لقد ركز الإسلام على القدوة في عنصر الرسالة، كما ركز على عنصر الدعوة. فاعتبر عمله وتقريره سنة.. كما اعتبر قوله سنة. فأوجب اتباع النبي صلوات الله وسلامه عليه في سلوكه كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21) كما أوجب اتباعه في دعوته كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }(الأنفال:24).

وربما كان هذا التركيز- من الإسلام – على عنصر القدوة ، إلى جانب تأكيده على عنصر الدعوة إيحاء للعاملين بأن من واجبهم أن يقتدوا بالنبي في ذلك. ليكون سلوكهم دعوة، كما يكون كلامهم دعوة، فيرتبط الناس بأشخاصهم من ناحية عملية، كما يرتبطون بأفكارهم من ناحية عقدية..

وقد أنذر الله المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون إنذاراً صارخاً، بأسلوب حازم وذلك قوله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}(الصف:2-3).

الحق نقول: إن أشد أنواع التناقض تأثيراً في فكر الشباب ازدواجية شخصية الدعاة والقادة والمربين والآباء ، فهم في أقوالهم غير أفعالهم .. وما أجمل ما صور ابن القيم به هذا الواقع المتضارب، وهذه الانفصالية بين الأقوال والأفعال وأثرها في المدعوين فقال رحمه الله: “علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قال قائلهم للناس هلموا، قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق”.

وهذا عين ما ذكره صاحب حلية الأولياء عن مالك بن دينار :” العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا.

وقال الشافعي الإمام: “من وعظ أخاه بفعله كان هادياً.

قال عبد الواحد بن زيد: “ما بلغ الحسن في الناس ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء كان أسبقهم إليه ، وإذا نهاهم عن شيء كان أبعدهم منه”.

وكان البر فعلاً دون قول… فصار البر نطقاً بالكلام

وإذا كانت الازدواجية هذه ممقوته على كل حال ومن كل شخص ، فإنها تزداد شناعة وتأثيراً وسلبية ووقاحة إذا كان مصدرها من يتوقع منهم أن يكونوا على مستوى فوق كل شبهة، ويرجى منهم أن يكونوا قدوة تتبع وتقتدى، وأنموذجاً ينسج الناس على منواله ويقتدون آثاره، فإذا كانوا هم في هذه المنزلة السافلة فأين الملاذ، إنهم – إذاً – يعودون كما قال الشاعر الفارسي:”إذا عادت الكعبة مصدر الكفر فأين يبقى الإيمان والإسلام ؟”.

واليوم نرى قطاعاً من الشباب وقد مُني باليأس والتشاؤم والتشرد الفكري من أجل ما رأوه من القادة ورجال الدين والدعاة والمربين ، ومن هذه الازدواجية والثنوية في القول والعمل والنظرية والسلوك ، فهم أتقياء على المنبر أو المنصة وأبر الناس قلوباً وأصدقهم لهجة على رؤوس الأشهاد ، ولكنهم أبعد عن مخافة الله ، وأجرأ على خرق حدود الله ، وأخبث الناس قلوباً ، وأكذبهم حديثاً وأسوأهم فتنة في واقع حياتهم ، يدعون الناس إلى الاتحاد ، وهم أكثرهم تفرقة ، وإعمالاً لجميع الحيل التي تحرش بين الإخوان في العقيدة والأشقاء في الدين والأخلاء في الهدف..يقولون للناس أن تمسكوا بأهداب الدين ومكارم الأخلاق ومحاسن الأدب ، وهم أرفضهم لجميع هذه المعاني والصفات .

وللأسف الشديد كان من جرائر تلك الازدواجية الممقوتة أن طرح بالشباب الثقة لا عن أشخاص هؤلاء وحدهم، ولكن عن كثير من الأبرياء من رجال الإصلاح والدعوة والرسالة التي يدعون إليها، وأحياناً إلى التشكك في حقيقة الدين والعقيدة التي ينتمون إليها، إذا لم تسنح له الفرصة دراسة الدين والعقيدة في الكتب أو في أشخاص الأبرياء النزهاء غيرهم..والمصيبة العظمى من هذ النوع من ” الكبار ” أولئك الذين يهدمون الدين بعنوان خدمة الدين، و يضرون الأمة باسم إسداء الخدمة إليها، و يخدعون الناس بمواقفهم المشبوهة تجاه الدين وقضاياه ومشكلات الأمة ، وكأنهم لن يموتوا أبداً، وقد كتب لهم الخلود في هذه الدنيا، وأنهم لن يعرضوا للقيام أما رب العالمين يوم القيامة ولن يسألوا عن حياتهم فيم قضوها، وعن عملهم ماذا عملوا فيما علموا؟

فعلى الداعية أن يبدأ بنفسه في نقطة الأمر والنهي فلا يأمر بشيء مما أمر به الله ورسوله حتى يكون أول فاعل له، ولا ينهى عن شيء مما نهى الله ورسوله عنه حتى يكون أول تارك له..لأن تلاوة الأقوال والنصوص لاتصنع شيئاً، وإن المصحف وحده لايعمل حتى يكون رجلاً، وإن المبادئ وحدها لاتعيش إلا أن تكون سلوكاً، وقد كان الهدف الأساسي الذي عمل له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصنع رجالاً  لا أن يلقي مواعظاً فقط، وأن يَصوغ ضمائراً لا أن يُدبج خطباً، وأن يبني أمة لا أن يُقيم فلسفة.

سلام على الدعاة المخلصين في القول والفعل..