نلتمس من القرآن قواعد سير التاريخ وسننه الحاكمة لبعض الظواهر, لاسيما وأن القرآن نظر إلى التاريخ نظرة إيجابية, وحفز المسلم إلى دراسة هذه السنن, فالتاريخ مُعلِم للإنسان فقط للإنسان،فهو الكائن الوحيد الذي له تاريخ، وهو الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخه بنفسه ويتحكم فيه، ومن هنا دعا الوحي من باب: التقرير والحفز والتوجيه إلى قراءة أحوال الأمم في ماضيها وحالها بمناهج وأساليب تقوم على مفاتيح تلك القراءة وهي: السير والنظر والاعتبار، وبالطبع لا يقصد الوحي تلك القراءة العابرة، وهو ما كثفت الحضارة المعاصرة مراكزها الفكرية نحوه بصورة متعددة.

والمقالة الحالية في جزأيها هي نظرة سريعة على سنة من سنن التاريخ رصدها الوحي بصورة موضوعية تمامًا يجعل فيها “الترف” متغيرًا مستقلًا، والهلاك متغيرًا تابعًا، نحاول أن نلقي هذه النظرة في ظل الوضع الذي تعيشه الأمة وتحيا فيه، أو بالأحرى تتراجع في ظلاله.

منهاجية بناء نظرية الترف

    نؤكد أولًا أننا لسنا بصدد بناء نظرية رياضية صورية التي هي أحد فروع علم الرياضيات، ولكننا بصدد النظر في نظرية اجتماعية تقوم على الملاحظة والمشاهدة والاستقصاء والاستقراء للوقائع والأحداث التي وقعت بالفعل، مع الإشارة إلى فروضها التي أثبتتها تلك المشاهدات والوقائع. وتتضمن النظرية الاجتماعية هنا: عدة عناصر هي: البعد المفاهيمي لموضوع النظرية وهو “الترف”، ثم أبعاد المفهوم الواقعية، ثم استقراء الوقائع والمشاهدات التي سجلها الوحي، ثم خلاصات معرفية لقواعد كلية لهذه النظرية.

الفضاء اللغوي لمفهوم “الترف”

  يحتوي الفضاء اللغوي للترف على المعاني التالية:

-الترف: التوسع في النعمة، يقال أترف فلان فهو مترف[1].

-أَتْرف فلان: أصر على البغي [2].

-تَرِف – تَرفًا : تنعم وأترفه الله نَعَّمَهُ وأعطاه ما يشتهي في الدنيا{وَأَتْرَفْنَاهُمْفِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.

-الترف: التنعم… والمترف: الذي قد أبطرته النعمة أي أطغته… وهو – أيضًا – المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها. وفي الحديث :إن إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – فُرَّ به من جبَّارٍ مُترفٍ. وقوله تعالى{إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا}: أي أُولو التُرفةِ. وأراد – هنا – رؤساءها وقادة الشرَّ منها[3].وقال تعالى في ربط الترف بالطغيان والفساد (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) أي جروا وراء شهواتهم وتمادوا في الترف فأبطرهم وأطغاهم[4].

– التُرفَةُ، بالضم، النِّعمَةُ، والطعامُ الطَّيِّبُ، وكفرحَ: تَنَعَّمَ. وأترفته النِّعمَةُ: أطغته، أو نَعَّمَتهُ، كتَرَّفَتهُ تَتريفًا و فلانٌ: أصرَّ على البَغي. والمُترَفُ، كمُكرَم: المَتروكُ يَصنَعُ ما يَشاءُ لا يُمنَعُ، والمُتَنَعِّمُ لا يُمنَعُ من تَنَعُّمِهِ، والجَبَّارُ. وتَتَرَّفَ: تَنَعَّمَ واستَترَفَ: تَغَترَفَ وطَغَى[5].

يُمدنا الفضاء اللغوي بجملة من المعاني حول معنى “الترف” و”المترفين”، وهذه المعاني يمكن النظر فيها فيما يلي:

-الترف يرادف: التنعم والتلذذ بالشهوات في غير استقامة.

