استقرت الدراسات في علوم القرآن على تقسيم التفسير إلى ثلاثة أقسام:
تفسير بالرواية ،ويسمى التفسير بالمأثور.
وتفسير بالدراية ويسمى التفسير بالرأي.
وتفسير بالإشارة ويسمى التفسير الإشاري .
والمراد بالقسم الأول (التفسير بالمأثور ) : هو ما جاء في القرآن، أو السنة، أو كلام الصحابة بيانا لمراد الله تعالى من كتابه.
ولا شك في أن هذا النوع من التفسير هو التفسير الأسلم، والأبعد من الوقوع في الخطأ. وهو الذي يجب تقديمه على غيره.
ولكن، هل يُمكن أن تشكل هذه المصادر ( القرآن والسنة وآثار الصحابة) مادة كافية لتفسير القرآن، بحيث يستغنى بها عن الاحتياج إلى التفسير بالرأي والاجتهاد؟
أولا : تفسير القرآن بالقرآن:
يمثل تفسير القرآن بالقرآن أقل أنواع هذه المصادر، وذلك مثل قوله تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] ، فالواو في قوله:(وعلى سمعهم وعلى أبصارهم) محتملة في الموضعين أن تكون عاطفة على ما قبلها، فيكون الختم على القلوب والأسماع، وتكون الغشاوة على الأبصار فقط، وأن تكون استئنافية، فيكون الختم على القلوب فقط، وتكون الغشاوة على الأسماع والأبصار معا .
فنجد أن القرآن في موضع آخر أزال هذا الإجمال وبينه في قوله : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]
فبين أن قوله: (وعلى سمعهم) معطوف على قوله: (على قلوبهم)، وأن قوله: (وعلى أبصارهم) استئناف، والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو (غشاوة) .
فتحصل أن الختم على القلوب والأسماع، وأن الغشاوة على الأبصار. فهذا من تفسير القرآن بالقرآن. [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 12)]
ثانيًا : تفسير القرآن بآثار الصحابة
ما صح عن علماء الصحابة مما يتعلق بالمعاني اللغوية أو عمل عصرهم، لا شك أنه مقدم على غيره؛ لكن الصحيح من هذا النوع قليل.
غير أن المنقول عن الصحابة، في مجال قصص الرسل مع أقوامهم، وما يتعلق بكتبهم ومعجزاتهم، وفي تاريخ غيرهم كأصحاب الكهف ومدينة إرم ذات العماد، وسحر بابل وعوج ابن عنق، وفي أمور الغيب من أشراط الساعة وقيامتها وما يكون فيها وبعدها، ونحو هذه الأمور، هذه التفسيرات قد سرت إلى الرواة من زنادقة اليهود، والفرس، ومن أسلم من أحبار اليهود والنصارى، فصاروا يحدثون بما يعرفونه من هذه التفصيلات، مما كانوا قد عرفوه من دينهم قبل إسلامهم، وقد صدقهم الناقلون عنهم، بمن في ذلك بعض الصحابة [تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 8)، و مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 14)، وتفسير المنار (1/ 8)].
هل فسر النبي ﷺ القرآن كاملا أولا ؟
ثالثا : تفسير القرآن بالسنة
يدور في كتب علوم القرآن كلام ضافي الذيول حول الإجابة عن هذا السؤال : هل فسر النبي ﷺ القرآن كاملا أولا ؟
وتذكر الدراسات الرأيين المتقابلين في المسألة، فريق ينفي، وفريق يثبت، وكلما زادت الدراسات، كلما اجتذب كل فريق أنصارًا جددًا، وتُبحث المسألة بحثا نظريًّا بعيدا عن الجرد الميداني.
ومؤخرا، قدم الدكتور خالد بن عبد العزيز الباتلي دراسة ميدانية حول الإجابة عن هذا السؤال بشكل عملي، فقد اختار الباتلي ألا تكون معالجته لهذه المسألة معالجة نظرية، ينتصر فيها لأحد الرأيين السابقين، واختار أن يفتش عن الأحاديث النبوية الشارحة للقرآن، ويعدها عدًّا، ويحصيها إحصاء، وبهذا يمكن أن يتبين وجه الحق في المسألة بعيدا عن القسمة العقلية، والنظرة الافتراضية.
