لكل كلمة يسمعها الإنسان أو ينطق بها تأثيرها على عقله وقلبه وروحه ومن بين الكلمات ذات التأثير الكبير على الإنسان حسبنا الله ونعم الوكيل ومن بين تأثيرها ما ذكره الله تعالى في قوله {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174)} [آل عمران].
أدرك السلف الصالح ما لهذه الجملة القرآنية الكريمة من تأثير، فكان نقش خاتم الإمام مالك رحمه الله حسبي الله ونعم الوكيل وسأله مطرف بن عبد الله عن سر اختياره لهذه الآية الكريمة فقَالَ: “إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِقَوْمٍ قَالُوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء}. فقال مطرَّف: فَمَحَوْتُ نَقْشَ خَاتَمِي وَنَقَشْتُهُ (حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[1] لذلك قال ابن طيفور في كتاب بغداد: “وحسبنا الله ونعم الوكيل أقوى معِين وَأهْدى دَلِيل”. وحقا ما قال فاكتفاء الانسان بربه وبقوته وتأييده ونصره وتوفيقه أقوى معين وأهدى دليل لأقوم سبيل.
ومن عناية العلماء بهذه الجملة الكريمة أن حُسَيْن بن مُحَمَّد بن عَليّ أَبُو سعيد الْأَصْبَهَانِيّ الزَّعْفَرَانِي الذي قَالَ عنه أَبُو نعيم كثير الحَدِيث صَاحب كتاب الْمعرفَة والاتقان كان َله حَدِيث فِي تَفْسِير {حسبنا الله ونعم الوكيل} كما قال البيضاوي[2]
وهذه الجملة الكريمة مما اتفق عليه الأنبياء فعن ابن عباس قال لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال حسبي الله ونعم الوكيل قال وكذلك قال محمد (ﷺ) حين قيل له ” إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [3]
وهي عند أصحاب الفطر السليمة “جاء في بعض الأخبار أن إبراهيم لما وضع هاجر وإسماعيل بموضع الكعبة وكر راجعا أقبلت عليه هاجر فقالت: إلى من تكلنا، قال: إلى الله، قالت: حسبنا الله، فرجعت وأقامت عند ولدها حتّى نفد ماؤها وانقطع درها فارتقت إلى الصفا حتى تنظر هل ترى عينا أو شخصا، فلم تر شيئا فدعت ربها واستسقته، ثم نزلت حتى أتت المروة ففعلت مثل ذلك، ثم سمعت أصوات السباع فخشيت على ولدها فأسرعت تشتد نحو إسماعيل فوجدته يفحص الماء بيده عن عين قد انفجرت من تحت عقبه[4].
قال النبي ﷺ حسبنا الله ونعم الوكيل حين جمعت الجموع التي يملؤها الحقد والاستعداد للبغي والعدوان وكان لهم من يقوم بحرب معنوية بالوكالة فحاول أن يثير الرعب والفزع في صفوف المسلمين، لتنتهي الحرب قبل أن تبدأ حين قالوا للمسلمين إن الناس قد جمعوا لكم، ولم تحدد الآية ما جمعوا، لكي يتخيل الإنسان أن الأعداء قد جمعوا رجالا كثيرا وسلاحا أكثر وكلفت حملتهم العسكرية هذه الأموال الضخمة، لكن السحر انقلب على الساحر، وتسببت هذه الكلمات الخبيثة بصمود معنوي عجيب مستند إلى الإيمان بالله تعالى، فازداد المؤمنون إيمانا بتأييد الله تعالى ومعونته سبحانه لهم، هذه المشاعر القلبية تبعها أفعال تصدقها من الخروج مع النبي ﷺ رغم قلة عددهم وكثرة عدوهم ورغم ما بهم من جراح.
هؤلاء الذين قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل حازوا عدة مكاسب وتركت فيهم هذه الجملة عدة آثار:
- تثبيت اليقين في الله تعالى بأنه وحده جل جلاله من يكفي عبيده شر أعدائهم مهما كانت قوتهم {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36]، فمن توكل على الله تعالى كان الله عز وجل كافيه وقائم على أموره يدبرها له، ويصرف عنه كيد عدوه، وإذا كان الأعداء يحتمون بقوتهم، فإن المؤمنين يحتمون بالله الذي يقول {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64].
- أنهم انقلبوا بنعمة من الله حيث عافاهم الله تعالى من لقاء العدو.
- أن الله تعالى ألقى الرعب في قلوب أعدائهم منهم.
- أنهم ربحوا أموالا من خلال تجارتهم في سوق قريب من أرض المعركة ومع ما ربحوه من أموال، ظهر صدق ما في قلوبهم من محبة الله تعالى ومتابعة نبيه، ففضل الله تعالى عليهم كان ربحا ماديا وشرفا معنويا.
- لم يمسسهم سوء أثناء رحلتهم أو عودتهم مع ما كانوا يتوقعونه من قتل وقتال إلا أن السوء كان بعيدا عنهم فلم يمسسهم فضلا عن أن يقع بهم.
