خضعت عملية كتابة التاريخ العثماني لمؤثرات عديدة أسهمت في توجيهها وتشكيلها من قبيل؛ عدم إلمام جل الدارسين باللغة العثمانية، وافتقاد المؤسسات التي تقدم خدمات تعليمها، وندرة المصادر التاريخية العثمانية المعربة، والاضطرار إلى الاعتماد على المصادر الأجنبية التي يشوبها التحيز ضد الدولة العثمانية أو الانطلاق من فرضيات مغايرة لا تستطيع معها فهم كنه حركة التاريخ العثماني ودوافعها، وعلى سبيل المثال ينطلق المؤرخون الأوروبيون من فرضية رئيسة قوامها اعتبار الدولة القومية هدفا نهائيا لحركة التطور التاريخي، على حين انطلق الخلفاء العثمانيون من فرضية الدولة/الأمة بما تعنيه إمكانية المزج بين أعراق وديانات وقوميات متعددة ضمن الدولة الواحدة.
وإدراكا لتلك المؤثرات التي حكمت عملية تدوين التاريخ العثماني اتجه بعض الدارسين في العقود الأخيرة إلى إعادة كتابة التاريخ العثماني ونذكر من هؤلاء عبد الرحيم عبد الرحمن ونيلي حنا، واتجه البعض الآخر إلى نقل المصادر التاريخية العثمانية إلى اللغة العربية وإتاحتها للباحثين فترجم ناصر عبد الرحيم حسن كتاب (تاريخ بجوي) منذ نحو عامين، وترجم محمد عبد العاطي محمد كتاب (تواريخ آل عثمان) للطفي باشا (ت: 970ه/ 1563م) والذي نعرض له في السطور التالية.
ويحظى كتاب (تواريخ آل عثمان) بأهمية من جهات عدة ومن بينها:
– كون مؤلفه أحد رجالات الدولة وصانعي سياستها فقد شغل منصب الصدارة العظمى، وشارك في بعض الحملات العسكرية التي شنتها الدولة خارج حدودها، وربطته بأسرة آل عثمان روابط المصاهرة.
– كان الكتاب مفقودا حتى عثر على نسخة منه بمكتبة فيينا ثم نشر محققا عام 1922م، الأمر الذي يجعل منه مصدرا بكرا إلى حد ما يمكن أن يشكل إضافة حقيقية لعملية إعادة كتابة التاريخ العثماني.
– اشتماله على بعض الوقائع التي لم تتضمنها المؤلفات التاريخية الأخرى، وكذا تطرقه إلى بعض الحوادث المهمة التي شارك فيها مؤلفه وكان طرفا فيها كمسألة الصراع العثماني الصفوي، والحملات العسكرية العثمانية كالجالديران ومرج دابق.
– تضمنه بعض الملاحظات التي دونها لطفي باشا على أوجه الخلل التي بدأت في التطرق إلى الدولة وتنبيه على ضرورة تداركها، ولعله أول من فطن إلى ذلك.
سيرة رجل دولة من عصر الازدهار
هو لطفي عبد المعين الملقب بـ(لطفي باشا)، ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ ميلاده؛ وإن كان مترجم الكتاب يرجح أنه ولد عام 1488 مستدلا على ذلك بكونه عُين في القصر السلطاني عام 1508 وهو في العشرين من عمره، وهو أحد أبناء الدوشيرمه (النصارى) الأرناؤوط الذين جيء بهم زمن السلطان بازيد الثاني، وعند وصوله استانبول شرع في تعلم المعارف وأجاد العربية والفارسية وقضى في ذلك سنوات، وبعدها التحق بعدة وظائف داخل القصر السلطاني، وأخذ يشق طريقه سريعا فعين واليا على سوريا ثم على الروملي وشارك في الحملات العسكرية على بلغراد ورودس وتبريز وبغداد، وخرج مع خير الدين باربروسا في حملته على جنوب إيطاليا وجزيرة قورفه، وهو الذي وجه اهتمام السلطان سليم الأول إلى أهمية تقوية الأسطول العثماني وبذل جهودا كبيرة في هذا الصدد، وقد تزوج من شقيقة سليمان القانوني، وتعين في منصب الصدارة العظمى عام 1539 إلا أن السلطان عزله بعد عامين ونفاه، فعكف على القراءة وتفرغ للتأليف ومصاحبة العلماء والشعراء حتى توفي عن عمر يناهز الخامسة والستين.