-الترف يرادف: البطر والتنكر والجود.

-الترف يرادف الطغيان وتجاوز الحدود.

والخلاصة المعرفية التي نراها أن الترف: الغنى المٌطغي أي غير المسؤول أمام الله وأمام الناس وأمام التاريخ.

الوحي و”الترف”

مبدئية التوجيه والإصلاح

     تعرض الوحي لمسألة الغنى الواسع والتنعم في صورتين: الأولى صورة توجيهية، يطرح فيها قاعدة إلهية ثابتة وقائمة إلى آخر الحياة الدنيا وهي أن (المنح أي الغنى الموسع) أو المنع من هذا الغنى الموسع(أو حتى الفقر) ليس دليلًا على شيء عند الله تعالى. فالأول لا يعني قبولًا من الله أو قُربًا في درجة الناعم المُتنعم، والثاني أي الفقير وحاله ليس دليلًا على رفض الله أو ابتعاد العبد في درجته عند الله، وهنا يقرر الوحي هذه القاعدة ويسجلها للإنسان عبر التاريخ [فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ،وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر: 14 – 15].

والواقع الذي يتحرك فيه الإنسان -كما يقرره الوحي ويرصده رصدًا تاريخيًا- هو بالطبع مجال الابتلاء أي الاختبار الإنساني ، الذي هو المجال التطبيقي لأداء التكليفات الإلهية في الأرض.ومن ناحية أخرى يُذَكِّر الوحي الإنسان من باب التوجيه المعياري أن المال الذي يحصل عليه (والذي يُعد رمزًا للنعم والتنعم) هو في هذا المنظور الإلهي “مستخلف فيه” أي أنه واسطة بين الله وبين مصادر إنفاق المال المشروعة والمباحة،ولذلك يحدد له أبواب التحريم [وهي محدودة بحدها وبعددها]التي يمكن أن يقع فيها وهذه الأبواب هي:

-الإمساك و الاكتناز.

-التصرف فيه بسفه.

-التعامل فيه “بالربا”.

-استخدامه وسيلة لإفساد المجتمعات والأمم.

الإسراف والتبذير فيه والإنفاق في غير وجهه وقصده.

إن هذه الحدود القليلة التي يُمنع فيها التعامل مع المال، أو استخدام المال في أحد وجوهها، يؤدي إلى بناء طرق ومناهج اجتماعية سوية للفرد والجماعة والأمة في عصب حركتها وهو المال، ومن هذه المناهج والطرق التي نلتمسها في ضوء المنظور التوحيدي لمعالجة وإصلاح النظرة إلى المال:

-التأكيد على قيمة التداول {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} [الحشر:7].

-الزكاة والصدقات لبناء

-نظم اجتماعية قوية {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24]، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} [الذاريات: 19].

-مقصد المحافظة على المال وإصلاحه كلما أصابه مرض في التوظيف والاستخدام من قبل الجماعة الاجتماعية المؤتمنة على مال الجماعة كلها.

إن هذه المحظورات وهذه الطرق والمناهج الناتجة عن مراعاتها، والتي تحافظ على موضع المال وموضوعه في الجماعة الاجتماعية، يجنب الأمم الانحراف الأخلاقي الذي قد يمارسه البعض في حق المال، ومن ثم في حق النظام الاجتماعي كله القائم على عصب هذا المكوِّن المهم في التاريخ الإنساني للمجتمعات، والتاريخ المعاصر بصفة أكثر خصوصية. إن هذا الانحراف لا شك حال حدوثه لا يعود على صاحب المال وحده (بهذا المنظور الضيق) ولكنه يعود على المجتمع كله وذلك لأن المال وحركته أحد الروابط الرئيسة – كما ذكرنا وكما يؤكد علم الاجتماع- للبناء الاجتماعي كله لحمته الإنسانية والمادية كذلك.

