بشكل عام يمكن القول إن مسألة “تقنين الشَّريعة الإسلامية”؛ تمّ الاشتغال عليها، وبها، من زاويتيْن مُتكاملتيْن: أولاهما: زاوية التَّنْظير الفكريِّ للمسألة؛ تأصيلًا إسلاميًا، وتشْريعًا قانونيًا، وتبريرًا اجتماعيًا. وثانيتهما: زاوية التَّقنين العمليِّ في شكل قوانين ومراسيم وتشريعات تصدر عن الجهات المختصة بإصدار هذه التشريعات.

وضمن السياق الأول – الإطار التنظيريِّ لتقنين الشَّريعة – تبرز بصفة خاصة جهود كلٍّ من: عبد الرزّاق السَّنْهُوري (1895- 1971م)، وعبد القادر عودة (ت 1954) في مصر، ومحمَّد الطَّاهر بن عاشور (1879- 1973م) في تونس، وعلَّال الفاسي (1910-1974م) في المغرب.

فقد قدّم السنهوري فيما بين عامي 1925 و 1926 رسالتيْن جامعيتيْن في فرنسا: الأولى في القانون عن “القيود التعاقُدية”، والثانية في الشَّريعة الإسلامية عن “الخلافة الإسلامية وتطوُرها لتُصْبح هيئة أمم شرقية”. وفضلا عن دوره الكبير في صياغة المقوِّمات القانونية والدُّستورية للعديد من الدُّول العربية: (مصر، العراق، الكويت، سوريا، الإمارات، ليبيا، السُّودان)، خلَّف السَّنهُوري عددًا كبيرًا من المؤلَّفات التي تُعْنى مباشرةً بمسألة صلاحية “الشَّريعة الإسلامية” وكيفية تقنينها. ومن أبحاثه المهمَّة في هذا المجال: “مصادر الحق في الفقه الإسلاميِّ مُقارنة بالفكر الغربيِّ” الذي صدر في ستَّة مجلَّدات تباعًا فيما بين عامي 1954 و 1959. و “الإسلام دين ودولة”، و “تطبيق الشَّريعة الإسلامية”.

وبحسب السَّنهُوريِّ، فإنَّ مقاصد الخلافة الإسلامية تتجلَّى في أمور ثلاثة هي: وَحْدَةُ الأمّة، وتطبيق الشّريعة، وتكامُل دار الإسلام. كما اهتمَّ السَّنهُوري بالرَّد على كتاب علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” فاختار عنوانا لافتًا لردِّه، وهو: “رأيٌ شاذ”! أيضًا ليست الشَّريعة في رأي السَّنهُوري مُنبتَّة الصِّلة عن واقِعها التَّاريخي والجغرافيِّ والثقافيِّ الذي ظهرت فيه؛ بل هي “شريعةُ الشَّرق ووحْيُ إلهامِه وعُصارةُ أذهان مفكِّريه، نبتتْ في صحرائِه وترعْرَعَتْ في سُهُولِه ووُدْيَانِه. لو وُطِّئتْ أكنافُها وعُبِّدت سبُلُها؛ لكان لنا من هذا التُّراث الجليل ما ينْفُخُ روحَ الاستقلال في فقهِنا وقضائِنا وفي تشريعِنا”.

أما عبد القادر عودة؛ فقد نظَّر لمسألة الشَّريعه في كتابه: “التَّشريع الجنائيِّ في الإسلام مُقارنًا بالقانون الوضعي” حيث قام بعرض أحكام الشَّريعة في المسائل الجنائية، داعيا إلى إعادة إحياء الشَّريعة الإسلامية. وفي كتابه: “الإسلام وأوضاعنا السياسية” عرض لنظرية الحكم في الإسلام، وأنَّها خيرُ ما عرَف العالم، وأنَّ كلَّ نظريات الشُّورى الوضعية ليستْ شيئا يُذكر بجانب نظرية الإسلام. أمَّا في كتابه: “الإسلام وأوضاعنا القانونية”؛ فقد أكَّد أنَّ سلطة المراقبَة والتَّقويم هي من صميم حقوق الأمَّة؛ استنادًا لمبدأ “الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر”. فالأمَّة مصدرُ سُلطان الحكَّام باعتبارهم نوَّابًا عنها فهم مسؤولون أمامها.

