الإنسان المعاصر بات منحصرا في ذاته، لا ينظر من ثقبها الضيق إلى العالم الخارجي إلا قليلا، وصارت كلمات مثل: العطاء والتضحية والكرم والسخاء والجود أقرب لمفاهيم غريبة عن واقع الأجيال الجديدة، تلك الأجيال التي نشأت في العصر الرقمي، فعمق إحساسها المفرط بالخصوصية، وأقنعها أن الفردانية هي مجال يستطيع فيها الشخص أن يحقق نجاحه ومنفعته بعيدا عن الآخرين.
الأنانية آفة اجتماعية ونفسية وسلوكية تهدد المجتمعات، فمنذ تنحية حضور الدين في تشكيل وصياغة الإنسان في ظل الحداثة والعلمنة، أخذت الأسئلة تلح عما سيحصده الإنسان من جراء التضحية وأداء الواجب، فالخالق سبحانه، والآخرة، والجزاء بعد الموت، لا حضور لها في تلك العقلية الدهرية المادية النفعية، ومع سيطرة ثقافة الفرجة والإبهار، إزداد ذلك الإنسان اقتناعا بأنانيته.
تراجع قيمي
منذ بداية النشاط الإنساني على الأرض، كان للقيم الأخلاقية والدينية حضورها وتأثيرها على الإنسان، وعلى أنشطته المختلفة خاصة الاقتصادية والاجتماعية، فكانت تلزمه بسلوكيات وتنهاه عن أخرى، وأخرجت بعضا من تلك القيم الإنسان من ذاته لينظر إلى الآخرين، حتى في الوثنيات، كان مفهوم القربان هو نوع من كسر للرغبة في الاستحواذ على الأشياء إلى أفق آخر وهو التضحية بها من أجل التقرب إلى تلك الأوثان.
كانت النظرة الغالبة على الإنسانية لقرون طويلة، أن الإنسان لن يستطيع أني يحيا بمفرده ومن أجل مصلحته فقط، ولكن يجب أن ينغمس في المجموع، واختلف الأديان والتعاليم في القصد من هذا الانغماس ومقداره، لذا كانت الأنانية سلوكا مستقبحا في أغلب مراحل العبور التاريخي للإنسان في الحياة، لكن مع التنوير والعلمنة والحداثة وما صاحبها من تغيرات عميقة في بنية القيم الإنسانية أصبحت الأنانية مرخصة وفضيلة، ولا تُقابل باستهجان، فنجد –مثلا- الفيلسوف الإنجليزي “توماس هوبز” في القرن السابع عشر، يعتبر أن المصلحة أو المنفعة هي الدافع الإنساني الأساسي، وجادل هؤلاء بأن الطبيعة الإنسانية أنانية والإنانية مترسخة، وظهر مذهب الأثرة أو المنفعة[1] أو الأنانية، والذي تطور مع “جيرمي بنثام” و”جون ستيوارت ميل”.
لكن الأصوات الغربية بدأت تضج من تفشي سلوك الإنانية في مجتمعاتها، ورأت أن الأنانية تهدد نمو المجتمعات، فالأنانية أغرت بالاحجام عن الزواج والإنجاب، فنجد مثلا الحاخام البريطاني “جوناثان ساكس” يرى أن المجتمع كلما كان أكثر تدينا كلما كانت الأسرة أكبر، وأن القارة الأوروبية تحتضر لأن الناس أصبحوا أكثر أنانية وأقل إقبالا على الزواج والإنجاب، أما البروفيسور الإنجيلي” بول براونباك ” Paul Brownback في كتابه “ترخيص الإنانية” Licensing Selfishness: فانتقد الترويج للأنانية في المجتمع الأمريكي، ورأى أنها تحولت لأيديولوجيا تطل برأسها في الثقافة ومن خلال وسائل الإعلام، معتبرا هذا الترويج غير صحي للمجتمع، وأنه لابد من تعزيز ثقافة التعاون والمودة، لأن الخير والعطاء قادران على تحرير الإنسان من السلوكيات الخاطئة.
ما يجعل الناس أنانيين، في الغالب ينتج عن عدم الاهتمام بالآخرين سواء بمعاناتهم، أو تأثير الأنانية عليهم، أي بإخراج الآخرين من الاهتمام والاعتبار عند التصرف، والتغافل عن الاحساس بهم.