ومن ثم جاءت الدلالات اللغوية في معنى الترف تؤكد أن سوء التوظيف الاجتماعي للمال هو توصيف تمامًا لحالة الطغيان، أي مجاوزة الحد أي حد البناء الاجتماعي وسلامته وصحته، ولعل ذلك ما جعل النبوة تلفت النظر إلى ضرورة العمل الدائم على الإصلاح في النظام الاجتماعي، وأن يكون فعل الإصلاح فعلًا دائمًا أي يتصل بحيوية المجتمع وحركته ولا يتوقف خوفًا على سلامة البنيان، وكانت إحدى مخاوف النبوة على المجتمع “..غنى مطغيًا” لأن يؤهل الفرد لبعث نجد الشر والعبث من طبيعته الإنسانية {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6].

مواضع الترف في القرآن وأشكالها

جاء “الترف” في القرآن في ثمانية مواضع هي:

– {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].

-{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116].

-{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34].

-وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].

-وقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33].

-قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ، لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 12، 13].

-وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ، لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 64، 65].

-وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45]

ونخلص من هذه المواضع الثمانية إلى جملة من المعاني التالية لمفهوم الترف في القرآن وارتباطاته وعلاقاته بمعانٍ وخصائص أخرى. وهي:

-ربط “الترف” بالفسق وضد الهداية. [الإسراء : 16].

-ربط الترف بالظلم والسكوت عن الفساد في الأرض [هود : 16].

-ربط الترف بمواجهة الهداية، والدعوة إلى كل ما هو ضد الاستقامة [سبأ : 34]، [الزخرف:23]

-ارتباط الترف بمناهضة الرسل والتكذيب، ودعوة الناس إلى تكذيب رسل إليه والتكليفات الأخلاقية الواردة في رسالاتهم. [المؤمنون : 33].

-علاقة الترف باستحقاق العذاب من الله لعدم الاتعاظ بالهدى/ واستحقاق الهلاك [الأنبياء : 12، 13]، [المؤمنون / 64 – 65] [الواقعة : 45].

-يأتي الترف “دائمًا” جماعي وليس فرديًا “أترفتم” “أُتْرِفُوا””مُتْرَفُوهَا””مُتْرَفِيهَا””أَتْرَفْنَاهُمْ””مُتْرَفِينَ”، وهو ما يشير إلى دلالته الاجتماعية وتأثيره في مكونات البناء الاجتماعي ومخاطر تلك الحالة على سلامة ذلك البناء وصحته.

ونورد فيما يلي أهم ما جاء في بعض التفاسير القرآنية لمعنى”المترفون”:

-المنعمون – الملأ الذين أطغتهم الدنيا وغرتهم الأموال واستكبروا على الحق[6].

-الذين عاشوا حياتهم في اللهو واللعب والتقلب في ألوان الملذات والتمرغ فيها[7].

-أولو النعمة والثروة والرياسة[8].

-الجبابرة والقادة ورؤوس الشر[9].

-الشرار الرؤساء[10].

-المؤثرون للدنيا عن الآخرة[11].

-المتنعمون بالحرام[12].

-المشركون[13].

-الذين ألهتهم ملذات الدنيا، وألهاهم الأمل عن إحسان العمل[14].

-متبعو الهوى، وسالكو خطوات الشيطان[15].

-الذي ينقلب في نعم الله – تعالى – ولكنه يستعملها في المعاصي لا في الطاعات وفي الشرور لا الخيرات[16].


[1]  الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص166.

[2]  المعجم الوسيط ص84.

[3]  ابن منظور: لسان العرب، ج2، ص30.

[4]  إبراهيم عبد الفتاح: القاموس القويم للقرآن الكريم، ج1، ص98.

[5] القاموس المحيط.

[6]  تفسير السعدي.

[7]  الوسيط – طنطاوي.

[8]  ابن كثير.

[9]  ابن كثير.

[10]  المراغي.

[11]  الطبري.

[12]  القرطبي.

[13]  القرطبي.

[14]  السعدي.

[15]  الوسيط.

[16]تفسير الوسيط.