وفي جميع أعماله يُشدِّد عودة على أنَّ المقارنة ما بين “الشَّريعة” من جهة و”القانون الوضعيِّ” من جهة أخرى هي في الأساس مُقارنة بين ما هو “ثابِتٌ” وما هو “مُتغيِّرٌ”، بين ما هو “إلهيٌّ” وما هو “وضْعِيٌّ”. فالشَّريعة الإسلامية تتّسم بالكمال والثبات، لا تقبل التَّبديل، ولا تخضع لمقتضيات التَّغيير؛ لأنّها من عند الله (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـهِ)[يونس: جزء من الآية 64]. وينتهي إلى تقرير أنَّ القديم “الثابت” خيرٌ من الحديث “المتغيِّر”، وأنَّ “الشَّريعة الإلهية” أجلُّ وأسْمَى من أن تُقارن مع “القوانين الوضعية” التي هي من صنع البشر وفي مرتبة أدنى منها.

أما الطَّاهر بن عاشور؛ فقد سعى في كتابه: “مقاصد الشَّريعة الإسلامية” إلى إحياء الفكر المقاصدي بعد خموده لعصور طويلة، منذ وفاة الإمام الشاطبيِّ. في هذا الكتاب يركِّز ابن عاشور على بيان مقاصد الإسلام من التَّشريع في قوانين الآداب والمعاملات، باعتبار أنّها تمثِّل جملةَ ما راعاه الإسلام من مصالح وما ألغاه من مفاسد، وهي مظنَّة عظمة الشَّريعة من بقية الشَّرائع ومختلف القوانين الوضعية. وعن طريق تحقيق هذه المقاصد يتم حفظ النَّظام في المجتمع؛ على نحو ما بيَّن في كتابه: “أصول النّظام الاجتماعيِّ في الإسلام”. فالبحث في علم المقاصد لديه لا يقف عند حدود محاولة تجديد أصول الفقه؛ بل يتصل اتصالا مباشرا ببحث آخر له خطورة بالغة في فكر الشيخ واهتماماته، وهو: البحث في نظام الاجتماع الإسلاميِّ.

تقوم بنية كتاب: “مقاصد الشَّريعة الإسلامية” على أقسام ثلاثة يُعنى أوَّلها بإثبات مقاصد الشَّريعة، وحاجة الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها، ومراتبها، والخطر العارض من إهمال النَّظر فيها. ويبحث ثانيها في المقاصد العامّة من التَّشريع، والأوصاف الضابِطة للمقاصد، ودخول أوصاف الشَّريعة: كالعمُوم، والفطرة، والسَّماحة. وغاياتها العامّة: كإقامة النِّظام، وتحقيق الأمن، ونشر المساواة. وكذلك معانيها التي لا يخلو تشريع من ملاحظتها ضمن مبحث المقاصد. أمّا ثالثها فيهتم ببيان مقاصد التَّشريع الخاصة بأنواع المعاملات، حيث يوضّح جملة من المقاصد والوسائل المتعلقة بهذا الباب.

أمَّا علَّال الفاسي؛ فقد عاصر – شأنُه في ذلك شأنُ سابقيه – ثلاثَ تيارات فكرية في عصره: التَّيار الإصلاحيِّ الذي تأسَّس تحت زعامة الأفغاني ومحمد عبده وانشطر بعيد وفاة الأخير إلى اتجاهيْن كبيريْن، اتجه أولهما نحو الحداثة، بينما اختار ثانيهما العودة إلى النزعة السَّلفية بزعامة رشيد رضا. وإلى جانبهما ظهر اتجاه ماركسيٌّ يدعو إلى ضرورة القطيعة مع التُّراث بوصفه عائقا أمام التحديث والتقدُّم. وهكذا وجد في العالم الإسلاميِّ ثلاثة حلول تتجاذب في قياداتِه: الحلُّ الحدَاثيُّ الليبراليُّ، والحلُّ الماركسيُّ الاشتراكيُّ، والحل السَّلفي الإسلامي. وإلى هذا الأخير ينتمي علَّال الفاسي.

