من تبعات الخصومات السياسية والمذهبية التي شهدها المجتمع الإسلامي بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، إسقاط هيبة النصوص الدينية، ومحاولة استقطاب الرأي العام بتوجيه معاني الآيات والأحاديث، لتبديد الاحتقان الناجم عن الانتقال من نظام الخلافة الراشد إلى توريث الحكم بين بني أمية. غير أن إعادة تدوير الفهم ليتناسب مع الوضع السياسي آنذاك، سيؤدي في النهاية إلى توسيع دائرة المتلاعبين بالنصوص، لتنشأ حركة مدروسة تخصصت في وضع الأحاديث ونسبتها للرسول الكريم ﷺ، بهدف تعميق أسباب الفرقة داخل المجتمع الإسلامي. ثم تفشى الأمر بطريقة وبائية، وأصبح الحديث جزءا من ثقافة مجتمعية، تعتمده كأداة لتسويق البضائع، وإحياء النعرات القومية، وتبادل الإساءة بين الفئات المهنية المختلفة.
كانت فئة المعلمين عُرضة كغيرها لأحاديث موضوعة، تراوحت بين إضفاء رمزية مبالغ فيها، أو الإساءة لدورهم التربوي والمعرفي. وتكشف بنية كل حديث عن توتر اجتماعي، يعلله آدم ميتز بانتشار الصورة الهزلية للمعلم في الروايات اليونانية، بينما تمتد جذوره إلى طبيعة الخلاف بين الفقهاء حول جواز أخذ الأجرة عن التعليم، ومواقف بعض العلماء الذين تبنوا عمليا هذا الموقف، بامتناعهم عن أخذ أي مبلغ نظير جهدهم التعليمي في المساجد والمدارس.
تكشف النصوص التي أوردها ابن الجوزي في كتبه الشهير “الموضوعات” عن تراجع مكانة المعلم، وتحديدا معلمي الصبيان ومعلمي الكتاتيب، وهم الأقرب إلى الاحتكاك اليومي بعامة الناس، وبالتالي الأكثر عرضة للمز والمضايقة. ويعزز هذا الطرح حكاية سعد بن طريف الإسكاف الذي قال عنه ابن حبان أنه كان يضع الحديث على الفور؛ فقد جاءه ابنه يبكي، فقال: يا بني مالك؟ قال : ضربني المعلم، فقال: والله لأخزينهم اليوم. حدثني عكرمة عن ابن عباس : شراركم معلموكم، أقلهم رحمة على اليتيم، وأغلظهم على المسكين.
وفي حديث آخر منسوب إلى ابن هريرة، تثار مسألة العدل بين المتعلمين، حيث وُضع حديث مفاده أن معلم الصبيان إذا لم يعدل بينهم كُتب يوم القيامة مع الظَلمة.
وانتقل الشد والجذب حول جواز أخذ الأجرة على التعليم إلى عموم الناس، فتولت الأحاديث المكذوبة إصدار تحريم نهائي، ونزع البركة عن أجور المعلمين؛ ففي حديث منسوب إلى أنس: ألا أحدثكم عن أجر ثلاثة؟ قيل : من هم يا رسول الله؟ قال: أجر المعلمين والمؤذنين والأئمة حرام.
لكن أغرب ما ارتبط بالمعلمين في المخيلة المجتمعية آنذاك، هو الإيحاء بوجود صلة بين متاعب المهنة وتراجع القدرات الذهنية؛ فالمعلم أنموذج للحمق وخفة العقل، وأحرى ألا يُستشار أو يوثق برأيه في أية نازلة أو قضية.
وصار من أمثال العامة: أحمق من معلم ! ويبدو أن مصدر هذا التمثل هي ملاحظة أثارها المؤرخ العربي ابن حوقل (ت367هـ/977م) في وصفه المفصل لجزيرة صقلية، حيث يحكي عن أهلها أنهم يكثرون تناول البصل النيء، مما أفسد أدمغتهم وحير عقولهم، “فرأوا الأشياء على غير ما هي عليه؛ ومن ذلك أنهم يرون المعلمين أفضلهم، وأنهم أهل الله، وهم شهودهم وأمناؤهم؛ هذا على ما اشتهر عن المعلمين من نقص عقولهم وخفة أدمغتهم”.
وهكذا يرى ابن حوقل أن مكانة المعلمين في المجتمع الصقلي، وإعفاءهم من الجندية وخوض غمار الحروب هو من تداعيات الإفراط في تناول البصل، وفساد الفهم؛ لذا تزايدت أعدادهم في أرجاء البلد بشكل لافت للانتباه.
تلك إذن هي الملاحظة التي تلقفها عموم الناس، فجعلوا من الحديث الموضوع قالبا تعبيريا لتثبيت هذا الوهم، وإشاعته في العالم الإسلامي الذي ارتبطت أصول شريعته أحكامها بالعلم والتعلم أيما ارتباط؛ فنسبوا إلى أبي أمامة توجيها نبويا مفاده: لا تستشيروا الحاكة- النساجين- ولا المعلمين؛ ثم تفضل أحدهم فزاد فيه: ” فإن الله عز وجل سلبهم عقولهم، ونزع البركة من أكسابهم”.
الطريف في الأمر أن هناك من سعى لتأكيد هذه الأحكام العرجاء، وإظهار أن خلفها نية حسنة، على الأقل في الشق المادي للمسألة؛ حيث أن الإبقاء على المعلم في درك السلم الوظيفي ينطوي على حكمة تتعلق بصيانة العلم، وحفظ القرآن؛ فكان من أغرب النصوص التي عرضها ابن الجوزي في هذا الباب، حديث زور منسوب لأنس جاء فيه: أن بعض الصحابة في مجلس النبي ﷺ رفعوا أيديهم، ثم رددوا خلفه هذا الدعاء: اللهم أفقِر المعلمين كي لا يذهب القرآن، وأغن العلماء كي لا يذهب الدين !
بالمقابل، تبنت بعض النصوص الأخرى موقفا دفاعيا، واتخذت هي أيضا من كلام النبوة المفبرك والموضوع وسيلة لاستعادة كرامة المعلم- كالدعاء المنسوب إلى ابن عباس “اللهم اغفر للمعلمين ثلاثا، وأطل أعمارهم، وبارك في كسبهم”- رغم أن في مكتبة الحديث توجيهات نبوية صحيحة، تؤكد مكانة المعلم في خاتمة الرسالات.
يلقي حديث المعلمين في كتاب “الموضوعات” بظلاله على العديد من ردود الأفعال التي تمس الجسم التعليمي بكل بلد. فلا تزال فئة عريضة حتى اليوم، تستشعر حيرة بين ما تتطلبه الوظيفة من تحسين لشروط العمل، وملاءمة الأجور مع مستوى المعيشة؛ وبين بُعد “رسالي” مفعم بقيم التضحية والنبل ونكران الذات. ومنذ أن أصبح المجتمع شريكا في إصلاح المدرسة العمومية ودعم أدائها، لاحت بعض تداعيات سوء الفهم التي تحتاج إلى بحث جذورها، ورصد امتداداتها في المواقف والسلوك.
يلخص الموسوعي العربي أبو زيد البلخي صورة التعليم في عصره بالقول: هو عيش مر وحرفة محتقرة؛ وبذلك يعرض مفتاحين بليغين لكل مشروع إصلاحي: تحسين الأوضاع، وتبديد التمثلات القاتمة!