- أنهم اتبعوا رضوان الله وأي شيء أعظم من رضوان الله، أو ما يوصل لرضوان الله ومن كان ساعيا فيما يرضي الله تعالى كان ذا حظ عظيم، وقد ذكر الله تعالى كلمة فضل في قوله تعالى {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} بصيغة النكرة للدلالة على أن هذا الفضل لا حصر له وأتبعه سبحانه بأن فضله عز وجل عظيم، لأنه جل جلاله هو العظيم، فكل ما يأتي منه من فضل وإحسان ورحمة عظيم، وإذا كان الله تعالى أعطاهم من فضله العظيم هذه الآثار الحسنة في الدنيا فإن ما ينتظرهم في الدار الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا.
- إدراك حقيقة هذه الحرب النفسية وأنها أثر من آثار الشيطان يخوف أولياءه ولقاء المؤمنين للكافرين دون أن يخافوا، وبقاؤهم لأيام في المكان المحدد للمعركة أثر آخر من آثار حسبنا الله ونعم الوكيل، وحق لأولياء الشيطان أن يخافوا لأنهم لا يفكرون إلا في الدنيا، أما أولياء الرحمن فإذا فاتهم شيء من الدنيا فمتاعها على كثرته وتنوعه قليل، {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77]، وينتظرهم دائما الظفر بالنصر أو الظفر بلقاء الله تعالى بوجوه بيضاء وأعمال صالحة.
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي نطق بها النبي ﷺ بهذه الجملة الكريمة ففي غزوة الأحزاب حين اجتمعت جموع الكفر من الخارج وخيانة اليهود من الداخل فكان المسلمون بين طرفي الكماشة، “ودس أبو سفيان بن حرب حيي بن أخطب إلى بني قريظة يسألهم أن ينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم، ويكونوا معهم عليه فامتنعوا من ذلك، ثم أجابوا إليه وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال حسبنا الله ونعم الوكيل[5].
نستلهم هذه الآثار الجليلة لقولنا حسبنا الله ونعم الوكيل فيما نواجهه في حياتنا من صعوبات وأزمات مهما كانت كبيرة وضخمة فإن الله تعالى أكبر منها قال أبو شامة المقدسي:
قلتُ لمن قال: أما تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيمٌ جليلْيُقيّض الله تعالى لنا من يأخُذُ ... الحقّ، ويشفي الغليلإذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونِعْمَ الوكيلْ[6]
ومن الموقنين بآثار حسبنا الله ونعم الوكيل الْفَقِيه الزَّاهِد العابد الْحسن بن صَالح الْحداد الثابتي الصنعاني، وذلك أن رجلا من أهل الشَّرّ قد كمن له فى اللَّيْل بِجَامِع صنعاء وَلَيْسَ فِيهِ أحد من النَّاس فَقَامَ الرجل يشهر السِّلَاح فَقَالَ صَاحب التَّرْجَمَة حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل واستسلم فَسقط ذَلِك الرجل مغشيا عَلَيْهِ[7]. لم يسقط السيف من يد المعتدي إلا بقوة يقين القائل.
حسبنا الله ونعم الوكيل علاج لمخاوف شتى عَنْ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا , قَالَ: عَجِبْتُ مِمَّنْ يُبْتَلَى بِأَرْبَعٍ، كَيْفَ يَغْفُلُ عَنْ أَرْبَعٍ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُبْتَلَى بِالْهَمِّ كَيْفَ لَا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]
وَعَجِبْتُ لِمَنْ خَافَ شَيْئًا مِنَ السُّوءِ كَيْفَ لَا يَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]
وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَخَافُ مَكْرَ النَّاسِ كَيْفَ لَا يَقُولُ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45]
وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَرْغَبُ فِي الْجَنَّةِ كَيْفَ لَا يَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف: 40][8].
قال شداد بن أوس: حسبي الله ونعم الوكيل أَمَانُ كُلِّ خَائِفٍ[9]. تحيط بالإنسان العديد من الأخطار وتصيبه عشرات المخاوف لابد أن يحتمي بالسميع البصير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور لابد أن يحتمي بمن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، ولابد أن يحصل على سلام نفسي يمكنه من الطمأنينة في حياته، فلا يهلكه الفزع والخوف مما حوله وممن حوله، ولا شيء كقولنا حسبنا الله ونعم الوكيل يوفر للمسلم الحصانة النفسية والانطلاق في جوانب الحياة بخطى ثابتة واثقة تبصر الواقع وتستشرف المستقبل، نقول حسبنا الله ونعم الوكيل بألسنتنا وقلوبنا وعقولنا حين نفكر أو ندبر وحين نخشى من ذوي البأس.
[1] الطبقات الكبرى بتصرف
[2] طبقات المفسرين للأدنه وي بتصرف
[3] تاريخ دمشق لابن عساكر
[4] البدء والتاريخ
[5] الطبقات الكبرى
[6] تاريخ الإسلام للإمام الذهبي
[7] الملحق التابع للبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع
[8] تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي
[9] سير أعلام النبلاء