وقد اشتهر لطفي باشا بخصلتين، الأولى تدينه وورعه حتى وصفه أحد معاصريه وهو سهى باشا بأنه “صاحب حياء وأدب تزينه الاستقامة ويتحلى بالتدين.. لم تعرف الدولة العثمانية منذ ظهورها وزيرا مسلما متدينا وقورا مثله”، والثانية ثقافته ومعارفه التي جسدتها جملت مؤلفاته التي تنوعت ما بين التاريخ والفقه والسياسة والفلسفة والتصوف وعلم الكلام، والتي كتبها باللغتين العربية والتركية؛ ومن أشهر مصنفاته التركية: (آصف نامة) وهي رسالة في شئون الحكم والسياسة ضمنها خلاصة خبرته السياسية والإدارية، قدم فيها لما ينبغي أن يكون عليه الوزراء في إدارة شئون الدولة والرعية، و(تنبيه الغافلين وتأكيد الغافلين) وهو كتاب ديني يتعلق ببعض الأمور الدينية كالعلم والإيمان، و(أمور مهمات) وهي رسالة في الطب. ومن مصنفاته العربية (زبدة المسائل في الاعتقادات والعبادات) و(لطائف الكنوز في لطائف الرموز في الأحاديث الأربعين) و(خلاص الأمة في معرفة الأئمة).
محتويات الكتاب ومنهجه
يقع كتاب (تواريخ آل عثمان في حوالي أربعمائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط، ويتناول الأحداث والوقائع التاريخية للدولةِ العثمانية منذ النشأة حتى عام 1553م، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
القسم الأول: تحدث فيه المؤلف عن حياته وآثاره، ودواعي تأليف الكتاب ومما ذكره في ذلك أن السلاطين والملوك السابقين الذين مر ذكرهم في كتب التاريخ كانت لهم آثار محمودة وأخرى مذمومة إلا آل عثمان “فعقيدتهم طاهرة ونقية، وهم المسلمون السنة الذين تزينوا بمكارم الأخلاق”، ومن ثم حق عليه أن يؤرخ لهؤلاء السلاطين العظام.
القسم الثاني: تناول فيه المؤلف الحديث عن نشأةِ الدولة العثمانيةِ حتى عصر السلطان بايزِيد الثاني، وقد اعتمد المؤلف في هذا القسمِ على ستة مصادر رئيسية هى: تاريخ كزيده، وتواريخ الفردوسي، وتواريخ مسكويه، وتاريخ الطبري، وتواريخ آل سلجوق، وطبقات الفقهاء لـ “أبو إسحاق الشيرازي”.
القسم الثالث: يبدأ من نهايةِ عصر بايَزِيد، أي مِن عام 1508م إلى عام 1541م، واعتمد فيه المؤلف على كل ما رآه وسمعه وشارك فيه، وهو أكثر أجزاء الكتاب أهمية لاحتوائه على تفصيلات وحوادث نادرة وربما لا نجد لها أثرا في المصادر المعاصرة له، ومن أمثلتها: حديثه المفصل عن الحملات العسكرية التي شارك فيها في: بلغراد ورودس وانكروس، وحديثه عن المظالم التي ارتكبها رجال البريد أثناء نقلهم للرسائل، من استغلال مناصبهم والأحكام السلطانية التي ينقلونها.
وقد تعامل مترجم الكتاب مع النص بمهنية وحيادية حيث قام بنقل الكتاب مع مقدمته وحواشيه للعربيةِ نقلا أصيلا، معتمداً على الطبعة التي قام بها عالي أفندي في استانبول عام 1341هـ، وقدم لها كليسلي معلم رفعت، فأعاد تقسيم النص إلى فقرات وفقاً للموضوعِ، ووضع عناوين لها، وعرف بالمصطلحات، وبعض أسماء الأماكنِ والأعلام فيها، فكان عملا متكاملا بحق.
وبالجملة فإن ترجمة كتاب (تواريخ آل عثمان) يعد إضافة معرفية إلى المكتبة العربية التي تعاني نقصا ملحوظا في حركة الترجمة عن اللغات الشرقية عموما والتركية خصوصا، ومن شأن هذه الترجمات الإسهام في تعزيز التواصل الحضاري بين الشعوب الشرقية، وكشف التحيزات الكامنة في المصادر الغربية عن التاريخ العثماني.