاء والسلاطين كانوا جزءًا من حاشية أكبر هم “النّدماء” الذين أوضح كتابُ ‘التاج في أخلاق الملوك‘ -المنسوب للجاحظ- شروطَهم، فذكر منها أنه “ينبغي أن يكون نديم الملك معتدل الطبيعة.. سليم الجوارح والأخلاق.. طيب المفاكهة والمحادثة.. آخذاً من الخير والشر بنصيب.

والحق أن ظاهرة مضحكي الملوك وُجدت قبل مجيء الإسلام وعرفها العرب وغير العرب؛ فقد كان للإسكندر المقدوني (ت 323 ق.م) مُضحك، وكان لملوك الفرس الساسانيين مضحكون أيضًا. وأخبرنا المؤرخ المسعودي (ت 346هـ/955م) -في ‘مروج الذهب‘- أن ملك الفرس سابور (ت 379م) كان له مُضحك اسمه “مرزبان”.

وفي الجزيرة العربية قبل الإسلام وجدنا هذه الظاهرة؛ قال الضبي في ‘الأمثال‘: “كان للنعمان [بن المنذر ملِك الحِيرة (ت 609م)] أخٌ من الرضاعة من أهل هَجَر يقال له سعد القرقرة، وكان من أضحك الناس..، وكان يُضحك النعمان ويعجبه”. وقيل للقرقرة وقد رؤي أثر الثراء عليه من مصاحبته للنعمان: “ما رأيناكَ إلا وأنتَ تزيدُ شحمًا وتقطرُ دمًا؟ فقال: لأني آخذُ ولا أُعطي، وأُخطئ ولا أُلام، فأنا طول الدهر مسرور ضاحك”. وذكر الضبي أيضا شخصية اسمها: العيار بن عبد الله الضبي، وقال: “كان العيار رجلا بطالا يقول الشعر ويُضحك الملوك”.

ويبدو أن هؤلاء المضحكين كانوا على الدوام من أهل الحظوة والقرب والاستفادة من عطاءات الملوك والخلفاء؛ حتى إن بعضهم ترك أموالاً ضخمة من مجالستهم وإضحاكهم بعد وفاتهم، مثل محمود بن الدباغ (ت 614هـ/1217م) مُضحك السلطان العادل أبي بكر بن أيوب (ت 615هـ/1218م) الذي “ترك مالاً جزيلا”؛ كما يذكر المقريزي (ت 845هـ/1441م) في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘.

وقد اشتُهر كثير من هؤلاء المهرجين من مضحكي الخلفاء؛ مثل “عطاء” مُضحك الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م)، وأبو كامل مضحك ابنه الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ/716م)، والغاضري المدني مُضحك يزيد بن الوليد بن عبد الملك (ت 126هـ/744م). وقد روى لنا الإمام الشافعي –حسبما أسنده إليه الحافظ ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘- أن الغاضري هذا أكل عند يزيد فالُوذَجاً (= نوع من الحلوى)، “فقالَ له يزيدُ: لا تُكثر منه فإنه يقتُلك! فقال: منزلي -والله يا أمير المؤمنين- عند زُقاق الجنائز، ما رأيتُ جنازة أحدٍ قتلَه الفالُوذَج!”.

وفي زمن العباسيين؛ يأتي على رأس مضحكي الخلفاء أبو دُلامة زَنْد بن الجَوْن الأسدي الكوفي (ت 161هـ/777م) الذي قرّبه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (ت 158هـ/772م) وابنه الخليفة المهدي (ت 169هـ/785م). وكان أبو دلامة شديد الطرافة مشهورًا بالجبن ودمامة الخِلقة، وكثيرًا ما سخِر من نفسه وزوجته السوداء وأولاده في أشعاره التي أضحكت الخلفاء وحاشيتهم.