ففي سياق دفع الاتهامات الموجَّهة ضد السَّلفية والفقهاء بخاصة؛ لجهة اعتمادهم على الآلة القياسية، والذي طال المستويات: الفكرية، والعملية، والتّشريعية. دافع الفاسي عن اتهام الفقهاء بالاعتماد على حرفية النصوص، وعلى المنطق الصوريِّ في القياس، مؤكِّدا أنّها اتهامات فاقدة للسند؛ لأنَّ الجانب التّشريعيَّ – حتَّى في القوانين الأجنبية – لا يعتمد على “المنهج الاستقرائيِّ”، وإنّما على “المنهج القياسيِّ الاستنباطي”. وهكذا كان لاتهام الفقهاء بالنظرة التجزيئية والحَرْفية للنصوص، أكبر دافع لأنْ يؤلِّف الفاسيُّ مؤلَّفيْن مهمَّيْن، هما:

1- “مقاصد الشَّريعة الإسلامية ومكارمها”، الذي ألَّفه سنة 1382هـ/1963م ليسُدَّ به فراغا في المكتبة العربية “لأنَّ الذين تعاقبوا على كتابة المقاصد الشَّرعية، لم يتجاوزوا الحدِّ الذي وقف عنده إمامُنا أبو إسحاق الشاطبيُّ رحمه الله في كتابه الموافَقَات (…) وقد أحببتُ أن يكون هذا الموضوع شاملا للتعريف بقسط من أصول تاريخ القانون ووسائل تطوره، وكيف أنَّ الشَّرائع الإنسانية كلَّها كانت تقصد إلى العدل فلمَّـا لم تبلغ مداه بحثتْ عنه خارج مصادرها التَّشريعية، بينما بقي الفقه الإسلاميُّ يحقِّق العدالة والعدل بأصولِه الذَّاتية نفسها”.

2 – “دفاع عن الشَّريعة” الذي صدر في سنة 1966م وقد صدَّره بمجموعتين من الآيات القرآنية تعكسان جوهر ولُبِّ الكتاب، وهما:

(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّـهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية: 18-19]

(وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ).[يونس: 15-17]

ووضّح في مقدمتِه غرضَه من تأليف الكتاب مُنطلقا من أوضاع المسلمين في ظلِّ عهود الاستعمار الذي سعى لفصلِهم عن هُويّتهم، وإضْعاف ثقتهم بتراثهم.

فالكتاب، كما يبدو من عنوانه إذن، محاولة لبيان صلاحية الشَّريعة لكلِّ زمان ومكان، وذلك عبر تناوله لثلاث قضايا كبرى؛ الأولى: أصالة الشَّريعة الإسلامية في ذاتها، والثانية: صلاحيتها لكلِّ زمان ومكان، والثالثة: إبراز بعض مقاصد القوانين الاستعمارية.

وهكذا يتنزَّل جدل الشَّريعة والقانون عند الفاسي في إطار رؤيتيْن مُتعارضتيْن للقانون، ترى إحداهما، وبها يدينُ الفاسيُّ، أنَّ ما تواضَع عليه البشر وقنَّنوه نابِعٌ من القانون الإلهيِّ إلهامًا ووحيًا، وترى الأخرى، وهي أساس الفكر الغربيِّ الحديث، أنَّ القانون الإلهي، ويُسمَّى عند المسلمين الشَّرع، إنْ هو إلّا قانونٌ بشريٌ مُؤلَّه لا مِزْيَةَ لهُ خارج ذاته!