يدور نقاش بين بعض المهتمين بالتعليم في إفريقيا حول بعض مظاهر عدم احترام المصحف الناتج عن الجهل بأساليب الأدب معه، ومخاطر نزع المصاحف من أيدي الأطفال، وأثر ذلك على توقف التعليم وانحساره.
ويمكن صياغة الموضوع محل النقاش على شكل سؤال نصه: “هل يجوز إعطاء المصحف -للمتعهد باحترامه- في بيئة قليلة مصاحفها ولا يحترم أهلها المصاحف ولا الألواح[1] الاحترام الكافي، مع أنهم إذا لم يجدوا المصاحف لم يتعلموا القرآن”؟
ولمقاربة الإجابة عن هذا الإشكال نمكن أن نصوره مترددا بين قاعدتين:
-قاعدة جلب مصلحة تعليم الدين.
-وقاعدة درء مفسدة امتهان القرآن.
وكلا القاعدتين خاضعة للقصد الباعث عليها وهو مؤثر فيها، والأصل أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند اعتدالهما، فلو استويا من كل وجه لكان إعمال هذا الأصل أولى.
أما وقد اختلفا فلنبين وجه المصلحة والمفسدة وذلك على النحو التالي.
أولا: مصلحة تعليم الدين
ترجع مصلحة تعليم الدين (وخاصة في بيئة كالتي وقع الإشكال فيها[2]) إلى أصل بلاغ الدين، إذ لا يتصور بلاغه وبقاؤه إلا بتعليمه للصغار خاصة.
ويؤكد هذا الأصل ما تتعرض له تلك البلاد من جهل وفقر وغياب قدوة إسلامية، وبعد عن المرجعيات العلمية والثقافية. وتعرض للهجمات التنصيرية القوية.
وهذا الأصل فروعه أصول الدين التي هي أسس الدين وأركانه، فمنه يتفرع الإيمان والإسلام والصلاة والزكاة والصيام والحج… وعلى هذه تنبني توابعها.
ويشير إلى هذا المعنى (أعني تقدم تعليم الدين في الترتيب على أصوله في التنفيذ) حديثان:
الأول: حديث جبريل الذي جعل الدين أصلا تتفرع عنه ثلاثة فروع هي أصول ما سواها؛ (الإيمان. الإسلام. الإحسان) ف: “هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”[3]
الثاني: حديث معاذ عند الترمذي[4] وغيره، وفيه: “ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؛ رأس الأمر الإيمان، وعموده الإسلام وذروة سنامه الجهاد”؛ فالحديث جعل الدين أمرا أصليا، والإيمان والإسلام بعض مكوناته. والصلاة التي هي عماد الدين جزء من عماد أكبر هو الإسلام فهي هنا بمثابة الفرع عن العمود.
لذلك فتعليم الدين في هذه البيئات يدخل ضمن الأصول لا ضمن الفروع.
ثانيا: مفسدة إهانة المصحف:
-لا شك أن إهانة المصحف من أعظم المنكرات وأكبرها ومن أصول الردة وأسبابها، فردةٌ تعمد إهانته، أو وضعه في القذر أو تدنيسه أو أي فعل متعمد يدل على عدم احترامه[5]. ولا شك أن تقديره واحترامه وإجلاله وتعظيمه، وإكرامه وتبجيله مطلوب بشتى أنواع الطلب، وهو دليل التقوى ومعيار التوفيق؛ ” ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ” [سورة الحج، الآية: 32].
-كما لا شك أن الشرع فرق تفريقا بينا بين العمد والجهل والنسيان؛ فربط العقوبات والجزاءات بالنيات، وعفا عن الخطأ والنسيان وما استكره عليه الفاعل[6]، ونفى الإثم عن من لم تبلغه الدعوة؛ ” وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا” [سورة الإسراء، الآية، 15].
وتعلق هذه المسألة بهذه الأصول من وجوه؛
الأول: أن الجاهل غير مؤاخذ بمقتضى جهله، والضعيف غير مؤاخذ بما ضعف فيه، وهؤلاء في أغلبهم يجهلون الحكم أو لا يفهمونه على وجهه، أو يرون في تطبيقه مشقة وعنتا لعدم التعود عليه أكثر من ما هو في حقيقة الأمر. فيحتاجون من يعلمهم أكثر من حاجتهم إلى من ينكر عليهم، وتعليم مثلهم يبدأ بأسره بالكلمة الطيبة والفعل المتزن، ففي “لا تزرموه”[7] أصل من ذلك الخلق أصيل؛ إذ أجَّل صلى الله عليه وسلم تغيير المنكر حتى يجد قلبا وأنا واعية.
والثاني: الناسي غير مؤاخذ بما نسي أو أخطأ فيه “لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا” (قال: قد فعلت)[8]. فكثير من أفعالهم ناتج عن النسيان أو الخطأ. وهما محل عفو.
الثالث: أن الخطأ العرضي لا ينفي الإقدام على التجربة، وأصل هذه القاعدة مأخوذ من قوله: ” إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُون ” جوابا لقول الملائكة: ” أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ “[9]. (والمقصود بالتجربة في حق الله الاختبار والابتلاء “ليبلوكم ايكم أحسن عملا”، وفي حقنا ” مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون” [سورة الأعراف، الآية: 164])
فكون هؤلاء قد يخطؤون في التعامل مع المصحف وقد يأخذ ذلك منهم مظهر العادة المضطردة. -مع غياب نية الإهانة-، يجعل الإقدام على نشره بينهم أفضل من تركهم لقمة سائغة للجهل والفقر والتنصير.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن التعامل مع هؤلاء تعليما وتوجيها يقتضي:
- التفريق بين الاحترام الشرعي المطلوب والعرفي المتعود، (وضع المصحف على الفخذ، والسروال الطاهر، التقليب بالإصبع المرطبة بالبصاق، محو كلمة من اللوح بالبصاق، كتابة القرآن على النعل، وعلى الرحل، ووضعه على الفراش….) وبالرجوع إلى كتب السنة تضح فروق كثيرة بينهما.
- عدم الإنكار على الجهلة فيما له وجه شرعي ولو كان ضعيفا، تيسيرا عليهم، وتقريبا لهم؛ وفي التدرج في التشريع، وترك البيت على غير قواعد إبراهيم ما يكفي في الدلالة لذلك.
الخلاصة
القواعد المتجاذبة هنا تدور على أصول لها علاقة بالنية والقصد، وهي في حد ذاتها مختلفة المراتب، فمنها الضروري (تعليم الدين) ومنها مكمله (كمال توقير المصحف)، والواضح أن أحد شقيها (شق المفسدة) دائر -بالنية- بين التحسيني والحاجي، أو هو مكمل للضروري، وأن الوقوع فيه راجع لمعفو عنه غالبا.
بينما ترك المصلحة غير مانع من الوقوع في المفسدة[10]، موفر أسباب البعد عن الدين وزيادة الجهل به، وطمس آخر مظاهر التشبث به.
وعليه فما لم يثبت تعمد الإهانة، وما لم تصل درجة المجمع عليه فينبغي الرفق والتيسير حتى يتعلم القرآن فربما نشأ في متعلميه من حبه وتوقيره ونشره والعمل به ما عظم به الأجر وعفي به عن التقصير.
ويؤكد هذا التزام المعلم الحفاظ على آدابه. ولنصدقه في قوله، ولندع له بظهر الغيب، ولنكل نيته لله.