وقد أورد المبرّد (ت 285هـ/898م) -في كتابه ‘الكامل‘- أن بنت عم أبي جعفر المنصور ماتت “فحضَر جنازتها وجلس لدفنها، وأقبلَ أبو دلامة الشاعر فقال له المنصور: ويحك ما أعددتَ لهذا اليوم؟ فقال: يا أمير المؤمنين ابنة عمك هذه التي واريتها قُبيل. قال: فضحِك المنصور حتى استغرب. أي حتى تملّكه الضحك.

تجاوز وحدود

وكان للخليفة هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) مُضحك يُسمى ابن أبي مريم المدني، وكان رجلاً “فكِهًا أخباريّاً، فكان الرشيدُ لا يصبر عنه، ولا يملُّ منه لحُسن نوادره ومجونه”؛ كما يذكر الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘. وقد حكى ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في ‘المقدمة‘- أن الرشيد كان يُصلي ذات يوم، ويقرأ قوله تعالى: {وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي}؛ فابتدره مُضحكه ابن أبي مريم من خلفِه قائلا: “والله ما أدري لِـمَ؟ فما تمالك الرّشيد أن ضَحِك، ثمّ التفتَ إليه مُغضبا وقال: يا ابن أبي مريم في الصّلاة أيضا! إيّاك إيّاك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما”!!

كما كان للرشيد مُضحك آخر اسمه المُرتمي، يقول ابن الجوزي –في ‘الظُّرّاف والمُتَماجِنين‘- إنه اشتُهر بالأكل قبل طلوع الشمس “فقيل له: لو انتظرتَ حتى تطلُع الشمس! فقال: لعنني اللهُ إن انتظرتُ غائباً من وراء سمرقند (مدينة تقع اليوم في أوزبكستان) لا أدري ما يحدثُ عليه في الطريق”؛ فهو يرى أن الشمس قد تتأخر في الطلوع أو قد لا تطلع!

أما الخليفة المأمون (ت 218هـ/833م) فقد أحبَّ هذه الشخصيات المازحة غير الآبهة بالحياة والناس، ومن هؤلاء رجل بغدادي اسمه ثمامة اشتُهر بالعربدة والفكاهة. ويروي لنا المعافى بن زكريا الجَرِيري (ت 390هـ/1001م) في ‘الجليس الصالح‘- أن ثمامة هذا خرج ذات يوم قرب المغرب سكران، وإذا هو بالخليفة المأمون في جماعة من حاشيته، “فلما رآه ثُمامة عدَل عن طريقه، وبصُر به المأمونُ فضربَ كفَلَ دابّته وحاذاه، فوقفَ ثُمامة، فقال له المأمون: ثُمامة؟! قال: إي والله، قال: سكران؟! قال: لا والله؛ قال: أفتعرفُني؟! قال: إي والله؛ قال: من أنا؟ قال: لا أدري والله؛ فضحكَ المأمون حتى تثنّى عليه عن دابّتِه؛ ثم قال: عليك لعائنُ الله! قال: تترى يا أمير المؤمنين! قال: فعاد [المأمون] في الضحك”!!

واتخذ الخليفة العباسي المتوكل (ت 247هـ/861م) –الذي عُرف بـ”إيثاره الهزل والمضاحك” كما يقول المسعودي في ‘التنبيه والإشراف‘-مُضحكًا اسمه “عُبادة المخنَّث”، كان يصاحبه في رحلاته ولا يقدرُ على الاستغناء عنه، ويحكي صاحب ‘العقد الفريد‘ أن المتوكل “أمرَ به فأُلقيَ في بعض البرك في الشتاء فابتلَّ وكاد يموت بردًا؛ قال: اخرُج من البركة وكُسي، وجُعل في ناحيةٍ في المجلس؛ فقال له: يا عبادة، كيف أنتَ؟ وما حالك؟ قال: يا أمير المؤمنين، جئتُ من الآخرة! فقال له: كيف تركتَ أخي [الخليفة] الواثق؟ قال: لم أجُز بجهنم! فضحك المتوكل وأمر له بِصِلة”.

