قليل ما يجود الزمان برجال “أمة”، تجتمع فيهم خصال الأمة ومقوماتها التي إن توفرت في مجموع الأمة انتقلت من حالة إلى حالة..من حالة السكون إلى حالة الحركة، ومن حالة الركود إلى حالة العمل والحركة، ومن حالة الانطفاء الحضاري إلى حالة التوهج والعطاء، إنه جمال الدين عطية “العالِم الأمة”، تحرك –رحمه الله- في الأمة بطابع الفارس الذي شق كل غمار أرضها البكر، حاملًا هم التجديد الحضاري والاجتهاد المعرفي على عاتقه، وكان تحركه على جبهتين جبهة خارجية لمواجهة مشاريع الاستلاب الحضاري والتغريب التي تغلغلت في الأمة، وجبهة داخلية لمواجهة الجمود والتقليد التي تمكنت من العقل والواقع المسلم في ظل حالة التراجع الحضاري للأمة، وفي ظل ذلك طرح فكرته الفريدة التي تجمع بين أصالة الذات الإسلامية والتي فقدتها الأمة في ظل شوائب عديدة علقت بتلك الذات، وبين شهودها وانفتاحها على العصر الذي غابت عنه بفواعيل عديدة، فطرح سفينة “المسلم المعاصر” لتكون أصدق تعبير عن حركة الأمة الحضارية وحاجتها للانتقال إلى مجتمع التحضر المنشود.

حملت هذه السفينة من كل زوجين اثنين، المسلم والمعاصرة في الاقتصاد والاجتماع والفقه والمنهج، فكانت أصدق تعبير عن احتياج الأمة ومتطلبات بعثها الشهودي من جديد،  يرجع تأسيس مجلة المسلم المعاصر كما يذكر مؤسسها جمال الدين عطية ( 1928) إلى خمسينيات القرن الماضي وكانت فكرة في نفوس مجموعة من الشباب المسلم المثقف الذي استشعر أهمية فكرة ” المؤسسية” في العمل الفكري الإسلامي، ويذكر في ذلك قوله “… وكان الحل الذي توصل إليه هؤلاء الشباب بعد سعي عدة سنوات هو إصدار مجلة فصلية تكون منبرًا للتعبير عن رؤيتهم، وندوة مطبوعة يتبادلون على صفحاتها الرأي، فكان ميلاد مجلة المسلم المعاصر سنة 1974، محطة جديدة في هذه الرحلة الفكرية”.*

أسهم  العلامة الأمة جمال الدين عطية في تطوير حركة الفكر الإسلامي في ضوء احتياجات الأمة الراهنة والمستقبلية ، وفي ضوء تشخيص لحالتها الفكرية والاجتماعية، فكانت اجتهاداته المعرفية تشكل مناهج وطرقًا وسبلًا للعمل والتشغيل فيها، وأهم مجالات تلك الاجتهادات ما يلي:

– التنظير/التجديد في مجال الفقه وأصوله.

– تجسير العلاقة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية.

– دراسات فقه الواقع.

– البنوك الإسلامية وتأسيس “اقتصادنا”.

– الفنون وبناء الإنسان المعاصر.

– تجديد التعامل مع مصادر المعرفة الإسلامية والغربية.

كل هذه المجالات حملتها سفينة المسلم المعاصر لتكون سبيلًا لإنقاذ الأمة وبعث حركة التجديد فيها، وفيما يلي سوف نتناول جانبًا من الاجتهاد المعرفي الذي قدمته تلك السفينة لربانها الفارس العالمِ الأمة جمال الدين عطية. حيث مثلت سفينة (مجلة) المسلم المعاصر نقلة معرفية ومؤسسية مهمة لحركة الإصلاح المعرفي في العصر الحديث، حيث انتقل “الاجتهاد المعرفي” الذي  بدأه محمد عبده في العصر الحديث واستمر فرديًا ومتناثرًا في أطراف الأمة المترامية الأطراف إلى الطور الجماعي بتأسيس تلك المجلة التي أحدثت بتأسيسها ثورة تنظيرية كبرى في حركة الفكر الإسلامي المعاصر.