لكن يظل تقليل الأنانية والتصرف بنوع من الايثار خطوة نحو تغيير الحياة للأفضل، بل تغير الشخص ذاته للأفضل، فـ”الإنسان ليس آلة اقتصادية” ولكن هناك أخلاق وعواطف ودوافع دينية وضغوطا اجتماعية تحرك سلوك الإنسان للتصرف بشكل معين، ولعل تلك الأشياء تحد من الدوافع الأنانية في نفس الإنسان، وتلجم نهم الاستغراق في الذات والتصرف بأنانية، وتشير دراسات أن هناك مناطق معينة في الدماغ الإنساني تعمل وتنشط في سياقات اجتماعية، مما يؤكد أن الإنانية ليست فطرة في الإنسان، ولكنها انتكاس لتلك للفطرة، ومن ثم فالتنشئة الاجتماعية ذات تأثير كبير في غرس الأنانية أو قمعها في النفس، كذلك فإن ثقافة المجتمع والقدوات وتبجيل سلوك العطاء وثقافة البذل كل ذلك يؤثر في انكماش الإنانية في المجتمعات، وإتاحة الفرصة لنمو السلوكيات النافعة القائمة على البذل.
وتظل للأنانية فاتورتها الباهضة على الفرد ومحيطه الاجتماعي، فهي ترتبط بسلوكيات أخرى تساندها وتعززها، مثل البخل والشح والاستغلال والقسوة وقطع الأرحام وإضعاف التراحم الاجتماعي، أما ثمارها المرة فهي الكراهية وانتشار الحقد والحسد والتنافس والجريمة والتشفي وإضعاف تماسك المجتمع وتغييب الأهداف النبيلة والغايات السامية التي تتجاوز فكرة المكسب والربح، لذلك كان المصلح الأمريكي “مارتن لوثر كينج” يعتبر الأنانية ظلام مدمر، ورأى آخرون أن السعادة الحقيقة تكمن في الخروج من شرنقة الذات.
الدين والأنانية
الرؤية الدينية تنظر إلى الأنانية على أنها ملمح لسقوط الإنسان، وتعبير عن فقدان الاحساس بالواجب وجمود الرغبة عن فعل الخير ، لأن الأنانية ترتكز على أن كل فعل يقوم به الإنسان لا تحركه إلا المصلحة الذاتية والشخصية، والدين في حقيقته فكرة اجتماعية، والأنبياء لم يرسلوا لشخص واحد، ولكنهم كانوا هداة لمجتمعاتهم.
الرؤية الإسلامية رفضت الأنانية، وحاربتها، ومجدت كل سلوك وفعل قائم على الإيثار والكرم والسخاء، فامتدح القرآن الكريم سلوك الأنصار في إيثار إخوانهم المهاجرين، فقال تعالى { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [2] ، وقال بعض العلماء عن هذا السلوك الإيثاري :”الإيثار مع الخصاصة أكمل من التصدق مع المحبة”، وعرف بعضهم الإيثار بأن يقدم الشخص غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه، ورأوا في ذلك أنه منتهى التحقق في الأخوة.
وامتدح القرآن الكريم تجاوز بعض المؤمنين لحب الأشياء المادية وانفاق المال بحب في سبيل الله، وجعل ذلك من شروط وعلامات تحقق البر في النفس، قال تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [3] جاء في تفسير “السعدي” أن “النفقة من الطيب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها، فمن آثر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا، لا تحصل بدون هذه الحالة”.
وتحفل السيرة النبوية وقصص الصحابة والصالحين بقصص في تجاوز الأنانية نحو الإيثار، ومن القصص ما قصه عبد الله بن جعفر-أشهر من عرف بالجود والكرم- أنه نزل على بستان قوم، وفيهم عبد أسود، فعندما جاء هذا العبد ليتناول طعام الغداء، وجد كلبا جائعا فآثره بأرغفته، فتعجب عبد الله بن جعفر من فعله، وسأله عن السبب فذكر له أن الأرض التي فيها البستان ليس فيها كلاب، وأن هذا الكلب جاء من مسافة بعيدة جائعا.
فقال عبد الله: إن هذا لأسخى مني.
ولذلك يقول القرآن الكريم { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [4] ، جاء في تفسير الظلال :” فهذا الشح، شح النفس، هو المعوق عن كل خير، لأن الخير بذل في صورة من الصور: بذل في المال، وبذل في العاطفة، وبذل في الجهد، وبذل في الحياة عند الاقتضاء ، وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ، ولا يهم مرة أن يعطي، ومن يوق شح نفسه، فقد وقي هذا المعوق عن الخير، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما، وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه”.