وقد امتدَّت هذه الظاهرة إلى الأندلس؛ حيث اتَّخذ الخلفاءُ وأمراء الطوائف عددًا من هؤلاء المهرّجين، منهم أبو الحسن البغدادي الملقب “الفُكَيْك” مُضحك أمير إشبيلية المعتمد بن عبّاد (ت 488هـ/1095م)، وقد رآه المؤرخ الأندلسي ابن بسّام الشَّنْتَرِيني (ت 542هـ/1147م) فوصفه –في كتابه ‘الذخيرة‘- بأنه “حلو الجواب مليح التندر، يُضحك من حضر..، ورأيته يوماً وقد لبس طاقاً أحمر على بياض، وفي رأسه طرطور (= قُبَّعة طويلة) أخضر، عمَّم عليه عِمّة لازوردية، وهو بين يديْ المعتمد بن عباد يُنشد شعراً قال فيه: وأنتَ سُليمان في مُلْكِه ** وبين يديك أنا الهُدْهُدُ!

فأضحك مَن حضر”.

ويبدو أن بعض هؤلاء الندماء المضحكين للخلفاء والسلاطين مَن قد زاد على القرب من السلاطين، وأضافوا إلى الأموال التي كانت تُغدق عليهم توليهم مناصبَ عاليةً شريفة؛ فقد عيّن السلطانُ المملوكي الأشرف برسباي (ت 841هـ/1437م) مُضْحِكَه وليّ الدين الششيني الشافعي ناظرًا للحرم المدني الشريف في سنة 839هـ/1435م؛ فاعتبر المؤرخ ابن شاهين الظاهري الحنفي (ت 920هـ/1515م) –في كتابه ‘نيل الأمل في ذيل الدول‘- هذا التعيين سابقة غريبة تعدّ “من النوادر” في الأعراف المتبعة منذ زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م).

تدوين مستوْعِب

يمكن القول إن ظاهرة الفكاهة والضحك قد تمكنت من المجتمعات الإسلامية، وتجلت في التراث العربي شعرًا ونثرًا وتأريخًا، بل وتدوينًا مستقلاً؛ لأنها استحكمت أولا في النفوس والمجتمع، ثم صارت صنعة لعدد من المهرّجين وأصحاب المساخر ممن دأبوا على إضحاك عامة الناس، فضلاً عن الخلفاء والسلاطين الذين اختصّوا ببعض هؤلاء كما رأينا.

وكان من اللافت إفراغ الوسع المعرفي للتأليف في هذا اللون من ألوان الثقافة؛ فقد أفرده الجاحظ بالتأليف في ‘كتاب المضاحك‘ الذي ذكره عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ/1039م) عرَضا ضمن كتابه ‘الفَرْق بين الفِرَق‘، ويبدو أنه لم يصل إلينا؛ وصنّف معاصره الزبير بن بكار القرشي (ت 256هـ/870م) المسمى: ‘كتاب الفكاهة والمزاح‘، وهو أقدم كتاب يصلنا في هذا الموضوع.

وذكر محمد بن إسحق النديم (ت 380هـ/991م) -في كتابه ‘الفِهْرِسْت‘- أسماء تسعة كتب تناولت ظاهرة الضحك في عصر العباسيين تحت عنوان “النوادر” -بينها كتاب ‘نوادر جحا‘- وقال إنه “لا يُعلم مَن ألفها”، لكنها تُنبئ عن ترسخ ما يمكن أن نسميه “أدب الفكاهة” آنذاك. كما أورد النديمُ كتابَ أحمد بن محمد بن عَلُوجَة السِّجْزِي الملقب “جِرَاب الدولة” (توفي في القرن الرابع) وعنوانُه ‘ترويح الأرواح ومفتاح السرور والأفراح‘، ووصفه بأنه “لم يصنَّف في فنه مثله اشتمالا على فنون الهزل والمضاحك”؛ وكتابا آخر لرجل يُسمى “البَرْمَكي” -شهد بداية الفترة البويهية- عنْوَنه أيضًا بـ‘النوادر والمضاحك‘.