الإطار الفكري لعمل مجلة المسلم المعاصر

أعلنت مجلة “المسلم المعاصر” بدءًا من العدد الافتتاحي على صدر غلافها ميدان عملها المعرفي ووصفت نفسها بأنها “مجلة فكرية تعالج شؤون الحياة المعاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية” ثم عدلت هذا الوصف في العددان(51 – 52) إلى أنها “مجلة فكرية ثقافية تعالج قضايا الاجتهاد المعاصر في ضوء الأصالة الإسلامية “وفي العدد (49) تعلن المجلة عن قواعد النشر وأشارت إلى أن “قضيتها الأساسية هي: “المعاصرة” وهذه القضية ذات مداخل ثلاثة هي: الاجتهاد، والتنظير، وإسلامية المعرفة”.

من خلال هذا التوصيف الذاتي يمكن أن نحدد مجالين أساسيين لعمل المجلة وانشغالها الفكري وهما: مجال الاجتهاد، والثاني مجال المعرفة أو ما أسمته المجلة بـ”التنظير” والذى عرفته بعد ذلك بأنه :”بلورة نظرية عامة للإسلام تؤدي إلى أغراض ثلاثة :أولها، أن تكون نقطة البداية لنظريات خاصة في كل فرع من فروع المعرفة، وثانيها: أن تكون بيانًا لتعريف غير المسلمين بكلياته، وثالثها: أن تكون ميثاقًا للمسلمين ينطلقون من مبادئه المتفق عليها لبناء حضارتهم المعاصرة”.[1]

فالمجال الاستراتيجي لعمل مجلة “المسلم المعاصر” وفقًا لما أعلنته هو: “الاجتهاد المعرفي” من أجل الوصول إلى نظرية إسلامية في مجالات العلوم والمعارف الإنسانية تكون نواة للانطلاق الحضاري في عالم المسلمين المعاصر، وتستكمل به طريق الأمة الحضاري، وحركة الإصلاح المعرفي.

إن فكرة الاجتهاد في ذاتها تحمل بعُدين أساسيين هما: بُعْد الثبات، و بُعْد التغير أو المعاصرة،  وهو ما أشارت إليه المجلة في صدر غلافها بهذه المقولة المعرفية التي تبرز هوية ذلك النشاط الفكري لها بأنها “فصيلة فكرية تعالج شؤون الحياة المعاصرة على ضوء الشريعة الإسلامية” ثم تفسر وتبين طبيعة ذلك الاجتهاد الذي تسعى إلى تحقيقه المجلة وتدعو إليه “فالاجتهاد الذي تدعو المجلة إلى ممارسته يتجاوز التراث مرتين: يتجاوزه مرة التجاوز الواعي الدارس المستفيد من التراث إلى أصول الهدى الإلهي الذي أنزله الله، ويستتبع ذلك أن يكون اعتماده على المنابع الأولى: الكتاب والسنة، يستلهمهما المقاصد والأهداف ويستوحيهما المبادئ والأصول،… ويتجاوز الاجتهاد – الذي تدعو المجلة إلى ممارسته – التراث مرة أخرى واعيًا دارسًا مستفيدًا أيضًا ليلتحم بالعصر ناهلًا من علومه ومتفاعلًا مع قضاياه ومتفهمًا لمشكلاته، ثم رائدًا متطلعًا لمستقبل أفضل”.[2]