116 حديثا صحيحا فقط
فجمع الباتلي الأحاديث الأحاديث المرفوعة إلى النبي ﷺ، الواردة تفسيرا لآي القرآن الكريم، مدرجًا فيها الآثار الموقوفة على الصحابة التي لا يقال مثلها بالرأي؛ باعتبارها في حكم المرفوعة، فكان مجموع هذه الأحاديث (318) حديثا فقط، تشمل المقبول والمردود!
ثم قام الباتلي بدراسة أسانيد هذه الأحاديث حسب قواعد علم الحديث، فانتهى إلى أن ثمة (190) حديثًا من هذه الأحاديث تعتبر مردودة غير مقبولة، فمنها الضعيف، والضعيف جدا، والموضوع.
أما عدد الأحاديث المقبولة، فكانت (116) حديثا مقبولا فقط ، منها الصحيح والحسن بنوعيهما.
وتوقف في (12) حديثا، لم يتبين له حكم جازم عليها.
ومن المفاجآت التي كشفت عنها هذه الدراسة الميدانية أن أكثر من نصف هذه الأحاديث المقبولة، مما رواه البخاري ومسلم بالاتفاق أو الانفراد؛ إذ وجد أن (59) حديثا منها، إما متفق عليه بين البخاري ومسلم، وإما في البخاري فقط، وإما في مسلم فقط.
والباقي، وعدده، (57) حديثا في بقية كتب السنة.
ليس عن السنة غناء
لا شك أن هذه الدراسة تقلِّص كثيرا مساحة التفسير بالمأثور؛ لأنها بينت عزة ومحدودية الناتج الأثري، فأصبحت الروافد الثلاثة للتفسير بالمأثور، لا يمكنها أن تغطي عدد آيات القرآن، بل ربما لا تغطي سور القرآن، فقد كشقت دراسة الباتلي أن هناك سورًا كاملة لم يصح في تفسيرها بيان نبوي واحد، مثل سورة ( يوسف، والنور، والفرقان، والنمل، والعنكبوت، والروم، ولقمان….)
وبعض السور صح فيها حديث واحد، مثل سورة الأنفال.
لكن، ليس هذا معناه إمكان الاستغناء عن السنة، أو تقليل الانتفاع بها في تفسير القرآن؛ وذلك لسببين :
السبب الأول : أن هذه الدراسة المسحية انطلقت من أن المراد بالتفسير النبوي، هو “ما ورد عن النبي -ﷺ- من قول أو فعل أو تقرير في بيان معاني القرآن”. [التفسير النبوي (1/ 55)].
ومثل للتفسير القولي بتفسير النبي ﷺ المغضوب عليهم، بأنهم: اليهود، والضالين: النصارى.
ومثل للتفسير الفعلي بصلاته ﷺ جاعلاً المقام بينه وبين البيت، تفسير فعليًّا لقوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].
ومثل للتفسير بالإقرار، بإقراره عمرو بن العاص حينما سأله فقال: (با عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟!) قال: قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل: {ولَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
السبب الثاني : أن جميع السنة شرح للقرآن كما قال الإمام الشافعي– رحمه الله-.[ نقله عنه السيوطي في (الإكليل في استنباط التنزيل) 1: 237. ]
ومنها أسباب النزول التي تعين على فهم الآية بسبب ما فيها من ملابسات وسياقات.
قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-: “فهم المعنى والمراد منها -يعني الآيات القرآنية-؛ موقوف على معرفة أحوال الرسول، وسيرته مع قومه وأصحابه، وغيرهم من الناس، فإن الأزمنة والأمكنة والأشخاص تختلف اختلافا كثيرا.
فلو أراد الإنسان أن يصرف همه لمعرفة معاني القرآن من دون معرفةٍ منه لذلك؛ لحصل من الغلط على الله وعلى رسوله -ﷺ-، وعلى مراد الله من كلامه، شيء كثير” .[ تيسير الكريم الرحمن 1: 14].