ويبدو أن شخصية جحا أصبحت نموذجًا لتراث الأدب الشعبي الفكِه الذي كانت تطاله يد الزيادة عبر العصور، حتى خصَّص له العلامة السيوطي (ت 911هـ/1506م) كتابًا أسماه ‘إرشاد من نحا إلى نوادر جُحا‘؛ وكتاب السيوطي لا يزال مخطوطًا للآن. وفي شأن جحا؛ يحسن هنا التنبيه على أمرين: أولهما أن الذهبي ميزه -في ‘السير‘- عن أبي الغصن ثابت بن قيس الغفاري (ت 168هـ/784م)، وقال: “أخطأ مَن زعم أنه جحا صاحب تيك النوادر”! وثانيهما أن الزركلي (ت 1396هـ/1976م) نبه -في كتابه ‘الأعلام‘- إلى أن جحا هذا غير “جحا التركي”: خوجه نصر الدين (ت 683هـ/1284م) الذي طُبع له كتاب بنفس العنوان: ‘نوادر جحا‘.

وبالعودة إلى تراث الفكاهة العربي؛ يبدو أن جدلاً دار حول المزاح والضحك في فترة متأخرة نسبيًا، مما اضطرّ الفقيه والمحدث بدر الدين الغزّي الشافعي (ت 984هـ/1576م) لأن يُفرد لهذه المسألة كتابه “المراح في المزاح”، وقال في مقدمته: “أجبتُ بأنه (= المزاح) مندوب إليه بين الإخوان والأصدقاء والخلان؛ لما فيه من ترويح القلوب، والاستئناس المطلوب، بشرط ألا يكون فيه قذف ولا غيبة، ولا يُحرّك الحقود الكمينة”.

وعلى درب ابن الجوزي الذي تحدث عن دافعه لتأليف كتابه ‘أخبار الظراف والمتماجنين‘؛ ألَّف قاضي غرناطة ووزيرها أبو بكر ابن عاصم المالكي (ت 829هـ/1426م) كتابه “حدائق الأزاهر في مُستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر”، وحرص فيه على جمع أخبار الضحك والفكاهة لتكون “فيه تسلية للنفوس، وترويح للأرواح، واستجلاب للمسرات والأفراح، وراحة الخاطر، وأنُس المجالس والمسامر”.

وفي مقابل هذا الفريق؛ نجد اتجاها آخر يعارض هذه الظاهرة، وكان على رأسه جموع من علماء الزهد والأخلاق والتصوف؛ ممن حضّوا على “قلة الضحك” و”ترك المزاح”، كالذي صنعه الإمام الزاهد وكيع بن الجرّاح (ت 197هـ/813م) في كتابه ‘الزهد‘. بل إن بعضهم كان سببا في “اعتزال” بعض المُضحكين لمهنة الإضحاك؛ فقد روى ابن عساكر -في ‘تاريخ دمشق‘- أنه “قَدِمَ سفيان الثوري (ت 161هـ/779م) المدينة فمرّ بالغاضري وهو يتكلم ويُضحك الناس، فقال له سفيان: أما علمت أن لله عز وجل يوما يخسر فيه المبطلون؟ قال: فما زالت تُرى في الشيخ (= الغاضري) حتى فارق الدنيا!

تلك جولة في التراث العربي المتعلق بثقافة الفكاهة والضحك؛ وهي لمحة لم نستطع أن نجاري كل أخبارها ومصنفاتها؛ وقد رأينا تأصّل هذه الظاهرة في الناس بمختلف طبقاتهم الاجتماعية عبر القرون منذ أقدم العصور؛ لندرك معه أن المرح والضحك مكون أصيل من مكونات الشخصية العربية وغير العربية؛ وهو تاريخ -بالنظر إلى تراثنا المدهش- لم يُكتب بعدُ حق كتابته!