ومن ناحية أخرى فإن أهم مشاكل العصر الحديث لا تحل عن طريق سبل الاجتهاد المعروفة لأنها لا تصلح لها. وعدم الصلاحية لا يرجع هنا إلى نوعية الطرق، بل نوعية المشاكل التي يواجهها العصر الحديث. فمن جهة إن المسلم المعاصر سواء أكان من المتخرجين من الجامعة المتشربين لتعاليمها الغربية أو من أهالي المدن الذين تخلقوا بأخلاق المستغرِب، لم يعد يدين بالولاء لأي مذهب فقهي. ومن جهة أخرى: المشكلات التي تعترضه يتطلب حلها الخوض لا في الفروع بل في أمهات المبادئ التي يعتبر الاجتهاد فيها اجتهادًا مطلقًا. والاجتهاد المطلق اليوم بلا قواعد أحكم تنسيقها وتقديمها حسب ما تقتضيه المنهجيات الحديثة فالمطلوب اليوم هو تنظير القيم الإسلامية أو المبادئ الأولى، أي ربطها ببعضها بحيث تؤلف في مجموعها هرمًا يتسلسل فيه الفكر، بمنطق الضرورة، من طبقة إلى طبقة. وهذا يتطلب تحديدًا المبدأ الأول في الإسلام ثم استنباط ما يحويه من مبادئ وتحديد أولوياتها وتفاضلها، بحيث يكون الهرم مقياسًا لما نريد أن نقيس عليه من مسائل العصر.[3]

وتضيف المجلة بأن حركة “الاجتهاد والتنظير” في الأمة تساوق لحركة الإبداع وتحقق غاية الإسلام في الكون “إن الاجتهاد  ظاهرة الفكر الحي والتأمل المبدع والوعي بالمسائل الجديدة وأحوال الحياة المتغيرة، وهو – أيضًا – ظاهرة لحركة في الوعي تنشد الشمول والعمق في تطبيق التوحيد – أي في تجسيمه في التاريخ- ولا معنى قط جدير بالاعتبار غير هذا لما أراد تعالى من “جعل كلمة الله هي العليا”.[4]

سعت المجلة-أيضًا- في بنائها لمفهوم “”الاجتهاد المعرفي”” إلى تجاوز المفهوم التقليدي للاجتهاد عند السلف الذي انحصر في “عملية استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية أو مصادرها الأصولية. حيث أخذ المسلمين هذه العملية مأخذ التخصص القضائي، ففهموها على أنها لا تتعدى المحاكم الشرعية فيما يؤول إليها من مسائل”[5] وانتقدت في نفس الوقت غياب تساؤلات الواقع الفكري الإسلامي عن العقل المسلم في علاقات الإسلام بذلك الواقع وردوده ومعالجته له”… فلم يتساءل المسلمون عن علاقة الإسلام بالآداب والعلوم والفنون التي بقت خارج تلك المسائل، ولا بالتجارة والزراعة والصناعة، ولا سبل العيش الأخرى من سياسية وعسكرية واجتماعية إلا ما اتصل منها بالقوانين والمحاكم، ثم فاق المسلمون من هذا السبات فوجدوا أن الأثاث في بيوتهم فرنجي، والملابس فرنجية، والعمارات فرنجية، وأن أدبنا أخذ في التفرنج مثل بقية فنوننا المرئية. بل إن لغة التخاطب عندنا كثيرًا ما تعتريها المصطلحات الفرنجية”.[6]

وهكذا تحدد مجلة المسلم المعاصر إطار عملها وحركتها الفكرية في التنظير والاجتهاد الفكري في قضايا وإشكالات النهضة الإسلامية وبعث فكرة الاجتهاد في نفوس الباحثين والعاملين في حركة المشروع الإسلامي الناهض، من خلال مراعاتها للثوابت المقررة في الإسلام، وكذلك مراعاة مستجدات العصر وتغيراته التي يجب أن يحدث العقل المسلم جسرًا بينهما من خلال حركة الاجتهاد وفاعليتها الاجتماعية والثقافية في واقع الأمة.


* انظر جمال الدين عطية:” صفحة من تاريخ الخطاب الإسلامي المعاصر”, مجلة المسلم المعاصر, العدد (87), أبريل 1998, ص 203.

[1] جمال الدين عطية: “المسلم المعاصر في عشر سنوات”، مجلة المسلم المعاصر، العدد (40)، السنة العاشرة، أكتوبر 1984، ص7.

[2] المرجع نفسه، ص7 – 8.

[3] إسماعيل الفاروقي: “الاجتهاد والإجماع كطرفي الديناميكية في الإسلام”، العدد (9), ص12.

[4] المرجع نفسه، ص17.

[5]المرجع نفسه،  ص10.

([6])إسماعيل الفاروقي: مرجع سابق، ص10.